التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات يمثل إدانة صريحة للسياسات الحكومية في مختلف القطاعات، لأنه يكشف عن حقائق يكتسي كثير منها صبغة الخطورة البالغة، التي تستوجب المساءلة القانونية والقضائية.
ولعل هذه القناعة هي التي فرضت على الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بمجلس النواب، طلب إدراج هذه الوثيقة الهامة ضمن أشغال كثير من اللجان النيابية المختصة، للتداول في شأن مضامين التقرير، وبحث سبل معالجة الاختلالات الكبيرة والكثيرة التي كشف عنها.
التقرير وضع سياسة الحكومة، فيما يتعلق بالحكامة، موضع تساؤل حقيقي، حول مصداقية الحكومة في تفعيل هذا المبدأ الهام والكبير، إذ رغم الخطابات التي أثقلت بها الحكومة مسامعنا، ورغم وجود وزارة يقال إنها مكلفة بهذه القضية الكبيرة، إلا أن تقرير مؤسسة رقابية دستورية يكشف بالدلائل والحقائق والمعطيات، أن الحكومة ليست معنية بمبدإ الحكامة، بل إنها الجهة الأولى، التي تقترف ممارسات فظيعة وخطيرة تخل بالحكامة، فكثير من الصفقات التي يشرف عليها وزراء شابتها اختلالات كبيرة ترتبت عنها شبهات حقيقية، ومسار الصفقات لا يتم احترامه، وأسعار الاقتناء مبالغ فيها بشكل رهيب تكاد تضاعف الأسعار الحقيقية عشر مرات في بعض الحالات، كما أن السلطات الحكومية قدمت استقالتها من القيام بواجبها في مراقبة جودة المواد الغذائية والحرص على السلامة الغذائية للمواطنين والمواطنات، وفسحت المجال للفوضى والعبث بحياة المواطنات والمواطنين من خلال ممارسات خطيرة جدا، وبذلك فإن مبدأ الحكامة يمرغ في الأوحال، وتتسبب الحكومة بتخليها عن القيام بدورها في اختلالات كبيرة وفي هدر فظيع للإمكانيات وللموارد المالية، وتلحق أضرارا بليغة بمصالح المواطنين وتهدد حياتهم.
ليس مبدأ الحكامة، الذي وجد نفسه في ورطة من خلال التقرير، بل إن هذه الوثيقة عرت كثيرا المبادئ التي مثلت تعاقدا بين الحكومة والبرلمان من خلال تضمينها كأولويات في البرنامج الحكومي الذي حازت الحكومة على أساسه ثقة مجلس النواب، بل أيضا إن مبادئ أخرى رئيسية ومركزية لاقت نفس المصير، إذ يصعب على المغاربة أن يصدقوا بعد اليوم، حديث الحكومة على ترشيد النفقات، وهي الحكومة التي تضخم الفواتير وتطلق أيادي مسؤوليها في التصرف بأريحية كبيرة في الميزانيات المرصودة.
كما سيكون صعبا أيضا تصديق إعمال مبدإ المحاسبة في تدبير الشؤون العامة في بلادنا، خصوصا ما يتعلق بالتصرف في الموارد المالية المتاحة، والتي تعتبر ضعيفة وضئيلة، لأن مؤسسة رقابية دستورية أكدت أن الاختلالات موجودة، لكن لا من يحرك ساكنا، وسيكون من الصعب أيضا بعد اليوم، التصديق بأن مؤسسات الرقابة الإدارية تقوم بأدوارها المنوطة بها أحسن قيام، بما يحفظ ويحمي مصالح المجتمع، والقصد هنا هي المفتشيات العامة الكثيرة، والتي توجد في كل وزارة من الوزارات، والقصد هنا أيضا المفتشية العامة للمالية، وهي أجهزة خصصت لها ميزانيات ويشتغل بها عدد كبير من الموظفين، لكن رغم كل هذه الترسانة فإن الأمور ليست على ما يرام، فيما يتعلق بالتصرف في المال العام و في حماية حياة الناس، والدليل أن وزارات اقتنت مشتريات بأثمان تكاد تكون خيالية، وأخرى تعرف اختلالات كبيرة وعميقة.
الصمت الذي تعاملت به الحكومة مع تقرير المجلس الأعلى للحسابات، كعادتها، يزيد من تعميق الشعور بالقلق على مصير تدبير الشؤون العامة في بلادنا، وهو صمت يؤشر على أن الحكومة لم تستوعب خطورة الوضع، وأنها لم تكترث لحجم الاختلالات، وهذا هو أخطرما في الأمر، وأنها تميز بين الشعارات التي يجب أن تكون كبيرة ورنانة وجذابة، وبين الحرص على إعمال هذه المبادئ في أرض الواقع.
لو كان الأمر يتعلق بحكومة مسؤولة وتعي حجم مسؤوليتها لوضعت أوراقها وسلمت المفاتيح، لأن ما جاء به تقرير المجلس الأعلى للحسابات لا يمكن تقدير حجم خطورته، ولكنها حكومة من نوع خاص جدا، وهي اليوم منشغلة عن كل القضايا المصيرية بمشاورات عقيمة يحاول من خلالها كل طرف فيها الحفاظ على غنيمته، وهي رهينة انتظارية رهيبة رهنت البلاد والعباد. العلم