قدم الأستاذ النقيب عبد السلام البقوي رئيس جمعية هيآت المحامين بالمغرب عرضا تحت عنوان: «إصلاح القضاء من خلال أدبيات جمعية هيآت المحامين بالمغرب» في الندوة الربيعية التي نظمتها هيئة المحامين بالقنيطرة يوم 19 يونيو 2009، والتي تغيبت عن حضورها وزارة العدل بعد تأكيد حضورها كما هو الشأن بالنسبة لودادية القضاة. وفيما يلي نص مداخلة النقيب البقيوي: لابد أن نسجل في البداية التأكيد على أهمية إصلاح القضاء واستراتيجيته في تعميق دينامية تأهيل المغرب ليواكب التغيرات النوعية الحاصلة في بنيته الداخلية و على أطرافه ومحيطه الدولي، كما أنه لابد من التأكيد على أن اصلاح القضاء لم يعد مطلبا مجتمعيا أو تنظيرا فكريا بقدرما هو ضرورة ملحة لإسعاف المغرب في الانتقال الى مرحلة نوعية جديدة قوامها إشاعة قيم الحرية و العدالة والتسامح والانتاج المادي والمعرفي ومراكمة الثقافة الديموقراطية. إن ملف إصلاح القضاء بصفة خاصة والعدالة بصفة عامة قد تصدر انشغالات الدولة والفاعلين الحقوقيين والسياسيين وظل إصلاحه على صعيد الممارسة غائبا ولم يتم تفعليه على أرض الواقع لعدة أسباب وفي غالبيتها أسباب سياسية، لأنه أمام انعدام الإرادة السياسية الحقيقية في إصلاح القضاء سيبقى هذا الأخير مجرد شعار، وبالتالي فإن أمر الإصلاح ليس موكولا لمنتج السياسة العامة القضائية فحسب، بل لابد من الحوار و المشاورات والتوافق وإشراك الجمعيات المهنية والحقوقية بصفة خاصة في تعميق النقاش بغية صياغة استراتيجية واصحة ومتماسكة وفعالة لنقل ملف إصلاح القضاء من درجة المطالبة والطموح الى واقع يلمس المتقاضون نتائجه ويطمئن المشتغلون في حقله الى ضمانات وآليات حمايتهم، ولن يتأتى ذلك إلا بتأهيله القادر على تعزيز استقلاليته وجعله مؤسسة متكاملة وليس مرفق إداري على اعتبار أن القضاء لايروم إصدار الأحكام فحسب بل مطالب بإشاعة قيم العدالة في موسسات الدولة ونسيج المجتمع. إن موضوع إصلاح القضاء أصبح موضوع الساعة ونتمنى أن لايكون «موضة الساعة، فالجميع يسجل بأسف شديد ما آلت إليه أوضاع القضاء ببلادنا إذى أكدنا في جمعية هيآت المحامين بالمغرب في أكثر من مناسبة وعلى مر مايقرب من خمسة عقود من الزمن منذ تأسيس الجمعية وفي جميع ندواتها الوطنية والجهوية ومؤتمراتها، على أن إصلاح القضاء ليس شعارا يرفع في كل مناسبة أو بدونها، وتحقيقه لن يكون في اعتقدانا بمجرد عقد ندوات أو بتفتيش المحاكم أو بتسليط سيف الرنتداب أو حتى بعصرنته. إن إصلاح القضاء في أدبيات جمعيتنا هو مصالحته مع محيطه، وذلك كما قلنا مرارا ونؤكده مرة أخرى، وسنظل نؤكده، رهين بارادة وقرار سياسيين يفتحان المجال أمامه ليكون سلطة حقيقية تتبوأ الصدارة وليس مجرد جهاز التصريف وإدارة المشاكل اليومية، سلطة بكل مقوماتها الدستورية والقانونية والإدارية و المادية، وبكل الاستقلال الفعلي عن باقي السلط، وعن كل تأثير إداري أو مالي أو غيره. والقضاء المستقل هو الذي يدير فيه أهل شؤونهم بأنفسهم، في استقلال و تجرد ونزاهة وضمير من خلال أجهزتهم المستقلة والمنتخبة من طرفهم انتخابا حرا نزيها في إطار الاستقلال الفعلي عن باقي السلط. إن وجود سلطة قضائية مستقلة ونزيهة ودفاع ومستقل ونزيه ليس مجرد ضرورة يستوجبها إحقاق الحق ورفع الظلم وحماية الحقوق والحريات العامة منها والخاصة وغيرها من المهام التقليدية للسلطة القضائية، بل أصبح في الوقت الراهن أمرا حتميا لامحيد عنه لتحقيق شروط التنمية الشاملة والمستدامة، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، فالرأسمال بطبعه يستحضر أول ما يستحضر من عناصر اتخاذ قراره في الاقبال على مبادراته، شكل ومضمون النظام القضائي في البلد المعني ومدى استقلاله ونزاهته وسرعته وكفاءته مستعينا في ذلك بتقارير المنظمات والهيآت الدولية والوطنية المعنية والتي لاتسعف بلدنا في الوقت الراهن بالشيء الكثير. وأكدت جمعيتنا منذ تأسيسها بأن إصلاح القضاء شأن وطني لايمكن النهوض به إلا بتكاثف وتكامل جهود جميع أعضاء اسرة العدالة، وأن أبرز مظاهر الاختلال يرتبط عضويا بالنظام الدستوري والسياسي ويتمثل خاصة في ضرورة الحسم نصا وعملا في مبدأ فصل السلط على قاعدة تقرير أن القضاء سلطة قائمة الذات ومستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. كما سجلت جمعيتنا في عدة محطات بأنه لايمكن النهوض بالقضاء وإصلاحه أمام الضعف المهول للموارد البشرية والمادية واللوجيستيكية وهزالة الاعتمادات المالية المرصودة للقضاء في الميزانية العامة للدولة مما ينعكس سلبا على الأداء القضائي. وقد خلصت أدبيات جمعيتنا إلى وجود الإقرار الصريح والشجاع بفشل مجمل سياسات الاصلاح القضائي المتعاقبة منذ عقود وأن استهلاك خطابات واهمية عن الإصلاح القضائي مفصولة عن واقع القضاء كسلطة وكمؤسسة وكوسائل وكصرح استراتيجي في البناء الديموقراطي وفي إعادة بناء الدولة وفي التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة هو مجرد اهدار للوقت والجهد، وبالتالي فانه يتعين وجود التدارك المستعجل والشامل لاختلالات الشأن القضائي. باستحضار كافة التوصيات والخلاصات والقرارات المنبثقة عن مختلف التظاهرات والندوات المهنية والثقافية ذات الصلة وخاصة الندوة التي انعقدت بمدينة مراكش بتاريخ 21 مارس 2008 حول موضوع «آليات إصلاح القضاء»، والتوصيات والمقررات الصادرة عن المؤتمر العام السادس والعشرون لجمعيتنا المنعقد في ضيافة هيئة طنجة أيام 15 و 16 و 17 ماي 2008، فإن أي إصلاح قضائي حقيقي يستلزم ما يستلزمه في حده الأدنى: أولا: لابد من رسم استراتيجية محكمة وعميقة لإصلاح القضاء بكل مكوناته كما يستلزم مغرب الألفية الثالثة ومتطلبات العصر. ثانيا: خلق ورش وطني لإصلاح القضاء مع التأكيد على إشراك كل الفاعلين من المجتمع المدني وأهل الاختصاص لوضع ميثاق وطني حقيقي من أجل قضاء مغرب الغد. ثالثا: المراجعة الجذرية لمجمل البنيات القانونية المؤطرة لحقل العدالة وأسرة القضاء. رابعا: التأصيل الدستوري للقضاء بوصفه سلطة مستقلة قائمة الذات مع ما يستتبع ذلك بطبيعة الحال من تعديلات لمجمل المنظومة التشريعية ذات الصلة. خامسا: إعادة النظر بصفة جذرية في مؤسسة المجلس الأعلى بدءا من التأصيل الدستوري لها بوصفها مؤسسة مستقلة وظيفيا وماديا إلى إعادة النظر في تكوينها وإلى أنماط التمثيلية داخلها وما يمكن أن يحدث بموازاتها من هيئات استشارية تضم أعضاء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والإستقامة. سادسا: المراجعة الجذرية للنظام الأساسي لرجال القضاء بما يكفل لهم ضمانات في حياتهم المهنية والخاصة ماديا ومعنويا ورمزيا وبما يدعم كرامة القاضي وعزته ويكفل هيبة القضاء. سابعا: جعل مؤسسة التفتيش جهازا تابعا للمجلس الأعلى للقضاء مهمتها ضبط الإخلالات ومراقبة مستوى الأحكام. ثامنا: إعادة هيكلة وتنظيم ومراجعة وزارة العدل لتناط بها وظيفة الإدارة القضائية وتدبير مختلف الموارد البشرية والمادية والتقنية لسير الجهاز القضائي. تاسعا: مراجعة التنظيم القضائي للمملكة بما يتلاءم ومتطلبات الإصلاح ومستجداته والحذف الفوري لقضاء الجماعات والمقاطعات. عاشرا: توفير الآليات والميكانيزمات لمناهضة وزجر كل أشغال الفساد والإفساد داخل أسرة العدالة بمختلف مكوناتها ومناهضة وزجر كل أشكال التدخل والتأثير في الشأن القضائي والمس باستقلاله والتخلي عن هاجس الإنتاج الكمي للأحكام والقرارات على حساب الكيفي. وقد أكدنا ولازلنا نؤكد بأنه إذا استمر الوضع على هذا الحال فإن القضاء بأجهزته سيبقى آلة ضعيفة منفذة وليس آلة قوية مقررة. وفي اعتقادنا آن الأوان لمراجعة جذرية شاملة لشأن القضاء، وأننا في جمعية هيئات المحامين بالمغرب قد برأنا ذمتنا من خلال مؤتمراتنا وندواتنا الوطنية وقلنا رأينا في إطار من المكاشفة الصريحة والموضوعية، وبالنقد والنقد الذاتي المسؤول بما يرد للقضاء بكل مكوناته اعتباره ويحقق له هيبته واستقلاله ومصالحته مع نفسه ومحيطه. صحيح أن إصلاحا بمثل هذا الحجم بحاجة إلى شروط ذاتية وأخرى موضوعية، وبحاجة إلى عزائم وإرادات وإمكانيات، لكن بالعزائم القوية والإرادات الحسنة والصبر الجميل تتحول الأحلام إلى واقع معاش.