العالم يتأرجح على حافة هاوية أزمة اقتصادية خطيرة.. التدفق العكسي لرأس المال من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية * بقلم// عمر نجيب يمر العالم بفترة إضطراب سياسي وإقتصادي شديدة مع إقتراب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين من نهايته، فمن جهة تتصاعد حدة الصراعات المسلحة أو التهديد بها في العديد من مناطق العالم التي تصنف على أنها مركزية وأساسية في التنافس بين القوى الرئيسية العالمية التي تتنازع حول بناء نظام دولي يختلف عن ذلك الذي فرضته الولاياتالمتحدة إبتداء من سنة 1991 مع إنهيار الإتحاد السوفيتي، ومن جهة أخرى يسير الإقتصاد العالمي على ما يصفه بعض المحللين بشفرة سكين على حافة هوة تهدد بأزمة إقتصادية وإنسانية غير مسبوقة في خطورتها. ولكن لماذا الأزمة؟. بحسب البعض لأن الدول الغربية عموما وأمريكا على نحو خاص تأكل أكثر مما تصنع، دون أن تستطيع المحافظة على نسب النمو السابقة، ولم تعد قادرة على مواجهة الإسراف الذي عودت عليه شعوبها، وتلجأ أكثر فأكثر لممارسة سياسة سلب ممنهجة لخيرات الآخرين، في حين يأكل الآخرون أقل مما يصنعون وأقل مما يبيعون للعالم. هناك من يعترض على هذه التوقعات المتشائمة ويقدر أن توازن القوى العسكرية في مناطق النزاع الرئيسية يضع حدودا لإمكانيات توسع الصدامات، كما أن الإقتصاد العالمي وإن كان يعاني من مشاكل عديدة وعدم توازن خاصة بين الدول الصناعية الغنية ودول العالم الثالث فإن هناك قوى تسعى لمنع وقوع أزمة خانقة وإن كان ذلك لا يحول دون المرور بمراحل عاصفة مثل الأزمة العالمية لسنة 2008. هل هي النهاية ؟ خلال شهر أغسطس 2016 نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية تحليلا تحت عنوان: أزمة الرأسمالية.. هل هي النهاية؟، يستعرض فيه المحلل الإقتصادي البريطاني مارك بلايث سيرة الرأسمالية من خلال ثلاثة كتب نشرت حديثا، تلقي الضوء على ماضي الرأسمالية، وحاضرها ومستقبلها جاء فيه: الصراع بين الديمقراطية والرأسمالية صراع طويل الأمد. في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، قيدت الديمقراطية اقتصاد السوق بقوانين حماية العمالة، وأنظمة الرفاهية. لكن في السبعينات، مع عولمة الرأسمالية وتحررها من القيود القومية، استطاعت الرأسمالية التحرك بحرية أكبر. ولا يمكن اليوم إنكار النفوذ الطاغي للرأسماليين على الحكومات الديمقراطية، وقدرتهم على تغيير قوانينها والضغط عليها. لكن هذه السيطرة الرأسمالية على مجريات تستفز حراك الأغلبية ممن تقلصت أو ثبتت دخولهم الحقيقية عند سقف معين لوقت طويل، ولم تعد الزيادات الضئيلة في الرواتب تكفيهم. يلجأ المواطنون الذين ألحقت بهم اقتصاديات السوق النصيب الأكبر من الضرر إلى الحكومات وهو ما نتج عنه صعود الحركات والأحزاب الشعبوية في أوروبا، والسياسيين أمثال دونالد ترامب وبيرني ساندرز. صعود الرأسمالية يروي المؤرخ الألماني “يورجن كوكا” قصة الرأسمالية في كتابه “الرأسمالية: تاريخ قصير”. يرى “كوكا” أن الرأسمالية مفهوم أساسي من أجل فهم الحداثة، والأهم أنّها مجموعة من المؤسسات التي تحمي حقوق الملكية ورأس المال، وتشجع على تقسيم الموارد من خلال الأسواق، وهي أيضا مجموعة من المباديء والأفكار. يقول بلايث أن تعريف “كوكا” المطرد للرأسمالية مكنه من رؤية صورها الأولية، التي نشأت في أوساط تجار بلاد ما بين النهرين، شرقي المتوسط، وعلى طول طريق الحرير بقارة آسيا. وبحلول القرن الحادي عشر، بدأ ظهور البرجوازية الرأسمالية، في شبه الجزيرة العربية والصين، ثم في أوروبا لاحقا. أنشأ التجار مؤسسات تعاونية أدت إلى تقسيم أكبر للمخاطر. وهو ما أدى، وفقا ل”كوكا”، إلى تكوين “مشاريع لها شخصياتها القانونية المستقلة”، بالإضافة إلى أسواق رأسمالية بدائية، وأخيرا، البنوك التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالدولة الحديثة، عن طريق إدارة الديون. هنا بدأ عصر الاستعمار، إذ إتجه التجار ورواد المشاريع والغزاة، مدعومين من الحكومات، إلى دفع التوسع الأوروبي، الذي قام على التجارة الثلاثية: يجلب التجار الأوروبيون البضائع الجاهزة إلى إفريقيا، ويقايضونها بالعبيد، ثم يشحنون العبيد إلى قارات العالم الجديد، ليعملوا في حقول السكر والقطن المملوكة لأوروبا. هذه العملية ساهمت في ترسيخ الرأسمالية في أوروبا أكثر منها في الشرق الأوسط والصين، إذ أدى الحجم المهول للاستثمارات المطلوبة إلى إنشاء الشركات المساهمة، وبداية عصر “الرأسمالية المالية”، وافتتاح أسواق تداول الأوراق المالية في أنتويرب وأمستردام. ومع أن الارباح التي تنعم بها الرأسماليون الأوروبيون جاءت من سياسيات معادية لليبرالية، فإن الرأسمالية وضعت أساسات الديمقراطية، نظرا للثروات الطائلة التي تولدت من ورائها، والاحتماليات التي ولدتها مؤسساتها الجديدة، وهو ما أدى إلى تطور التصنيع في القرن التاسع عشر، إلى الرأسمالية الإدارية، في القرن العشرين. “أمولة” الاقتصاد في سردية “كوكا”، تمضي الرأسمالية قدما بشكل طبيعي، وكل مرحلة تولد تاليتها. لكن السير تحول فجأة إلى الاتجاه الخاطئ في وقت قريب من عام 1980. بدأت الحصة الأكبر من أرباح الشركات تأتي من القطاع المالي والبنوك بدلا من الاستثمارات الحقيقية، عملية تعرف ب”الأمولة”. الأنظمة المالية الحديثة تتكون، طبقا لكوكا، من صناديق مالية أشبه بال”جراد”، تتغذى على الشركات بدون مساهمة حقيقية في الاقتصاد. تزامن هذا مع فشل الحكومات، منذ ثمانينيات القرن الماضي، في كبح تصاعد الاستهلاك غير المسبوق، ما أدى إلى نمو هائل في الدين العام والخاص في العالم المتقدم، هذا الدين الذي يمثل للرأسمالية “مصدرا دائما لعدم الاستقرار”. يجادل “بلايث” بأن كوكا لم يفسر هذا التحول غير الطبيعي من وجهة نظره في مسار تطور الرأسمالية. ويرى أن الرأسمالية غير المنتجة الحالية لا تختلف كثيرا عن الأشكال السابقة التي يعتبرها كوكا منتجة. ففي بداية الأزمة المالية عام 2007، لم يكن السبب “صناديق الجراد”، بل بنوكا تنموية تقليدية. ربما لم تكن “الأمولة” انحرافا عن الرأسمالية، وإنما ببساطة المرحلة التالية في مسار تطورها الطبيعي. يتسق هذا مع الرؤية التي يعرضها عالم الاجتماع الألماني “فولغانغ ستريك” في كتابه، “كسب الوقت”. فالتطور المعيب الحالي للرأسمالية ليس تشوها، وإنما نتاج مباشر للتزاوج بين الديمقراطية والرأسمالية، ما بعد الحرب العالمية. يركز “ستريك” على رؤية عالم الاقتصاد البولندي “مايكل كاليكي”، الذي نشر مقالا في 1943 تنبأ فيه بالاضطراب الاقتصادي في السبعينات. جادل “مايكل” بأن التوظيف الشامل سيمكن العمال من التنقل بحرية من وظيفة إلى أخرى، وهو ما سيعطيهم أفضلية تسمح لهم بالضغط على أصحاب العمل لرفع الأجور بغض النظر عن مستويات الإنتاج، وبالتالي ستضطر الشركات إلى رفع الأسعار. سينتج عن هذا دائرة شيطانية من التضخم تلتهم الأرباح وتقلل الدخل الحقيقي، وتزيد الاضطرابات العمالية. في مواجهة هذا، سيلجأ الرأسماليون إلى التمرد على نظام التوظيف الشامل، وخلق نظام هدفه الرئيسي ضبط الأسواق والأسعار بغض النظر عن نسب البطالة. من الضرائب إلى الديون وفقا للتقرير، تحققت نبوءات “كاليكي” بشكل مذهل، بحلول السبعينات. تحركت الحكومات المحافظة لإضعاف القوة العمالية وتفكيك القوانين التي تصب في صالحها، وضغطت المؤسسات المختلفة على الحكومات لتقليص الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة، وهو ما أدى إلى اتساع العجز في الموازنة. الآن وقد زالت العوائق أمام نمو الصناعة المالية، ولجوء المستثمرين إليها، أصبح بإمكان الحكومات سد عجز الموازنة ورفع الإنفاق، بلا حاجة إلى زيادة الضرائب. لكن هذا التحول من الضرائب إلى الديون كان له عواقبه السياسية الوخيمة، وفقا للتقرير. فالزيادة المطردة في الدين الحكومي سمحت للرأسماليين بالتغول على رغبات الشعوب في كل مكان، وذلك عن طريق رفع فائدة الديون الجديدة عند استبدالها بالقديمة، وسيلة فعالة للاعتراض على أي سياسات لا تتماشى مع رغباتهم. بل يمكن للمستثمرين اللجوء إلى المحكمة في حالة الامتناع عن السداد، كما حدث مع الأرجنتين، أو في حال تصويت المواطنين ضد مصالح الدائنين، كما حدث مع اليونان. التحول من الضرائب إلى الديون أكسب الرأسمالية بعض الوقت، مستعيدا الأرباح ومروضا التضخم، وبدا وكأنه يحقق الرخاء للجميع. لكن هذا كان وهما، فالأرابح الضخمة المتولدة ذهب القسط الأكبر منها إلى الأغنياء. في الولايات المتّحدة، تضاعف نصيب الواحدة بالمائة الأغنى من الدخل القومي في العقود الثلاث الأخيرة، بينما بقيت أجور 60 في المئة ثابتة. هذا الوهم حطمته الأزمة المالية في 2008. وفقا للتقرير، انفجر الدين العام إذ تدخلت الحكومات لإنقاذ المؤسسات المالية، ولم تجدي إجراءات التقشف التي حاولت تقليص هذا الدين إلا في مضاعفة خسائر أغلبية المواطنين. وتستمر سيادة رأس المال على الديمقراطية، في إيطاليا واليونان وغيرها من البلاد. “ستريك” يرى اذن أن تصاعد الانفاق العام ليس هو المشكلة الكبرى، على عكس ما يعتقده “كوكا”، وإنما المشكلة في انخفاض عوائد الضرائب، وتدخلات الانقاذ التي رفعت الدين العام إلى أعلى مستوياته. نهاية الرأسمالية أما الصحفي البريطاني “بول ميسون”، فيرى في كتابه “ما بعد الرأسمالية”، أن الوضع الحالي يمثل آخر مراحل الرأسمالية، التي يعتبرها “نظام معقد متكيف، وصل إلى أقصى حدود قدرته على التكيف”. بدأ الأمر في الثمانينيات، عندما استولت النيوليبرالية على الرأسمالية، فالنيوليبرالية لا تعرف حدودا لتسليع العالم، وفقا للتقرير. يقتبس “ميسون” عن “نيكولاي كوندراتييف”، عالم الاقتصاد السوفييتي الذي اغتيل في سنة 1938. وفقا ل”كوندراتييف”، فالرأسمالية تدور في دورات كل منها مدتها 50 عاما. في أسفل الدورة، تتوقف نماذج الأعمال والتكنولوجيات القديمة عن العمل، ويتوجب الدفع بتكنولوجيات جديدة لفتح الأسواق، لتدور الدائرة مرة أخرى، وهو ما يذكر بمبدأ “التدمير الخلاق”، للاقتصادي جوزيف شومبيتر. يتتبع “ميسون” الدورات المتعاقبة: التحسن الاقتصادي مع تطويع طاقة البخار، مرورا بالكساد في عشرينيات القرن التاسع عشر، وانتهاء بالثورات التي جعلت من برجوازيي أوروبا جزءا من التاريخ. ثم انتشار السكك الحديدية والتلغراف وعمليات الشحن، ليرتفع الاقتصاد مرة أخرى، ويأتي كساد آخر في سبعينيات القرن التاسع عشر. ثم جاءت الكهرباء لتغذي صعودا آخر، ثم أتى الكساد العظيم، ومن بعده الحرب العالمية الثانية. بعدها جاءت الفتوحات الإلكترونية والتصنيعية، والانتصار العمالي النسبي لتبدأ دورة رابعة. لكن هذه الدورة لم تنته بكساد عظيم. لماذا لم يأت الكساد العظيم هذه المرة؟ إن تجاهلنا الركود الاقتصادي في 2008، يمكن تقسيم أسباب تأخر حدوث الكساد في هذه الدورة من دورات الرأسمالية، كما يراها “ميسون” إلى أسباب تقليدية وأخرى مفاجئة. التقليدية تتمثل في الآتي: أولا، استبدال الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الغطاء الورقي بالغطاء الذهبي في 1971، وهو ما أزال الكثير من العوائق أمام سد عجز الموازنة، والتي كان الغطاء الذهبي يفرضها. ثانيًا، أمولة اقتصاد الدول المتقدمة، وهو ما أخفى حقيقة جمود الدخول، إذ استبدل بزيادات الأجور نظام الائتمان. ثالثا، دخول الدول الآسيوية إلى ساحة الإنتاج مكن الولايات المتّحدة من الاستمرار في رفع معدلات الإنتاج. وأخيرا، التقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات قوى رأس المال وأضعف القوى العاملة، وساهم في نشر الممارسات النيوليبرالية في أنحاء العالم. هذه الأسباب مألوفة ولا جديد فيها، لكن الجزء غير التقليدي من تفسير “ميسون” يشرح كيف استطاعت النيوليبرالية بنجاح الحفاظ على حصة الرأسماليين من المكاسب. يستعير “ميسون” من ماركس وكاليكي فكرة أن الأرباح المتوسطة في أي سوق ستنخفض بسبب التنافسية من جهة وتدفق رأس المال إلى الأسواق الجديدة من جهة أخرى، وهو ما سيقلل عوائد الاستثمار. وهذا يدفع الرأسماليين إلى إجبار العمال على زيادة العمل، وتسريع محاولاتهم لاستبدال العمال بالآلات. في الماضي كانت هذه المحاولات لاستعادة الأرباح تفشل، لأن العمال كانوا يجدون طريقهم إلى المقاومة، مثل الاتحادات العمالية وأنظمة الرفاهية، وكان الرأسماليون مجبرين على قبول هذا، والعمل على زيادة إنتاجية العمال، ليخرج الجميع رابحين. لكن النيوليبرالية أعطت الرأسماليين سلاحا ناجعا في مواجهة العمال. لم يعد بإمكان العمال المقاومة لأن رأس المال يمكنه أن يتحرك، ومعه الوظائف، من مكان إلى آخر بمنتهى السلاسة. إنها “هزيمة العمالة المنظمة، وصعود تكنولوجيا المعلومات واكتشاف قدرة القوى الكبرى على خلق المال من لا شيء لفترة طويلة”، هي التي أبعدت شبح الكساد عن الاقتصاد العالمي، وفقا ل”ميسون”. تأجيل المحتوم لكن كل هذا لم يفعل شيئا سوى تأجيل انهيار الرأسمالية المحتوم. كارل ماركس كان يرى أن العمالة المنظمة ستقف في وجه النظام وتسقطه، أما ميسون فيراهن على تكنولوجيا المعلومات التي ستدمره من الداخل. فالسلع الرقمية، مثل ملفات الموسيقى وغيرها، لا ينطبق عليها مبدأ العرض والطلب، ويمكن نسخها مجانا إلى ما لا نهاية. الحل الوحيد هو فرض احتكار حقوق الملكية، لهذا نرى شركتي آبل وسامسونغ تقاضيان بعضهما البعض طيلة الوقت، ولهذا تبقى الأدوية باهظة الثمن للغاية. يتفاءل “ميسون” بخصوص ما سيستبدل الدوافع الربحية، ويضرب مثلا بويكيبديا وبشركات الاقتصاد التشاركي مثل شركة أوبر. يصف ميسون الصراع الآن بين من يريدون الحفاظ على حقوق الملكية، ومن يريدون تدميرها بإسم الديمقراطية. هناك “تناقض في الرأسمالية الحديثة بين احتمالية توافر سلع ينتجها المجتمع، وبين نظام من الاحتكاريات والبنوك والحكومات التي تصارع من أجل الحفاظ على تحكمها في القوة والمعلومات”. ربما تنجح طبيعة الرأسمالية القادرة على التكيف في تخطي كل هذا. لكن الرصاصة القاتلة التي لن تستطيع على الأرجح تفاديها هي التغير المناخي. لا يمكن للعالم استهلاك 60 إلى 80 في المئة من مخزون الوقود الاحفوري المعروف بدون أن يتسبب هذا في احترار عالمي كارثي. لكن النظام الرأسمالي سيفعل هذا بالضبط. وكل الحلول السحرية التي هلل لها الرأسماليون لها قبلا، ومن ضمنها الهندسة الجيولوجية، لم تنجح في حل المشكلة. أضف إلى هذا ارتفاع المتوسط العمري في الدول المتقدمة، ومايين الشباب العاطلين فاقدي الوجهة في الدول النامية. غالبا ما يؤكد النيوليبراليون بسذاجة أن الرأسمالية ستجد تكنولوجيا إعجازية في اللحظة الأخيرة، لكن “ميسون” يراهن في إنقاذ العالم على التغييرات الصغيرة في هيكل حقوق الملكية. ربما لا يكون ذلك كافيا، وفقا للتقرير، لكن “ميسون” محق في تشبثه. الرأسمالية، في صورتها الحالية، وصلت إلى طريق مسدود. سرقة الدول الفقيرة الطبيعة غير الأخلاقية للرأسمالية المتوحشة خاصة التي يمثلها النظام الأمريكي في التعامل مع ما يسمى بالدول النامية وأحيانا بدول العالم الثالث تكشف عن بعض جوانبها صحيفة الغارديان البريطانية حيث نشرت بتاريخ 17 يناير 2017 تقريرا تحت عنوان: المساعدات بالعكس.. كيف تسرق الدول الغنية الدول الفقيرة؟. التقرير تناول طبيعة العلاقة المالية والاقتصادية بين الدول الغنية والدول الفقيرة، في ضوء بيانات جديدة مذهلة تغير من المفاهيم السائدة حول هذه العلاقة. يقول التقرير: لطالما حكيت لنا هذه القصة المقنعة عن العلاقة بين الدول الغنية والأخرى الفقيرة. تقول القصة إن الدول الغنية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تدفع بسخاء، من ثروتها إلى الدول الأفقر في الجنوب، من أجل مساعدتها على محو الفقر والارتقاء بها في سلم التنمية. نعم، ربما تكون القوى الغربية قد أغنت أنفسها، خلال الفترة الاستعمارية، عن طريق استغلال الموارد واسترقاق العمال من مستعمرات هذه القوى، لكن ذلك كله من الماضي. هذه الأيام، تدفع الدول الغربية ما تتجاوز قيمته 125 مليار دولار من المساعدات سنويا، هل ثمة دليل أكبر من هذا على حسن نيتها؟. وذكر التقرير إن هذه القصة واسعة الانتشار بسبب هيئات المساعدة وحكومات العالم الغني، إلى درجة أننا أصبحنا نعتبرها من البديهيات. لكن ربما لا تكون الأمور بهذه البساطة التي تبدو بها. نشرت منظمة النزاهة المالية العالمية، ومقرها الولاياتالمتحدة، ومركز الأبحاث التطبيقية بالمدرسة النرويجية للاقتصاد، مؤخرا، بعض البيانات المذهلة. فقد تتبعا كل الموارد المالية التي يتم تحويلها بين الدول الغنية، والفقيرة كل عام، ليس في هيئة مساعدات، واستثمار أجنبي وتدفقات تجارية فحسب كما فعلت دراسات سابقة، وإنما أيضا في التحويلات غير المالية مثل إلغاء الديون، والتحويلات التي لا مقابل لها، مثل تحويلات العاملين في الخارج، وهروب رؤوس الأموال غير المسجلة. ويعتبر هذا التقييم، بحسب التقرير، أشمل تقييم لتحويلات الموارد على الإطلاق. التدفق العكسي ما كشفت عنه البيانات أن تدفق الأموال من الدول الغنية إلى الفقيرة يتضاءل مقارنة بالتدفق العكسي من الدول الفقيرة إلى الغنية. فقد تلقت الدول النامية عام 2012، وهو آخر عام في البيانات المسجلة، ما قيمته 1.3 تريليون دولار أي 1300 مليار دولار، تشمل كل المساعدات، والاستثمار، والدخل الآتي من الخارج. لكن في العام ذاته تدفقت من هذه البلاد 3.3 تريليون دولار. بعبارة أخرى، أرسلت الدول النامية تريليوني دولار إضافية إلى العالم الغني أكثر مما تلقته منه. لو نظرنا إلى كل السنوات منذ عام 1980، فإن صافي هذه التدفقات يصل إلى رقم مذهل هو 16.3 تريليونا. هذه هي كمية الأموال التي استنزفت من دول الجنوب في العقود القليلة الماضية. من أجل تقريب ما يعنيه هذا الرقم، يكفي أن تعرف أن 16.3 تريليونا يساوي تقريبا الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. يعني هذا أن سردية التنمية تقلب الحقيقة، فالمساعدة تتدفق في اتجاه عكسي. الدول الفقيرة هي ما تطور الدول الغنية، لا العكس. مم تتكون هذه التدفقات المالية؟ حسنا، بعضها دفعات لتسديد الديون. إذ دفعت الدول النامية أكثر من 4.2 تريليون دولار في بند تسديد فوائد الديون وحده منذ عام 1980، تحويلات نقدية مباشرة إلى البنوك الكبيرة في نيويوركولندن، بمعدل تتضاءل بجانبه المساعدات التي تلقتها خلال الفترة ذاتها. أحد أكبر مصادر هذه التدفقات أيضا هو الدخل الذي يتلقاه الأجانب من استثماراتهم في الدول النامية ثم يحولونه إلى أوطانهم. فكر، مثلا، في كل الأرباح التي تستخرجها شركة النفط البريطانية “بي بي” من احتياطي النفط النيجيري، أو في ما تستخرجه شركة أنغلو أميريكان من مناجم الذهب في جنوب إفريقيا. لكن أكبر مصادر التدفقات، بلا منازع، هو رؤوس الأموال الهاربة، غير المسجلة، والتي عادة ما تكون غير قانونية. فقد أحصت منظمة النزاهة المالية العالمية أن الدول النامية فقدت ما مجموعه 13.4 تريليون دولار من خلال هروب رؤوس الأموال غير المسجلة منذ 1980. مسؤولية نظام التجارة العالمي وأفاد التقرير إن معظم هذه التدفقات المالية غير المسجلة تحدث من خلال نظام التجارة العالمي. الذي يحدث عادة أن الشركات، الأجنبية والمحلية على حد سواء، تبلغ عن أسعار مزيفة في فواتيرها التجارية من أجل تهريب الأموال خارج الدول النامية مباشرة إلى الملاذات الضريبية والنطاقات القضائية السرية في ممارسة تعرف ب”تجارة الفواتير المزيفة”. عادة ما يكون الهدف من هذه الممارسة تجنب الضرائب، لكنها أحيانا ما تستخدم لغسيل الأموال أو التحايل على الضوابط المقيدة لرأس المال. خسرت الدول النامية، عام 2012، 700 مليار دولار بسبب تجارة الفواتير المزيفة، وهو رقم أكثر من أموال المساعدات التي تلقتها الدول النامية بخمسة أضعاف. وأضاف التقرير أن الشركات المتعددة الجنسيات تسرق أموالا هي الأخرى من الدول النامية من خلال “خدعة تزوير الفاتورة ذاتها”، فيحولون الأرباح بشكل غير مشروع بين الشركات التابعة لهم من خلال التزوير المتبادل لأسعار الفواتير التجارية على كلا الجانبين. فعلى سبيل المثال، قد يتهرب فرع للشركة في نيجيريا من الضرائب المحلية عن طريق تحويل المال إلى شركة فرعية متصلة به في جزر فيرجن البريطانية، حيث معدل الضرائب صفر، وحيث لا يمكن تتبع الأموال المسروقة. وذكر التقرير أن منظمة النزاهة المالية العالمية لم تشمل تزوير الفاتورة ذاتها في أرقامها المعلنة لأن من الصعب للغاية تتبع هذه الأموال، لكنهم قدروا إنها تصل إلى حوالي 700 مليار دولار أخرى سنويا. وهذه الأرقام تغطي فحسب السرقات التي وقعت من خلال التجارة في السلع. لو أضفنا السرقات التي وقعت من التجارة في الخدمة إلى هذا الخليط، سوف يصل صافي التدفقات إلى حوالي ثلاثة تريليونات دولار سنويا. هذا الرقم أكبر من ميزانية المساعدات ب24 مرة. بعبارة أخرى، مقابل كل دولار مساعدات تتلقاه الدول النامية، فإنها تخسر 24 دولارا. هذه التدفقات المالية تحرم الدول النامية من مصدر مهم للعائدات والتمويل اللازم للتنمية. واكتشف تقرير منظمة النزاهة المالية أن التدفقات النقدية المتزايدة قد سببت انخفاض معدلات النمو الاقتصادية في الدول النامية، وهي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن انهيار مستويات المعيشة. وتساءل التقرير: من يستحق اللوم على هذه الكارثة؟ بما أن رؤوس الأموال الهاربة تشكل جزءا ضخما من المشكلة، فيجمل بنا البدء بها. الشركات التي تكذب في فواتيرها ترتكب خطأً بالطبع: لكن السؤال هو كيف تهرب هذه الشركات من تبعات أفعالها بهذه السهولة؟ في الماضي، لم يكن مسؤولو الجمارك يتجاوزون أية معاملة تجارية تبدو مشبوهة، فكان من المحال تقريبا على أي شخص أن يغش. لكن منظمة التجارة العالمية تزعم أن هذه الصلاحيات أدت إلى انخفاض كفاءة المعاملات التجارية، وبدءا من عام 1994 فرض على موظفي الجمارك أن يقبلوا أسعار الفواتير على ظاهرها، باستثناء الظروف المريبة للغاية، مما جعل من الصعب عليهم إيقاف التدفقات النقدية غير المشروعة. ومع ذلك، فإن تهريب رأس المال غير المشروع سوف يكون محالا دون الملاذات الضريبية الآمنة. وعندما يتعلق الأمر بالملاذات الآمنة، فإن المذنبين لا يصعب تحديدهم: فهناك أكثر من 60 دولة في العالم، وغالبية هذه الدول تتحكم فيها حفنة من الدول الغربية. هناك ملاذات ضريبية آمنة في أوروبا مثل لوكسمبورغ وبلجيكا، وهناك ملاذات ضريبية أمريكية مثل ديلاوير ومانهاتن. لكن أكبر شبكة من الملاذات الضريبية تتمحور حول مدينة لندن، التي تتحكم في النطاقات القضائية السرية في كل أنحاء ملحقات التاج البريطاني وأقاليم ما وراء البحار البريطانية. بعبارة أخرى، فإن بعضا من أكثر البلاد التي تحب أن تروج لمساهماتها في المساعدات الأجنبية هي نفسها الدول التي تسهل عمليات السرقة الضخمة من الدول النامية. العدل وذكر التقرير إن سردية المساعدة هذه تبدو ساذجة قليلا عندما نأخذ هذه التدفقات العكسية في الحسبان، ويصبح من الواضح أن هذه المساعدات ليس لها من فائدة أكثر من إخفاء سوء توزيع الموارد حول العالم. تجعل هذه المساعدات الآخذين يبدون في مظهر المعطين، فتمنحهم نوعا من التفوق الأخلاقي في الوقت الذي تمنع فيه أولئك الذين يهتمون، حقيقة، بالفقر العالمي من فهم حقيقة عمل النظام. لا تحتاج الدول الفقيرة إلى صدقات، بل تحتاج إلى العدل. وبحسب التقرير، فليس من الصعوبة تحقيق هذا العدل. بإمكاننا شطب الديون الفائضة من الدول الفقيرة، فنسمح لهم بذلك بإنفاق أموالهم في التنمية بدلا من مستحقات الفوائد على القروض القديمة: بإمكاننا أن نغلق النطاقات القضائية السرية، وأن نفرض عقوبات على المصرفيين والمحاسبين الذين يسهلون التدفقات النقدية غير المشروعة، وبإمكاننا أن نفرض حدا ضريبيا أدنى على دخل الشركات للقضاء على ما يحفز هذه الشركات لتحويل أموالها سرا حول العالم. نحن نعرف كيفية إصلاح المشكلة، لكننا لو فعلنا ذلك فسوف نعارض مصالح البنوك والشركات القوية، ونستخلص فائدة مادية ضخمة من النظام القائم. والسؤال هو: هل لدينا الشجاعة لفعل ذلك؟. أكبر سرقة في التاريخ هيمنة العملة الأمريكية الدولار على المعاملات الإقتصادية الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أحد أسباب الأزمات المتتالية، خاصة بعد أن فقدت الورقة الخضراء التغطية الضامنة لها. اتفاقية بريتون وودز التي وقعت عام 1944 جعلت الدولار المعيار النقدي الدولي لكل عملات العالم، حيث تعهدت امريكا بأنها تمتلك غطاء من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات وتنص الاتفاقية على ما يلي: من يسلم أمريكا 35 دولار تسلمه أوقية ذهب أي انك اذا ذهبت الى البنك المركزي الامريكي بامكانك استبدال 35 دولار باوقية ذهب وان الولاياتالمتحدةالأمريكية تضمن لك ذلك، وحينها صار الدولار يسمى عملة صعبة، واكتسب ثقة دولية وذلك لاطمئنان الدول لوجود تغطيته له من الذهب وجمعت الدول في خزائنها أكبر قدر من الدولارات على أمل تحويله لقيمته من الذهب في أي وقت. واستمر الوضع على هذا الحال زمنا حتى خرج الرئيس نيكسون في سنة 1971 على العالم فجأة ليصدم الجميع، بأن الولاياتالمتحدة لن تسلم حاملي الدولار ما يقابله من ذهب وليكتشف العالم أن الولاياتالمتحدة كانت تطبع الدولارات بعيدا عن وجود غطاء من الذهب وأنها اشترت ثروات الشعوب وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبيا لها. أي أن الدولارات ببساطة عبارة عن أوراق تطبعها المطابع الأمريكية، ثم تحدد قيمة الورقة بالرقم الذي ستكتبه عليها فهي 10 أو 100 أو 500 دولار بينما الثلاث ورقات هي نفس القيمة والخامة ونفس الوهم، فقط اختلف الرقم المطبوع. عرض الخبير جيمس ريكاردز من خلال كتابه “موت النقود” الانهيار القادم للنظام النقدي العالمي توقعاته بامكانية ان ينهار النظام النقدي العالمي في السنوات المقبلة في ظل الاعتماد على الدولار الأمريكي كعملة رئيسية يعتمد عليها العالم في تعاملاته واحتياطياته نظرا للمخاطر التي تهدد تلك العملة على صعيد المنافسة العالمية أو معايير التجارة الدولية الجديدة أو على المستوى الداخلي من مشاكل مالية مرتبطة بالاقتصاد الأمريكي وذلك في إطار قراءة تاريخية للانهيارات التي تعرض لها النظام النقدي خلال القرن الماضي.
هل بات انهيار الدولار أمرا حتميا؟ لا يخفى على أحد أن جبال الديون الأمريكية لا تتوقف عن التضخم، وتهدد بالخروج عن نطاق السيطرة، ومما لا شك فيه، أنها باتت تمثل إشكالية بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة. لكن هل يمكن أن يؤدي هذا الاتجاه الذي تأخذه الديون في النهاية إلى انهيار الدولار الأمريكي؟، يعتقد الكثيرون أن انهيار الدولار قد ارتقى إلى مرتبة اليقين الرياضي، لاسيما أن الفترة الراهنة حبلى بالقرائن الكثيرة، التي تشير إلى سهولة طرح هذه الفئة من الآراء والاستنتاجات. وتقدم ورقة أكاديمية مغمورة، تم إعدادها من قبل رئيسي “مجلس الاحتياطي الفيدرالي” السابق، ألان غرينسبان وبابلو غويدوتي، إنذارا صارخا حول ما يمكن حدوثه في المستقبل القريب على المسرح العالمي، وعلى وجه التحديد في الجانب المتعلق بالديون السيادية. وتظهر القاعدة التي توصل إليها غرينسبان وغويدوتي ببساطة أن الاحتياطات الدولية ينبغي أن تكون على قدم المساواة مع الديون قصيرة الأجل، أو بعبارة أخرى يجب أن تكون نسبة الاحتياطات الدولية مساوية للديون قصيرة الأجل عند مستوى 1.0 على أقل تقدير، حتى تتمكن الاقتصادات من مقاومة الانسحاب قصير الأجل لرأس المال الأجنبي. وإذا قلت النسبة عن واحد، فإن هذه يعني أن العملة الوطنية قد أصبحت معرضة لخطر الانهيار. ووفق قاعدة الإدارة المالية الفعالة لغرينسبان وزميله، يمكن أن نستنتج أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تعاني الإفلاس بشكل فعلي، كما أن عملتها تواجه خطر الانهيار. عمر نجيب للتواصل مع الكاتب: