بتركيز روحاني عميق تحملنا أنغام الموسيقار عبد المجيد بقاس إلى مدارات التصالح مع الذات بأريحية فائقة ، فهو يعزف كما لو أنه يعالج ندوب النفس بحنكة حكيم ضالع في السخاء . ينحني على قيثارته، باستكانة العاشق، ويحرك أصابعه فوق الأوتار مثل طائر يسابق انهمار الماء على صفحة نهر نائم. ونتيجة لهذا الاحتكاك الناعم بين الأصابع والأوتار تنبعث من القيثارة ألحان هجهوجية عجيبة يمتزج فيها نغم الجاز بالإيقاعات الگناوية ، بحيث أننا إذا ما أغمضنا أعيننا لخيل إلينا أن بقاس يعزف على هجهوج حديث . وبهذا الابتداع الذكي يخترق العازف ومرافقوه حدود الانتماء إلى لون موسيقي بعينه ويمضون ، على امتداد زمن العرض ، في رحلة موسيقية يستحضرون خلالها شتى ألوان الإيقاعات والمقامات الموسيقية الأقرب إلى الحضرة الگناوية : من بلوز وجاز وسامبا وإيقاعات إفريقية أخرى. ومن مؤشرات الاجتذاب لدى عبد المجيد بقاس قدرته على" بناء "العرض نوتة بنوتة، فهو يبدأ عزفه مما يعرف في تقاليد الزن بنقطة " ما قبل الصفر " ، بمعنى أنه ينطلق من أصداء الصمت المطلق ، حيث يلتبس العزف بالتهيؤ . وهنا تتجلى ملامح الخشوع الروحاني في طقسه الموسيقي . وحين تنطلق معزوفاته في انسيابها ، المتصاعد في بطء ، يصير من الصعب على المستمع أن ينفك من أسرها ، فهو بقدر ما ينكفئ على ذاته في عزفه الجواني ، بقدر ما يستقدمنا طوعا إلى أجوائه ، ليمتزج انكفاؤه بانجذابنا في لحظة تشارك غير مشروط إلا بعذوبة الألحان واسترخاء المسامع. هكذا إذن يتاح للعازف والمعزوف لهم أن يتورطوا في حوار فني تشيد بموجبه الصور الإيقاعية وترتاح فيه النفس من ضوضاء اليومي ، وتقوم الموسيقى بدور مزدوج : التعبير والتنفيس. في الجانب الأول لا يتم اللجوء إلى أي كلام منطوق ، باستثناء بعض الغمغمات التي يفهم منها أن منطق النوتة يغلب على منطق اللفظ الصريح . وفي الجانب الثاني يكون التواصل قائما على إزاحة كل الأعباء وتحرير الذات من أغلالها الوجودية . ويزداد الطقس إشراقا حين يقام في فضاء مفعم بالهدوء والسكينة ، كما هو الحال هنا ( * ). فقد كانت كل العناصر متوفرة : أشجار متهادية ، نافورة تحرك ريح المساء ماء ينبوعها فيحدث خريرا تنبه إليه الموسيقار عبد المجيد بقاس فصار يدمجه في عزفه ، قمر وضاء ، ورائحة مسك الليل تتكلف باستدراج الحواس كلها إلى مدار الطقس . هل هناك ما هو أنسب لمثل هذه العروض الموسيقية الراقية من " حدائق أندلسية " يبدو وكأنها لم تبن إلا لكي تعزف في رحابها أجمل موسيقى ، وتتردد في جنباتها أعذب الأنغام ؟ ( * ) أقيم هذا الحفل الموسيقى المنظم من طرف المعهد الفرنسي بفاس يوم الأربعاء 8 ماي 2009 في فضاء الحدائق الأندلسية بقصر الجامعي .