* العلم: الرباط ببالغ الأسى وعميق الأسف، تلقت أسرتا حزب الاستقلال، وجريدة العلم، نبأ سقوط هرم من أهرام الأدب المغربي والعربي، صاحب عمود مع الشعب، المجاهد الاستقلالي الكبير، والصحافي والأديب والمؤرخ الألمعي والوزير، المدير الأسبق لتحرير جريدة العلم، الأستاذ عبد الكريم غلاب، الذي وافته المنية ليل الأحد المنصرم عن عمر يُناهز ثمانٍ وتسعين سنة بعد عطاء طويل ومتميز. الفقيد غلاب، المزداد سنة 1919، كان في طليعة النخبة المغربية الواعية بمسؤوليتها تجاه الوطن منذ الثلاثينيات، حيث خاض صنوفا من النضال على كل المستويات، وعرف غياهب السجن أول مرة على يد المستعمر سنة 1937، وكن ذلك المفكر الجاد الذي عمل على التوفيق بين الحفاظ على الهوية والانفتاح على الحداثة، ومحاربة تقويض أركان العقيدة والانهزامية والخنوع أمام المستعمر. وكان رحمه الله، من نخبة الوطنيين الأولين، الذين عملوا على المزاوجة بين النضال الفكري وصِنْوِه السياسي، إيمانا منه أنّ تحريرَ الذات فكراً وعقيدةً الحجرَ الأساس في بناء المواطن الأبي المؤهل بدوره لبناء الوطن. وقد أقدم وهو لم يزل بعد في عقده الثاني على التوجه إلى مصر بعد دراسته التقليدية بالقرويين، لاستكمال تكوينه العلمي والانفتاح على الثقافة الحديثة، وذلك في ظرفية محلية ووطنية اتسمت بمحاصرة الاستعمار، حيث كان مجرد التفكير في التوجه إلى الشرق ضربا من المجازفة، بيد أن التحدي الذي واجه غلاب وتجاوزه ضل يتجدد عند كل مرحلة من مراحل حياته الغنية. الفقيد الذي كان عضو أكاديمية المملكة، كان حاضرا بشكل طليعي في كل درب من دروب النهضة المغربية الحديثة بمساراتها المتعدد، ففي درب السياسة بمعناها النضالي نجده وهو لمّا يبلغ بعدُ الثلاثين ربيعا ينخرط مع ثلة من زملائه المغاربة بالقاهرة في تأسيس مكتب المغرب العربي للدفاع عن حقوق البلدان المغاربية في نيل الحرية والاستقلال سنة 1947، وقبل ذلك بخمس سنوات أنشأ مع نفس زملائه رابطة الدفاع عن مراكش. وقد شغل المرحوم، منصب عضو مجلس الرئاسة لحزب الاستقلال عقب وفاة علال الفاسي زعيم الحزب سنة 1974. وكان نائبا لرئيس اتحاد الأدباء العرب 1968-1981، كما شغل منصب الأمين العام للنقابة الوطنية للصحافة المغربية عند إنشائها سنة ،1961 وجدد انتخابه في كل المؤتمرات إلى سنة 1983، وكان نائب الأمين العام لاتحاد الصحافيين العرب (1965-1983)، ثم عضو أكاديمية المملكة المغربية منذ إنشائها سنة 1980 حتى وفاته، وعضوا في مؤسسة بيت الحكمة بتونس. وانتخب عضوا في مجلس النواب خلال ولايتي (1977-1984) و(1993-1997). وخلال الفترة بين 1981-1985 أصبح وزيرا. وقد تدرج في جريدة العلم كمحرر في بدايتها ثم رئيسا للتحرير فمديرا للنشر من سنة 1960 حتى 2004. وفي الشق الأدبي، خلف الراحل مؤلفات تجاوز عددها ال 75، دون احتساب ما كان يكتبه يوميا في جريدة العلم من أحاديث ممهورة باسمه أو دون اسمه، حيث كان غلاب أديبا ملتزم بمفهوم الخمسينيات، ومثقفا عضويا بمفهوم السبعينيات، والدارس الأدبي البعيد عن الهجنة، والمفكر الذي ضل مشدودا إلى تحقيق تطلعات وطنه وأمته إلى الحرية والاستقلال، وذلك من خلال معالجته الرصينة للمشاكل التي واجهها والعمل على دمج قيم الديمقراطية والشفافية في الحياة السياسية، وتحقيق المعادلة الصعبة بين الهوية والحداثة، وهو ما يستشف من رواياته على غرار "وعاد الزورق إلى النبع". وبهذه المناسبة الأليمة، التي لا راد لقضاء الله فيها، نتقدم بخالص التعازي وصادق المواساة لأسرتي الفقيد الصغيرة والكبيرة في الحزب والجريدة والمشهد الأدبي والثقافي والأكاديمي في بلادنا والعالم العربي في هذا الرزء الفادح والخطب الجلل، سائلين العلي جلت قدرته أن يتغمد الراحل الذي عرف بسعة اطلاعه ونبل أخلاقه وكريم شمائله بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. لقد ترجل غلاب عن صهوة الحياة جسدا، والجسد بطبعه فانٍ وإن طال الأمد، لكنه باقٍ روحا وفكرا وأدبا وعطاء وتلك سيرة العظماء، يخلد التاريخ ذكرهم في الصالحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إنا لله وإنا إليه راجعون. عالم الفكر والصحافة والسياسة يفقد أحد أهراماته: صاحب / مع الشعب / المجاهد عبد الكريم غلاب في ذمة الله