قد يستغرب القارئ لهذا التقديم من بسط موضوع يعتبره السواد الأعظم من العامة، إن لم نقل حتى من الخاصة، أي أصحاب الاهتمام المشترك بمهنة الدفاع، من نافلة القول، و ترفه نظرا لما يفترض في المحامي _ منطقيا - من حرصه على حقوقه قبل حقوق غيره، إلا أنه على عكس هذا الافتراض فإن المحامين أضحوا من أكثر الفئات المستهدفة في حقوقها، سواء بحكم ممارستهم المهنية، أو فيما يتعلق بمجال الحريات العامة، و هذا هو مناط الاستغراب، إذ أن الذين يدافعون عن حقوق وحريات الأشخاص أصبحوا مهددين في حقوقهم وحرياتهم أكثر من أي وقت مضى. أمام ما ذكر فإن أول تساؤل يثار لتحليل هذا الموضوع يبقى حول دور المؤسسات المنظمة لعمل المحامي بالمغرب، و موقعها مما آلت إليه المحاماة بهذا البلد، و المقصود هنا هم الهيئات المهنية من جهة و جمعية هيئات المحامين بالمغرب من جهة أخرى، و ذلك بوصفهما المعنيين بتأطير الممارسة المهنية للمحامين، سواء من حيث الالتزامات التي يفرضها القانون على الأولى - أي الهيئات - ، أو بالنظر لطبيعة الأهداف المسطرة في قانونها الأساسي و الوظائف التي اضطلعت بها بالنسبة للثانية، علما أن هذه الأخيرة هي الجمعية الوحيدة التي تفردت بهذا الأمر على المستوى الوطني، وذلك بطبيعة الحال في حدود الإمكانيات التشريعية و بالنظر إلى أدائهما الميداني من خلال ما راكمتاه من تجربة تاريخية في الموضوع. أولا: دور الهيئات المهنية حدود الإرادة التشريعية: نصت المادة 85 من القانون المنظم لمهنة المحاماة على ما يلي: ( يتولى مجلس الهيئة، زيادة على الاختصاصات المسندة إليه للنظر في كل ما يتعلق بممارسة مهنة المحاماة، المهام التالية: ... حماية حقوق المحامين والسهر على تقيدهم بواجباتهم في نطاق المبادئ التي ترتكز عليها المهنة. إنشاء وإدارة مشاريع اجتماعية لفائدة أعضاء الهيئة وتوفير الموارد الضرورية لضمان الإعانات والمعاشات لهم أو للمتقاعدين منهم أو لأراملهم وأولادهم سواء في شكل مساعدات مباشرة أو عن طريق تأسيس صندوق للتقاعد أو الانخراط في صندوق مقبول للتقاعد .... ) إن هذه المقتضيات هي الوحيدة في هذا القانون التي تناولت موضوع حقوق المحامين، و قد وردت ضمن الحديث عن دور مجالس الهيئات و صلاحياتها في تدبير الشأن المهني، و باستقرائنا لمضمون هاتين الفقرتين ننتهي إلى الملاحظات الآتية: - 1) إن المطلوب من مجالس الهيئات بصفتها الإطار التنظيمي المحلي للمحامين هو حماية حقوق هؤلاء مقابل سهرها على ضمان وفائهم بواجباتهم في إطار المبادئ المهنية، و بذلك فهي تتحمل مسؤولية الإشراف و التنظيم و المراقبة و التأديب أكثر من كونها إطارا يرصد مطالب المحامين و يسعى إلى توفير سبل تحقيقها، و هذا طبيعي، لأن المشرع عندما أوجدها حملها كإطارات تنظيمية لم يخولها أي صلاحيات من هذا القبيل و الذي غالبا ما تستأثر به النقابات. - 2) توفير الموارد الضرورية لتغطية مصاريف تسييرها و ضمان التغطية الصحية و الاجتماعية للمحامين من خلال خلقها و تدبيرها لمشاريع اجتماعية، و هنا أيضا ينحصر دورها فيما يمكن وصفه بالحقوق الاجتماعية في تفعيل مبادرات خاصة بعيدا عن أي منحى مطالبي تجاه المؤسسات الرسمية أو الدولة. -3) الاهتمام بالمحامين المنتمين لدائرة نفوذها فقط دون الامتداد إلى ما يهم زملاءهم على المستوى الوطني، إذ إن هذه الهيئات، كما هو واضح في القانون، محلية بطبعها و لا يمكنها أن تمارس صلاحياتها خارج دائرة نفوذ محكمة الاستئناف التي تنتمي إليها، كما أن إنشاءها و حلها رهين بالشروط و المعايير الواردة في القانون المنظم للمهنة و لا حظ لإرادة أعضائها في هذا كله، فهي إطارات نظامية تدخل ضمن الهياكل المنظمة للممارسة المهنية بقوة القانون. و عليه فإن المشرع و بناء على الملاحظات السابقة يكون قد حصر دور مجالس الهيئات بالنسبة لحماية حقوق المحامين في المجالين الموضوعي و الترابي، كما أسند إليها مهاما مقابلة تتمثل في الجانبين الرقابي و التأديبي، و بالتالي فإن صلاحياتها في إدارة الشأن المهني حسب القانون المنظم للمهنة ينحصر في الحفاظ و الحماية لما أقره القانون كما سلف ذكره، أكثر من أخذها أي طابع مطالبي و لو شاع في التداول العام وصفها بالنقابة، فهي لا تحمل مواصفات هذا النعت لا قانونا و لا ممارسة، مما يجعله مجرد خطإ شائع ليس إلا . حدود الممارسة الميدانية: تؤكد التجربة العملية لهذه لهيئات المحامين بالمغرب خلال ما يناهز قرنا من الزمن أن حضورها الأساسي في الحياة المهنية يكمن في سهرها على تنظيم الممارسة المهنية من خلال ما يلي: - تنظيم عملية الولوج للمهنة و ما تقتضيه من تمرين و مباريات و تدبير للملفات المهنية. - ضبط جداول الممارسين، سواء كانوا متمرنين، أو رسميين، أو مقبولين للترافع أمام المجلس الأعلى مع السهر على تحيينها. - مراقبة حسن سير الأداء المهني و ضمان احترام القانون و الأعراف و التقاليد المهنية. - ممارسة صلاحيات التأديب و تنفيذ المقررات المرتبطة بها مع تتبع ذلك مع الجهات الرسمية المعنية. - تدبير المرافق المهنية و ضمان حسن سيرها. - تأمين الموارد المالية لتغطية مصاريف المرافق المهنية و الخدمات الاجتماعية. - تنظيم الجموع العامة و الانتخابات المهنية، و ذلك لضمان تداول المسؤولية على الأجهزة طبقا للقانون. و هذا ما يمكن رصده من خلال الوثائق الصادرة عن الهيئات في هذا الشأن، و أهمها التقارير الأدبية و المالية و المنشورات و التي تحررها للتواصل مع أعضائها من جهة، و مع الرأي العام من جهة أخرى. ثانيا: دور جمعية هيئات المحامين بالمغرب : - الحدود القانونية والتنظيمية : تعد جمعية هيئات المحامين بالمغرب جمعية وطنية تضم لعضويتها جميع الهيئات المهنية التي تنظم ممارسة المحاماة بالمغرب، و قد لخصت أهدافها في المادة 4 من قانونها الأساسي، حيث سطرت أحد عشرة هدفا توزعت على مجالات مختلفة، و بقراءة أولية لهذه الأهداف فإنه يمكن الوقوف على ما يلي: ذكرت عبارة (حقوق المحامين) في فقرة واحدة ضمن الهدف الثاني، و هو الهدف الوحيد الذي ركز على هذا البعد الحقوقي المهني. إن هذه الحقوق المهنية أتت في سياق تأمين حصانة المحامي و حريته و استقلاله، و من زاوية ضمانها له سواء كانت مادية أو أدبية. إن معظم الأهداف الأخرى، أي العشرة المتبقية تهم التنسيق بين الهيئات و العمل على تعميم الوعي بحقوق الإنسان و الدفاع عن احترامها بشكل عام. وهناك هدف آخر مرتبط بالدفاع عن المقومات و المصالح الوطنية من خلال الأنشطة التي تساهم فيها الجمعية وطنيا ودوليا و هو أوسع من سابقيه و أعم. و من ثمة يمكن استنتاج الآتي: إن الجمعية قد حصرت مهامها في التنسيق بين الهيئات المهنية بوصفها هي الأعضاء المؤلفة لها. فهي أي الجمعية لا تمنح صفة العضوية للأشخاص الذاتيين، أي للمحامين، و تكتفي فقط بالهيئات كشخصيات معنوية. إن اهتماماتها الأساسية تنصب على التنسيق بين الهيئات الأعضاء كما تركز على تنمية الوعي المهني لدى المحامين و التأكيد على احترام تقاليد و أخلاقيات المهنة. تعميق الاهتمام الثقافي القانوني و الحقوقي للمحامين، سواء في مجالات ممارستهم المهنية أو تجاه التزامهم بقضايا وطنية أو دولية. و باستحضار باقي المواد الأخرى الواردة بنفس القانون الأساسي و كذا نظيراتها بالنظام الداخلي نجد أنها لم تحمل أي مقتضى إضافي لما ذكر من أهداف أعلاه، خاصة أنها أكدت في أبواب مختلفة أن هذا الإطار الجمعوي لا يقر إلا بعضوية الهيئات المهنية، و أن أجهزته تعكس تمثيلية هاته الأخيرة فقط، دون أي إشراك للمحامين بصفتهم الفردية، كما أن المحطة الوحيدة المفتوحة في وجه المحامين بصفتهم الشخصية و المتمثلة في المؤتمر لا يمكن لهؤلاء المشاركة فيها إلا من خلال هيئاتهم التي ينتمون إليها، و في حدود الحصة المحددة لكل هيئة ( المادة 17 من القانون الأساسي، و المادة 30 من النظام الداخلي ). حدود الممارسة الميدانية: لقد لعبت جمعية هيئات المحامين بالمغرب منذ تأسيسها دورا رائدا في مجالي النضال من أجل تحقيق الديمقراطية و احترام حقوق الإنسان، حيث كانت تحرص في جميع أنشطتها و مؤتمراتها على إصدار بيانات و مقررات تطالب الدولة من خلالها بتحقيق الديمقراطية و ضمان سيادة القانون، كما أنها كانت تتخذ مواقف أكثر تقدما في دعم القضايا العادلة، سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي. و قد اتسم مسارها إلى حد كبير باهتمامات سياسية حقوقية أكثر من فعاليتها المهنية، خاصة خلال العقد الأخير الذي عرف تصادمات جلية كشفت عن ضعف الاهتمام المهني و تقلصه لفائدة اعتبارات أخرى تتماها فيها مع الحراك السياسي الذي شهده المجتمع، و لعل المظهر الأخير الذي انتهت إليه في انتخابات المكتب الجديد بمدينة أكادير في نهاية أبريل الماضي - 2009 _ لأبلغ صورة يمكن الاستدلال بها في هذا الباب. أمام هذا الاستعراض الموجز للإطارين الوحيدين اللذين يتوليان أمر الاهتمام بشأن ممارسة مهنة المحاماة بالمغرب، الأول يتمثل في هيئات المحامين كإطارات نظامية محدثة و منظمة بإرادة المشرع و قوة القانون، و الثاني هو جمعية هيئات المحامين بالمغرب كإطار جمعوي ينسق بين الهيئات المنضوية تحته، يطرح المهتم بحقوق هاته الفئة المهنية السؤال عن مدى التفات هؤلاء _ أي المحامين - إلى الفضاءات التي تكفل لهم حق المطالبة بتأمين احتياجاتهم و حقوقهم التي يفتقرون إليها، في أفق الرفع من مستوى ممارستهم و ظروف حياتهم المادية و المعنوية كغيرهم من الفئات المهنية الأخرى داخل المجتمع، كالمهندسين و الأطباء ... .حيث إن جل هؤلاء يتوفرون على إطارات نقابية إلى جانب هيئاتهم المهنية تعنى بمطالبهم و تنظيم احتجاجاتهم بالشكل الذي تكفله الحريات العامة و الحقوق النقابية. و في هذا الصدد نجد أن بعض فقهاء قانون الشغل قد أثاروا هذا الموضوع ضمن أبحاثهم فرصدوا هذا الفراغ الذي يعانيه المحامون على مستوى ممارستهم لهذا النوع من الحقوق أي الحقوق النقابية رغم أنهم يعدون من رواد المدافعين عنها بالنسبة لباقي الفئات داخل المجتمع، و من ضمن الباحثين الذين كتبوا في هذا المجال الدكتور عبد الله بوضهرين في كتابه: «مدونة الشغل بالمغرب ( الجزء الثاني ص 336 DROIT DU TRAVAIL AU MAROC « -tome 2- LE « )، حيث عزا ذلك إلى ضعف الوعي المهني المؤدي إلى تضامن المجموعة ورغبة الدولة في التقليص من النقابات التي من شأنها أن تكون مصدر إزعاج لها. كما أنه أورد في نفس السياق توضيحا مهما بين (الهيئة و) و(النقابة) إذ اعتبر: ( أن الهيئة تتميز جوهريا عن النقابة بأنها جهاز عمومي، محدثة بنص تشريعي يحدد وجوبا شروط الانتساب إليه ويجعل من هذا الأخير شرطا لازما لممارسة المهنة، و يمنحها القانون، في نفس الحين، سلطة المراقبة وسلطة التأديب على أعضائها، و أن هاتين السلظتين معترف بها للنقابة التي هي تجمع قانوني خاص ، يضع لنفسه قوانينه الخاصة به، و باعتبار الشخص حرا في الانخراط أو عدم الانخراط في نقابة معينة (المادة 398 من م ش) فإن هذه الأخيرة لا تملك أي سلطة تأديبية.) إن الحديث عن أي إطار نقابي للمحامين بالمغرب لا شك أنه سيثير نقاشا كبيرا ما دام أنه أولا و قبل كل شيء خروج عن المألوف و طارئ على العادة، فكل جديد يحتاج لفترة زمنية و سجال أفكار حتى تتضح دواعيه و تنجلي جدواه، كما أن هذا الحديث لن يخلو من ردود فعل من هنا و هناك بين مؤيد و معارض، غير أنه ومع كل ما ذكر يبقى من الأجدى التعامل مع الموضوع بروح من المسؤولية المهنية المطلوبة و التحليل العلمي و المنطقي البناء بحثا عن أي قيمة مضافة تغني النقاش و تنعشه بعيدا عن أي اعتبارات ضيقة، و ذلك من خلال الانفتاح على جميع الآراء التي من شأنها إخراج المهنة والمهنيين من الأزمة التي يعيشونها، و التي تتشعب مناحيها بشكل يجعل الحاجة أكبر من أي وقت مضى لتكثيف جهود كل الغيورين عن هذا القطاع الحيوي داخل المجتمع للنهوض به و توفير الدعم لكل الخطوات الكفيلة بتحقيق ذلك.