اختلف المفكِّرون وأصحاب النظريّات في وضع تعريف محدّد للمجتمع المدنيّ، كما اختلفوا في تحديد مفهومه وطبيعته ودوره. ولمزيد من الإيضاح نورِد أبرز التصوّرات المُساقة لتشخيص هذا المجتمع. ويتّضح من المفاهيم والتعاريف المساقة لتعريف المجتمع المدنيّ أنّ أصحابها يتحدّثون عن عدد من القضايا والمفاهيم والآليّات السياسية والفكرية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، ويحاولون أن يشكِّلوا صورة هذا المجتمع من خلالها، كلّ وفق رؤيته وفهمه ونظريّته . فممّا عُرِّف به: «أنّه المجتمع الّذي يقوم على المؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة ; لتحقيق أغراض متعدِّدة ...« والمجتمع المدنيّ في الفكر الأوربي الرأسمالي يقوم على أبعاد أساسيّة هي: 1 في المجال الاقتصادي يعتمد على حرِّيّة السوق. 2 وفي المجال السياسي يقوم على أساس استمداد السّلطة من إرادة الشّعب. 3 إنّ مفهوم المواطنة يحدِّده القانون الّذي يضعه المجتمع. ويُعرِّف آخرون المجتمع المدنيّ بأ نّه المجتمع الّذي يتلاشى فيه دور السّلطة إلى المستوى الّذي يتقدّم فيه دور المجتمع على دور الدولة ، بل ويذهب فريق آخر إلى اعتبار السّلطة وجوداً معارضاً ومواجهاً لوجود الدولة; لذا يجب تقليص دورها ليسود دور المجتمع. ويُركِّز الّذين كتبوا عن المجتمع المدنيّ أنّ هذا المجتمع هو الوجود الثالث بين الفرد والدّولة، بين الفلسفة الفردية التي تعطي مجالاً غير محدود للفرد، وبين نظريّة سيطرة الدولة، واتِّساع سلطتها ونشاطها. وعُرِّف المجتمع المدني أيضاً بأنّه: «مجموعة التنظيمات التطوّعيّة الحرّة التي تملأ المجال العام بين الاسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السّليمة للتنوّع الخلّاق». وعُرِّف المجتمع بأ نّه ميدان وحيِّز يتكوّن من فعاليّة أناس يتمتّعون بحرِّيّة الانتخاب، ويمارسون هذه الحرِّيّة في إطار القانون والقواعد العامّة، وبشكل مستقل عن إرادة وقرار السّلطة السياسية أوالحاكم». ويتحدّث جون لوك عن المجتمع المدنيّ فيقول: «وهكذا فحيث يؤلِّف عدد من النّاس جماعة واحدة، ويتخلّى كلّ منهم عن سلطة تنفيذ السنّة الطّبيعية التي تخصّه، ويتنازل عنها للمجتمع، ينشأ عندنا حينذاك فقط مجتمع سياسي أو مدنيّ». وعرّف آخرون المجتمع المدنيّ بأ نّه: «كلّ المؤسّسات التي تنتج للأفراد التمكّن من الخيرات والمنافع العامّة، دون تدخّل، أو توسّط من الحكومة». وعُرِّف أيضاً بما يأتي: «المجتمع المدنيّ هو النّسق السياسي المتطوِّر الّذي تتيح صيرورة تمأسسه (تمفصله في مؤسّسات) مراقبة المشاركة السياسية». وقبل أن نغادر إيراد هذه المجموعة من التعاريف، ينبغي أن نوضِّح أنّ نظريّة المجتمع المدنيّ الأوربي في أساس تشكّلها قامت على المفهوم العلماني للمجتمع، فنظريّة العقد الاجتماعي كانت بداية المناداة بالمجتمع المدنيّ. فممّا انتزعته هذه النظرية من بيئتها التي كانت تتحكّم فيها الكنيسة أنّ نظريّة الدِّين الكنسيّ مهيمنة على بنية المجتمع والدولة. وتقوم على أساس الحق الإلهيّ حكم ثيوقراطي، وأنّ التخلّص من هذه النظرية هو التحوّل من نظريّة الحق الإلهي الكنسيّ إلى نظريّة الحرِّيّة الفرديّة وبناء الحياة على أساس التعاقد الانسانيّ الحرّ.