* بقلم // ذ. محمد السوسي بمناسبة اتخاذ مدينة القدس عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2009 كتبنا في هذا الركن سلسلة أحاديث تتناول هذه المدينة وتاريخها ودورها العلمي والديني والحضاري، وحلينا بعض ما كتبناه ببعض النصوص التاريخية. وإذا كان الصهاينة اليوم يحرمون الأذان في هذه المدينة المقدسة ويذبحون ويقتلون المقدسين كما يحلو لهم والمسلمون لا يحركون ساكنا ولا يدبرون أمرا فقد ارتأينا أن نجعل حديث الجمعة اليوم هو إعادة ما كتبناه في 26 مارس 2009 مع إدراج بعض النصوص التاريخية في الموضوع، لعل ذلك يكون عبرة لمن يعتبر، ولعله يجعل من أطلع عليه تذكيرا له بما كان وتفاؤلا بالمآل والمصير الذي سيناله إن شاء الله المتعدون الصهاينة على بيت المقدس ومسرى الرسول عليه السلام. على أن نعود لإتمام الكلام عن شيخ الإسلام ابن تيمية في أحاديث لاحقة إن شاء الله. ******** لعل من السنن الحسنة التي اتخذتها المؤسسات الدولية المختصة في التربية والثقافة والعلوم جعل بعض المدن عواصم للثقافة لسنة معينة وهو أمر دأبت عليه كذلك في السنوات الأخيرة المؤسسات العربية والإسلامية المشابهة فاتخذت من بعض المدن عواصم للثقافة الإسلامية أو الثقافة العربية فقد كانت فاس سنة 2007 عاصمة للثقافة الإسلامية كما اعتبرت القيروان خلال هذه السنة عاصمة للثقافة الإسلامية كذلك وقد نظمت كل المدن التي اختيرت في المغرب أو تونس و سوريا سنتها الثقافية وأيامها الثقافية بالشكل الذي تراه مناسبا لإضفاء هذه المدينة أو تلك عاصمة للثقافة. وفي هذا السياق تم اختيار مدينة "القدس" عاصمة للثقافة العربية سنة (2009)، وهو ما أثار حفيظة الصهاينة الذين تجندوا بكل الوسائل القمعية التي يتوفرون عليها وما أكثرها لمنع هذه الاحتفالات التي تبرز دور المدينة الثقافي والعلمي خلال قرون وأيا ما كان فإن هذا الاختيار مناسب وموفق فالقدسالمدينة العربية الإسلامية الأصل والمنشأ، رغم كل الادعاءات الصهيونية، وهي عاصمة للثقافة العربية الإسلامية منذ عهود، وكانت في كثير من الأحيان موئلا ومستقرا لكثير من الأعلام والمفكرين والقادة الذين كانوا يجدون فيها ما ينشدونه من الهدوء النفسي والاطمئنان الروحي للبحث العلمي والدراسات الفقهية بجانب المجاهدات الروحية التي تتوفر لمن قصدها، فهي أولى القبلتين ومسرى الرسول وهي ملتقى الأنبياء ومهبط الوحي وارض النبوات لذلك كان لها من القداسة والإجلال ما ليس لغيرها من المدن بعد الحرمين الشريفين، وقد بذل المسلمون الجهد الكثير للحفاظ لهذه المدينة على قدسيتها ومكانتها الدينية والعلمية طيلة قرون ولم يكن أمر حمايتها وصيانتها موضوع تهاون أو تساهل من لدن المسلمين وقادتهم فقد كانوا باستمرار يراعون لهذه المدينة ما لها من ثقل ديني وعلمي، وكانوا في نفس الوقت يتيحون لسكانها من غير المسلمين الحرية الدينية والتسامح والمعاملات الإنسانية في مختلف المجالات، وقد كانت المدينة المقدسة منذ أمد بعيد هدفا ومقصدا للغزاة الطامعين في احتلالها واستئصال ما تتمتع به من مميزات دينية وما توفره من تلاقي أرباب العقائد في تسامح و وئام. وليس يعزب عن بال الناس قديما وحديثا استهداف القوى الصلبية لهذه المدينة ومحاولة جعلها حكرا عليهم وعلى ما كانوا يريدونه فيها من بطش وطغيان. لقد أباح الصليبيون مثلا لجنودهم أن يفعلوا في المدينة بعد دخولها ما يحلو لهم من مذابح وبلغت الدماء في مدينة السلام ما لم تبلغه في أي تاريخ وهو ما يشمئز له ضمير أكثر الناس تعصبا عندما يطلع عليه، وخاصة عندما يقارنه بالتقليد الذي أرساه الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه عند فتح بيت المقدس منهجا سار عليه المسلمون فيما بعد ذلك في المعاملة الطيبة لغير المسلمين. ولا يزال الناس إلى اليوم يقرأون هذا الالتزام العمري لأهل المدينة المقدسة باحترام عقائدهم ومظاهر هذه العقائد والتقاليد المبنية عليها رغم انها تتعارض في أصلها مع ما يومن به المسلمون ويومن به عمر ويعتقده في المسيح عليه السلام ولكن عمر الذي نشأ نشأة جديدة بعد ان من الله عليه بالإسلام والذي اعترف بهذا التغيير الذي آل إليه بعد إسلامه وبعد ان أصبح أمير المؤمنين، كانت عقيدته عقيدة صلبة وقوية شأنه في ذلك شأن صحابة رسول الله أجمعين، ولكن عمر كان يمتاز بالجرأة على التعبير عن هذه العقيدة الصافية في أسلوب بليغ وحاسم نرى ذلك في القولة التي رددها وهو يقبل الحجر الأسود والله اني لأعلم انك حجر لا تضر ولا تنفع ولو لا اني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك وفي رده على من حاول ان يثنيه عن زيارة الشام المصابة بالطاعون … فقد روى المؤرخون انه في طريقه الى الشام تعرض له قادة الجيش واخبروه بانتشار (الوباء) في الشام فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفت آراؤهم فمن قائل لا ترجع ومن قائل لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوباء (المرض المنتشر) فأمر الناس بالرجوع فقال له أبو عبيدة (أفرارا من قدر الله) قال (نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو هبطت واديا ذا عدوتين إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة فإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وان أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله) ثم قال لو غيرك قالها يا ابا عبيدة. قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله هكذا قال عمر الذي كانت هذه قناعاته وأسلوبه في التعبير التزم كذلك في هذه العهدة بالتعاليم التي كان يتلقاها من الرسول وهي احترام الناس وما اختاروا لأنفسهم من عقائد «لكم دينكم ولي دين» وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل يثرب في ميثاق المدينة معاملة احترام لما يومنون به وبالأخص أهل الكتاب من اليهود ونفس الأمر مع نصارى نجران وعلى أي حال فإن عمر التزم مع سكان هذه المدينة المقدسة بمعاهدة كتبها واشهد على نفسه فيها من كان معه من قادة الجيوش الإسلامية بالشام كما سيأتي في نص الالتزام ولا بأس ان نستحضر هذه الوثيقة ولكن قبل استحضارها نقرأ ما كتبته إحدى الباحثات الدارسات في السنوات الأخيرة مكثت بالقدس أعواما وأخرجت للناس كتابا بعنوان (القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث) باللغة الانجليزية وترجمه إلى العربية فاطمة نصرو و د. محمد عناني. الفقر المقدس تقول: « وفي غياب القيادة البيزنطية نظم البطريرك صفرونيوس Sophronius دفاعا شجاعا عن المدينة بمساعدة حامية بيزنطية، غير أنه بحلول فبراير عام 638م أجبر المسيحيون على التسليم. وتقول الروايات إن البطريرك رفض تسليم المدينة المقدسة إلا للخليفة عمر نفسه. حضر عمر لتسلم المدينة؛ وإذا أخذنا في الاعتبار مكانة المدينة بالنسبة للمسلمين الأوائل، فإن الاحتمال الأقوى هو أن عمر أراد أن يشرف بنفسه على ذلك الحدث الهام. أما الرواية السائدة فتقول إن صفرونيوس ركب إلى خارج المدينة للقاء عمر ثم اصطحبه عائدا إلى أورشليم. ولابد وأن مظهر عمر قد بدا متنافرا مقارنة بالبيزنطيين الذين كانوا يرتدون ملابسهم الفخمة، فقد دخل المدينة على ظهر بعير أبيض مرتديا ملابسه الرثة المعتادة، والتي رفض أن يستبدلها احتفاء بتلك المناسبة. وقد شعر بعض المراقبين المسيحيين أن الخليفة لابد وأن يكون على درجة من النفاق! لاشك ان الكاتبة في هذه الفقرة لا يزال في نفسها شيء من الرهبنة مهنتها الأصلية وإلا كيف استطاعت أن تجلي ما خفي من نوايا المسيحيين وتستنتج أنهم يرون في تصرف عمر نفاقا مع أن الجميع يعرف ما يمتاز به عمر من الصدق والصراحة والروايات التاريخية تتحدث عن اقتراح قادة الجيش على عمر أن يلبس ثيابا فخما في هذه المناسبة ولما لبسه شعر في نفسه بشيء من التغيير أو الخيلاء فسارع إلى إزالتها ولبس الثياب الذي يجد فيه نفسه ويجده مناسبا لروح التواضع والتقشف اللذين أخد بهما عمر نفسه وتساؤله مع معاوية رضي الله عنه عندما رآه في زي الأبهة أو كسروية أم قيصرية يا معاوية؟ وعلى أي حال لنرافق الكاتبة في حديثها عن هذا الحدث العظيم. بعد أن لاحظوا بقدر من عدم الارتياح أن الخليفة المسلم قد جسد المثل المسيحي «للفقر المقدس»، بدرجة من الإخلاص تفوق إخلاص مسؤوليهم. تجسيد التراحم التوحيدي عبر عمر أيضا عن مبدأ التراحم التوحيدي أكثر من أي ممن فتحوا أورشليم (القدس) قبله، ربما باستثناء الملك داود. فقد أشرف على أكثر غزو للمدينة سلاما، ودون أي إراقة للدماء، لقد كان فتحا لم تشهد مثله المدينة في تاريخها الطويل والمأساوي في غالب الأحوال. فبمجرد أن استسلم المسيحيون لم يحدث قتل، أو تدمير للممتلكات، أو إحراق للرموز الدينية المنافسة؛ وأيضا لم يكن هناك طرد للسكان أو نزع للملكية، أو محاولة لإجبار السكان على اعتناق الإسلام. ولو أخذنا احترام سكان المدينة السابقين معيارا لسلامة وقوة العقيدة التوحيدية، يمكننا القول هنا إن الإسلام قد بدأ ولايته الطويلة هناك بداية حسنة جدا. وكان عمر قد طلب مشاهدة الأماكن المقدسة، واصطحبه صفرونيوس من فوره إلى كنيسة القيامة، ولم يكن الخليفة ليرضى أن يخلد ذلك المبنى الفخم وفاة المسيح وبعثه. وفي هذا الصدد يجب ذكر أن القرآن يبجل المسيح كأحد أعظم الأنبياء، غير أنه ينفى أنه صلب. كما أن محمدا (ص) قد حقق في حياته نجاحا مبهرا خلافا لعيسى، ومن ثم يرى المسلمون أنه من الصعب الاعتقاد أن يسمح الله أن يموت أحد أنبيائه بذلك الأسلوب المخزي. ويبدو أن العرب كانوا قد سمعوا أيضا بأفكار الدوسيين Docetists والمانويين والتي كانت منتشرة في أنحاء كثيرة من الشرق الأدنى وتقول إن المسيح بدا تخيلا وأنه توفي؛ إذ أن الجسد الذي كان على الصليب كان مجرد وهم، أو صورة زائفة. بل خلافا لذلك، ومثل أخنوج Enoch، فقد صعد المسيح منتصرا إلى السماء في آخر حياته. وفيما بعد سيعبر المسلمون عن ازدرائهم للفكرة المسيحية بأن يطلقوا على تلك الكنيسة « القمامة» بدل القيامة». ان المسلمين لم يزدروا تلك الكنيسة بل ان عمر هو من عمل جهده لرفع القمامة في أماكن من المدينة إذا اتخذت من طرف السكان مكانا لرمي القمامة والأزبال مما رآه عمر ورآه معه المسلمون منافيا لما ينبغي ان تكون عليه هذه الأماكن من النظافة والطهارة ومن المعاملة بالأدب والحسنى لأنها أماكن مقدسة كما ستذكر الكاتبة فيما بعد. عمر والشوفائية بيد أن عمر لم يبد شيئا من تلك الشوفونية حتى أثناء الحماس المبدئي الذي صاحب ذلك النصر الهام. فبينما كان واقفا إلى جوار المقبرة، حان موعد الصلاة، فدعا صفرونيوس الخليفة للصلاة حيث كان واقفا. لكن عمر رفض رفضا مهذبا. كما رفض أيضا الصلاة في مبنى كنيسة الشهيد لقسطنطين وبدلا من ذلك توجه إلى الخارج وصلى على الدرجات إلى جانب طريق كاردو ماكسيموس المزدحم. وفيما بعد، وضح عمر الأمر للبطريرك قائلا إنه لو صلى داخل الأماكن المسيحية المقدسة، لصادرها المسلمون وحولوها إلى مساجد. وبعد ذلك مباشرة كتب عمر صكا منع المسلمين من الصلاة على تلك الدرجات أو بناء مساجد هناك. وقام بعد ذلك بالصلاة في كنيسة النيا Nea، ومرة أخرى أكد على أن يظل المكان في أيد مسيحية. وكانت تلك القمامة قد تراكمت إلى أن وصلت تقريبا إلى سقف المدخل ولم تكن هناك طريقة تتيح الوصول إلى الدكة سوى الزحف على اليدين والركبتين. وتقدم صفرونيوس وتبعه المسلمون بصعوبة شديدة. وحينما وصلوا للقمة، فلابد وأنهم قد حملقوا مرتاعين عبر الاتساع الموحش لدكة هيرود والتي كانت مازالت مغطاة بالأنقاض والقمامة. ولم ينس المسلمون قط تلك الصدمة التي تلقوها عند لقائهم بذلك المكان المقدس الذي كان صيته قد وصلهم في بلاد العرب النائية، ومن ثم فإن بعض المسلمين قد قالوا إنهم أطلقوا على كنيسة القيامة، كنيسة« القمامة» انتقاما لسلوك المسيحيين غير الورع تجاه جبل المعبد. ويبدو أن عمر لم يضع أي وقت في تلك المناسبة فقد أسرع في فحص الصخرة التي ستلعب دورا هاما في التاريخ الإسلامي فيما بعد. وبعد أن استوعب صدمة الموقف أخذ يحمل حفنات من الروث وكسارات الحجارة في عباءته ثم أطاح بالقمامة من أعلى الحائط إلى وادي هنوم Hinnom، وسرعان ما تبعه مرافقوه. ويتشابه ذلك الفعل التطهيري مع حفريات الجلجثة التي تمت تحت رعاية قسطنطين. فمرة أخرى تحاول ديانة حديثة الانتصار تاسيس نفسها في أورشليم بحفرها أسفل ما دنسه السكان السابقون من أجل إيجاد اتصال فيزيائي مع أسس العقيدة. وكان وصول المسلمين إلى أورشليم (القدس) حدثا على جانب عظيم من الأهمية. فقد انتزع الأوائل ممن اعتنقوا الإسلام من أهل مكة أنفسهم من موطنهم ومن أقدس موروثاتهم انتزاعا أليما عندما هاجروا إلى يثرب. ثم بدأ العرب يخترقون عالما غريبا في رقيه وحضارته عن أي شيء كانوا قد عرفوه في بلاد العرب التي كانت قد ظلت حتى ذلك العهد خارج نطاق المدينة. وأصبح عليهم أن يواجهوا من الأساطير والموروثات الدينية والسياسية ما يتحدى عقيدتهم تحديا عميقا. انه الوصف الذي رافق الالتزام أو العهدة العمرية أوردناه باختصار وتصرف أما العهدة فقد جاء فيها. بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل أيليا من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم. ولا يسكن بأيليا معهم أحد من اليهود. وعلى أهل أيليا أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن. وعليه مثل ما على أهل أيليا من الجزية، ومن أحب من أهل أيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلى بيعهم وصلبهم؛ فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم، وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأٍرض قبل مقتل فلان؛ فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل ايليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشر. وبمناسبة الإسراء والمعراج ندرج فيما يلي أول خطبة في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين. أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد تحريره عام 583ه ومساهمة منا في الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج وبالقدس عاصمة للثقافة الإسلامية كما قلنا ستخصص هذه الحلقة من حديث الجمعة بالتذكير بأول خطبة ألقيت في المسجد الأقصى بعد تحريره من رجس الصليبية والصليبيين وقد قدم صاحب البداية والنهاية لهذه الخطبة بالكلمات التالية: لما تطهر بيت المقدس، مما كان فيه من الصلبان، والنواقيس، والرهبان، والقساقس، ودخله أهل الإيمان، نودي بالأذان، وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة، أقيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان، فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط، وعلقت القناديل، وتلى التنزيل، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرج القسيسون، وزال البوس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعبد الله الأحد، الصمد، الذي لم يلد ، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وكبره الراكع والساجد، والقائم، والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة، قبل الزوال، كادت القلوب تطير من الفرح، في ذلك الحال، ولم يكن عين خطيب، فبرز السلطان المرسوم الصلاحي، وهو في قبة الصخرة، أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكى اليوم خطيبا، فلبس الخلعة السوداء، وخطب للناس خطبة سنية، فصيحة، بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل، والترغيبات، وما فيه من الدلائل. وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في (الروضتين)، بطولها، وكان أول ما قال (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين). ثم أورد تحميدات القرآن كلها، ثم قال:« الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عبده، فلا يمانع، والظاهر على خليقته، فلا ينازع، الآمر بما يشاء، فلا يراجع، والحاكم بما يريد، فلا يدافع، أحمده على إظفاره، وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس، من أدناس الشرك، وأوضاره، حمد من استشعر الحمد، باطن سره، وظاهر أجهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام، إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر، وما طغى وعلى خليفته الصديق، السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ذي النورين، جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان». هذا ما أورده صاحب البداية والنهاية وتتمة الخطبة من كتاب روضتين في أخبار الدولتين. أيها الناس: ابشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا. وبردّ (بيت المقدس) إلى مقرها من الإسلام. بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبا من مائة عام. وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع وأن يذكر فيه اسمه. وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليه رواقه. ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه، وبالتقوى فانه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه. فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد عليه السلام، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام.. وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين. وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقربين. وهو البلد الذي بعث الله عبده ورسوله. وكلمته التي ألقاها إلى مريم. وروحه عيسى الذي شرفه الله برسالته وكرمه بنبوته. ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته. فقال تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله). و(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم). وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين. لا تشتد الرحال بعد المسجدين إلا إليه. ولا تعتقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه. ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده. واصطفاه من سكان بلاده. لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار. ولا يباريكم فيها مبار. فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزة النبوية. والوقعات البدرية. والعزمات الصديقية. والفتوح العمرية والجيوش العثمانية. والفتكات العلوية. والهجمات الخالدية. فجازاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء. وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء. وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء. وأثابكم الجنة فهي دار السعداء. فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها. وقوموا لله تعالى بواجب شكرها. فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة. وترشيحكم لهذه الخدمة. فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء. وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء. وابتهج به الملائكة المقربون. وقر به عينا الأنبياء المرسلون فماذا عليكم من النعمة بان جعلكم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان. والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان. فيوشك أن أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء… أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه؛ ونص عليه في خطابه؛ فقال تعالى « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله).. …فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما قعد عنه بنو إسرائيل. ووفقكم لما خذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين. وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى. وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى. فليهنئكم أن الله قد ذكركم به في من عنده. وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لأهوائكم جنده. وشكركم الملائكة المنزلون. على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد. ونشر التقديس والتحميد. وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك… والاعتقاد الفاجر الخبيث. فالآن يستغفر لكم أملاك السماوات وتصلي عليكم الصلوات المباركات. فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم.واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم. ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم. واحذروا من أتباع الهوى. وموافقة الردى. ورجوع القهقرى. والنكول عن العدا. وخذوا في انتهاز الفرصة. وإزالة ما بقي من الغصة. وجاهدوا في الله حق جهاده. وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه. إذ جعلكم من خير عباده. وإياكم ان يستذلكم الشيطان وأن يتداخلكم الطغيان. فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد. وبخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد. لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم. واحذروا عباد الله بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل. والمنح الجزيل. وخصكم بهذا الفتح المبين واعلق أيديكم بحبله المتين. ان تقترنوا كبيرا من مناهيه. وأن تأتوا عظيما من معاصيه. فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. ( والذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين). والجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم واشرف عاداتكم. انصروا الله ينصركم. اذكروا أيام الله يذكركم. اشكروا الله يزدكم ويشكركم. جدوا في حسم الداء. وقطع شأفة الأعداء. وتطهير بقية الأرض التي أغضبت الله ورسوله. واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية. والملة المحمدية. الله اكبر فتح الله ونصر. غلب الله وقهر. هذا هو ما خطبه الإمام في أول جمعة بالمسجد الأقصى بعد تحريره.