إستنبول: عبد القادر الإدريسي تجاوزت تركيا الأزمة الكبيرة، وحزب العدالة والتنمية يتجاوز آخر حصون العلمانية في تركيا، والرئيس التركي عبد الله غل يدعو إلى المصالحة بعد قرار القضاء التركي بعدم حظر الحزب الحاكم، وواشنطن تحثّ تركيا على مضاعفة جهودها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأوروبا تراقب عن كثب. تلك هي عناوين الصحف التي صدرت في اليوم التالي لصدور قرار المحكمة الدستورية التركية برفض حظر الحزب الحاكم الذي اتهم بأنه (مركز النشاط المناهض للعلمانية). وكان من النتائج المباشرة لهذا القرار الذي وصف هنا في استانبول بأنه (عادل ومنصف وواقعي)، أن سرت روح الأمل والتفاؤل والارتياح أوساط الشعب التركي، وانتعش الاقتصاد، واسترجع رجال الأعمال والمال ثقتهم في قدرة تركيا على مواصلة النهوض في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. سألت أحد الأشخاص الأتراك عن انطباعه الشخصي عن قرار المحكمة الدستورية، فكان جوابه (النجاة). وهو يقصد النجاة من الأزمة الكبرى التي كانت تنتظر تركيا في حالة إذا حكمت المحكمة بحظر الحزب الحاكم. والشعور بالنجاة هو الذي يعمُّ الشعب التركي، أو بعبارة أدق 40% من الشعب الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة الذي يمارس السيادة القانونية الدستورية في البرلمان ب 340 مقعداً من أصل 550 مقعداً. الصحافة العربية التي تتابع الأوضاع في تركيا تقع في خطإ فادح، حين تنظر إلى المشهد التركي من زاوية (حركة إسلامية في مواجهة العلمانية). لأن الواقع يؤكد هنا بالوضوح الكامل، أن المسألة ليست كذلك. فالحزب الحاكم الذي زادت قوته الشعبية بقرار المحكمة الدستورية، ليس حزباً إسلاميا، ولايتبنّى برنامجاً إسلامياً. حزب العدالة والتنمية التركي حزب وطني يلتزم القوانين المعمول بها ويحترم الدستور ولايخرج عن مبادئ الجمهورية التركية. ولم يسبق لزعيم الحزب السيد رجب أردوغان أن صرّح بما يفيد أن حزبه حزب إسلامي كما يفهم عندنا في العالم العربي. هذه قضية دقيقة وبالغة الأهمية. لأن التعامل مع الحالة التركية الحالية باعتبارها (صراعاً بين الحركة الإسلامية والعلمانية)، يؤدّي إلى الوقوع في المحظور، وبالتالي عدم الفهم الدقيق للأوضاع في هذا البلد الذي يُعدُّ (حالةً خاصةً) لامثيل لها في بلدان العالم الإسلامي. حزب العدالة والتنمية فهم المعادلة بعمق، ونزل الساحة الديمقراطية بفكر واقعي بعيد عن الأوهام والأحلام التي تسود العالم العربي، وهو يتعامل مع الواقع بعقلانية واستنارة ومرونة. صحيح أن القيادات والقطاعات الواسعة من هذا الحزب ذات (خلفية إسلامية)، ولكنها خلفية لاتظهر في الصورة، ولا علاقة لها بالعمل السياسي وبالنشاط الحزبي، ولاتنعكس على تسيير أمور الدولة. فهذه الأمور محكومة بالدستور وبالقوانين المعمول بها . وحتى موضوع الحجاب في الجامعات الذي تم تغيير مادة في الدستور من أجله، كان في الأصل سعياً من الحزب الحاكم لضمان تكافؤ الفرص أمام المواطنين وإعمالاً لحق أصيل من حقوق الإنسان باعتبار أن الخدمة العمومية التي تقدمها الدولة للمواطنين في مجال التعليم العالي، يجب أن تكون شاملة لجميع فئات الشعب بحيث لايحرم منها أفراد أو جماعات بسبب غطاء الرأس. ولذلك فإنّ الذين يتعاملون مع الحالة التركية باعتبارها (صراعاً بين الحركة الإسلامية وبين العلمانية) يسيئون إلى حزب العدالة والتنمية، بل لا أبالغ إذا قلت إنهم يسيئون إلى الشعب التركي المؤمن المسلم في غالبيته المتطلع إلى أن يعيش في كنف الإسلام السمح القائم على الاعتدال والوسطية والانفتاح على آفاق العصر. يؤكد ذلك هذا الإقبال الكبير على ارتياد المساجد للصلاة، خاصة صلاة الصبح في كبريات الجوامع، منها جامع السلطان أحمد الكبير الذي يمتلئ عن آخره عند صلاة الصبح أيام الإجازات الأسبوعية. ولذلك فإن العلمانية في تركيا مفهوم مضطرب غير واضح المعالم. العلمانية كما يفهمها العالم المتحضر، هي أن تقف الدولة موقف الحياد من الدين أي دين، لا أن تعلن موقف المعاداة للدين ولكل ما له صلة بالدين. والديمقراطية هي الحكم في مثل هذه الأمور، فالديمقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه بإرادته الحرة، أي باختيار من يتولى تسيير أموره، في نطاق احترام الدستور والقوانين المعمول بها. حزب العدالة والتنمية لم يخرج عن خط الديمقراطية، ولم يتجاوز الدستور ومبادئ الجمهورية التركية. أما كونه (مركز النشاط المناهض للعلمانية)، فهذا كلام لامعنى له، ولا يمكن توصيفه قانونياً. وسيكون لهذا الكلام معنى إذا كان الحزب الحاكم مناهضاً للديمقراطية وللدستور. وهذا ليس صحيحاً. الاختلاط بالشعب التركي يكشف لك أصالة هذا الشعب الذي عانَى كثيراً وكابَدَ المشاق وتعرض لغزو تغريبي كاسح. ولكن حافظ على أصالة معدنه وأثبت أنه شعبٌ ناضجٌ يعرف مايريد ويتجه الوجهة الصحيحة نحو النهضة والديمقراطية والتعامل مع المتغيرات بفكر واقعي وبمنهج عملي رشيد. من لايفهم مايجري في تركيا اليوم لايدرك أبعاد المستقبل في العالم العربي الإسلامي.