ما من شك في أن مشاعر الثقة بين فرنسا وإفريقيا أخذت في الاهتزاز منذ عقد أو يزيد، وأن الدبلوماسية الفرنسية أوشكت في عهد الرئيسين ساركوزي وهولاند على فقدان أهم معاقلها السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، كما أشارت إلى ذلك التقارير الاستعلامية المرفوعة إلى الإليزيه والتي أكدت في معظمها أن صورة فرنسا فقدت كثيرا من بريقها في القارة الإفريقية بسبب "القطيعة" التي ميزت أداء الدبلوماسية الفرنسية خلال السنوات الأخيرة. وتتأرجح صورة فرنسا اليوم بين النفور والامتعاض من سياسة فرنسا الإفريقية، حيث لم تعد فرنسا المرجع الهام ولا الرئيسي في إفريقيا بسبب سعي الرئيس الفرنسي في بداية عهده إلى القطيعة مع ماضي وحاضر الجمهورية في السياسة الخارجية. فقد جعل من مهاجمة السياسة الديجولية ورقة أساسية مقدما نفسه بمثابة المصلح المجدد غير العابئ بالثقل الإفريقي في ميزان العلاقات الخارجية، إذ لم يتردد محيطه في القول غير ما مرة بأن فرنسا في غير حاجة اقتصاديا لإفريقيا. ولم يدرك هولاند القيمة السياسية والاقتصادية لإفريقيا إلا بع سنتين من فترة ولايته حيث أوفد جيوشه إلى مالي وتشاد وإفريقيا الوسطى والنيجر لحماية هذه الدول وتوثيق صلات فرنسا بالمنظومة الفرنكفونية الإفريقية. فحاول مغازلة سياسة شيراك الإفريقية، وبادر إلى الإثناء على من سبقوه ممن ابتكروا الفرنكفونية وأسسوا لأهدافها. غير أن هذه المغازلة لم تفلح في تقليص هوة الشقاق التي أخذت في الاتساع بين فرنسا وإفريقيا. ولم يكن الرئيس هولاند في بداية عهده يصدق كثيرا أن يكون الأفارقة قد حققوا من شروط التنمية ما يؤهلهم لاقتحام العولمة الاقتصادية بوتيرة سريعة، ولم يكن يعبأ بكون دول كبرى مثل الصين والهند والبرازيل وأيضا الولاياتالمتحدة، أخذت لها موطنا متقدما في القارة قد يعصف بكل الأحلام والتطلعات الفرنسية في المنطقة. ومن بين أسباب انطفاء شعلة العشق الإفريقي لفرنسا، الدعم الصريح الذي تقدمه باريس لبعض القادة المستبدين حيث تواجد القواعد العسكرية الفرنسية يقوي الشعور لدى المواطن الإفريقي بأن فرنسا لا تتحرك سوى لحماية الحكومات المتسلطة تحت ذرائع واهية. ومن أسباب السخط الإفريقي أيضا نهب فرنسا للثروات الطبيعية للأفارقة حيث ارتفعت أصوات سياسية في فرنسا تطالب بالكف عن نهب إفريقيا وعن استغلال مواردها بصورة أدت مع تلاحق السنين إلى استنزاف بلدان القارة وإفقار شعوبها.. ودعوة بعض الفرنسيين إلى قدر من الرحمة بإفريقيا وبمواردها الطبيعية (ذهب، نفط، يورانيوم، خشب…) كانت ستدخل في خانة التصريحات "العقيمة" لو أنها صدرت كالمعتاد عن منظمات حقوقية وإنسانية أو عن فاعلين يساريين متشددين غالبا ما يُنظر إلى كلامهم على أنه مجرد نفخات في رماد، ولكن المطالبة بالتوقف عن إفراغ إفريقيا من كل ما تملك من ثروات طبيعية وحتى إنسانية، جاءت قبل ستة أشهر على لسان شخصيات وازنة في المشهد السياسي الفرنسي على غرار زعيم الحركة الديمقراطية (يمين الوسط) فرانسوا بايرو، الذي أدان بشدة "السياسات الاستعمارية القاضية بنهب ثروات إفريقيا وفي مقدمتها اليورانيوم". ومن التهم الموجهة للشركة الحكومية الفرنسية "أريفا" التي تستغل اليورانيوم بالنيجر منذ أربعين عاما، نهب الموارد الطبيعية للبلاد، كما توجه لها انتقادات من قبل المعارضة النيجرية بالتسبب في انعكاسات كارثية لأنشطتها على البيئة والصحة وحقوق السكان القاطنين قرب المناجم. دعوة بايرو لقيت بالطبع تأييدا واسعا في الأوساط المناهضة للاستعمار الثقافي والاقتصادي الجديد القائم على صناعة وإنتاج طبقات حاكمة في إفريقيا تدور في فلك الحكومات الغربية وتنفذ رغباتها. ولكن الدعوة فضحت أيضا الواقع الإفريقي بمكوناته السياسية والاجتماعية حيث إفريقيا تتفوق عالميا في الكثير من المجالات. فهي الأولى فقرا (33 دولة إفريقية تحتل الصدارة من بين 44 دولة صنفها البنك الدولي الأكثر فقرا في العالم)، والأولى من حيث ضعف معدل الدخل الفردي وسوء التغذية، والأولى من حيث نسبة الأمية التي تفوق 46 في المئة، وكذلك الأولى عالميا من حيث تفشي الأمراض والأوبئة، والأولى في الكثير من الآفات التي ترتبط مبرراتها بشكل خاص بالسياسات الاستعمارية، وما نتج عنها منذ قرن ونصف من إقصاء للإنسان الإفريقي ونفي لمكوناته الاجتماعية والثقافية. ويحاول الرئيس فرانسوا هولاند اليوم تسطير إستراتيجية جديدة تتوخى توسيع شبكة علاقات فرنسا بحيث تتخطى مناطق نفوذها التقليدية إلى دول إفريقية جديدة كانت تابعة للنفوذ البريطاني والبرتغالي والبلجيكي. ويصر هولاند على أن تبقى فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة والفعل في الساحة الإفريقية، وترسيخ حقيقة أن إفريقيا تمثل أحد العوامل الثلاثة لمكانة فرنسا الدولية بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن والقدرة النووية التي تحتل فيها الرتبة الأولى عالميا قبل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وروسيا. وتتركز المصالح الفرنسية في البحث عن أسواق لتصريف المنتجات والسلع الفرنسية المصنعة، والحصول على مواد أولية لتنمية الصناعات الفرنسية. وحتى اليوم، ما زالت فرنسا المستورد الأول للمواد الخام والمصدر الأول للسلع المصنعة في بعض الدول الفرانكفونية، وأيضا المستثمر الأول في الدول الفرانكفونية. وتهدف فرنسا من وجودها في إفريقيا، إلى تحويل الفرانكفونية من تجمع ثقافي إلى حركة سياسية لإنشاء تجمع سياسي فرانكفوني في إفريقيا له صوت سياسي يؤخذ به في الساحة الدولية، وهو ما يعني إنشاء تيار سياسي مناهض للتيار الأنجلوسكسوني الأمريكي.