أ. د محمد جابر الأنصاري لا يملك أي مهتم بالشأن العربي والإسلامي إلا أن يقف أمام مغزى القرارات التي اتخذها الملك عبد الله بن عبد العزيز بشأن تطوير بعض المؤسسات الهامة في المملكة العربية السعودية. وإذا كان بعض تلك القرارات يندرج ضمن «المعتاد السياسي» كتعديل مناصب وزارية وعسكرية وإعادة تشكيل «مجلس الشورى» ، فإن قرارات أخرى يمكن اعتبارها ذات بُعد «إصلاحي وتاريخي»، وأبرزها: * تعيين سيدة مسؤولة عن تعليم البنات لأول مرة في تاريخ السعودية برتبة وزير في وزارة التربية والتعليم التي تولاها في الوقت ذاته وزير ذو ثقافة حديثة. * إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى بمشاركة أوسع لمذاهب إسلامية في انفتاح فكري وفقهي إسلامي حان وقته، هذا مع الاهتمام بتطع يم الجهاز القضائي بإشراف وبعناصر شابة أقدر على سرعة الحركة والبت. * تكييف المؤسسة الدينية، متمثلة في جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذات الصلاحيات الواسعة، بتعيين مسؤولين أقرب إلى فهم طبيعة المتغيرات والمستجدات في المجتمع والعالم. وفي حقيقة الأمر، فعندما كتبنا في هذا الموضع قبل أسبوعين عن نهج القفزات العالية في السياسة السعودية الذي استنه الملك عبد الله بن عبد العزيز لم نكن نتوقع صدور قرارات جديدة بهذه «القفزات العالية» في وقت قريب للغاية. ولكن من يتأمل في توقعات وتطلعات التطور والتغيير لدى الأجيال السعودية المختلفة، يدرك مدى الحاجة الى صدورها في أقرب وقت. ويمكن لدى النظر في أية تطويرات جذرية مقاربتها من زاوية سياسية ومن زاوية تاريخية. والرؤية الآنية لها يمكن أن تتفاوت تقييماً وقبولاً. أما الرؤية التاريخية فلها معاييرها وتقييمها المختلف. وقد تبدو التطورات السعودية، بالنسبة لمجتمعات عربية أخرى، أتيح لها أن تمر بمسارات أخرى في التطور، تطورات اعتيادية للغاية. لكنها حسب مواضعات المجتمع السعودي وواقعه، ليست كذلك. والمعول دائما على مدى استعداد البيئة المجتمعية وتقبلها للتغيير والتطوير. ومن يعرف المجتمع السعودي معرفة قريبة وحميمية يدرك أنه يضم قوى وعناصر تواقة للتغيير وملحة عليه، وقوى وعناصر أخرى ترفضه وتقاومه بشدة، وتريد البقاء على قديمها الذي نشأت وتثقفت عليه. وإن هذه القوى المحافظة هي الأقدر على الاحتشاد والضغط والتأثير، بينما القوى التحديثية الأخرى كمثيلاتها في العالم العربي والإسلامي لا تملك أسناناً سياسية!... لذلك فإن قرارات الملك عبد الله بن عبد العزيز، تستحق أن ينظر إليها من زاوية مدى الدور الذي يمكن أن تضطلع به الدولة العربية في الوقت الحاضر في القيام بالنقلة التطويرية والإصلاحية التي لابد منها في حلقات التحرك الانقاذي لتجاوز ترسبات الماضي الانحطاطي المعيق. (وهو غير الماضي الحضاري المجيد الذي توقف للأسف منذ قرون، ويتوهم الكثيرون من العرب والمسلمين إنه مرشح للعودة، هكذا اعتباطياً وعشوائيا، وبحلول سحرية!). ولا يملك الملاحظ للتطورات سياسة وتاريخاً وهو ينظر في مغزى القرارات التطويرية التي اتخذها الملك عبد الله بن عبد العزيز إلا أن يتذكر زمن التأسيس الأول للدولة المركزية في شبه الجزيرة العربية الذي أنجزه الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود والشجون والهموم التي واجهته وتصدى لها، ويمكن الرجوع الى الباحث السعودي تركي الحمد في دراساته بشأن الوضع السابق للدولة في الجزيرة العربية، ومغزى إقامتها. كما رصدنا ذلك في كتاب (تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994 ، ص 111). ولقد عدت هذه الأيام الى شيء من تاريخ ذلك التأسيس ولفتني في خطاب الملك عبد العزيز ثلاثة أمور: الأمر الأول: حرصه على الانفتاح على المذاهب الإسلامية والحديث عن مؤسسيها بالتقدير والحب، وذلك في معرض نفيه لانحصار السعودية في بوتقة «المذهبية الوهابية» التي ينفي عنها كونها «مذهباً» مخالفاً لمذاهب المسلمين، ويتهم خصومها بتسميتها بذلك. والأمر الثاني: اهتمامه الشديد «مجلس الشورى» التاريخي الذي كان قائما في عهده على ممارسة صلاحياته الشورية المقررة في مناقشة ميزانية الدولة ومشروعاتها وقراراتها وحرصه على افتتاحه في كل دوره بخطاب يلقيه بنفسه أو من ينوب عنه. وفي ذلك الوقت المبكر (الثلاثينيات من القرن الميلادي المنصرم). أما الأمر الثالث: ؟؟؟ مواطن سعودي لديه شكوى أياً كانت على التقدم بها إليه مباشرة، حتى لو كانت شكوى على أقرب المقربين في السلطة، مع تبيانه في بيانات بارزة منه لآليات توصيلها وعدم اطلاع أي مسؤول عليها (يراجع كتاب المصحف والسيف، جمع وإعداد: محي الدين القابسي) هذا بالإضافة الى الاهتمام اللافت لدى الملك عبد العزيز بشرح تطورات مختلف الأحداث للرأي العام العربي والاسلامي بما يكشف عن فهمه الفطري المتقدم لأهمية تأسيس الدولة المركزية الحديثة، والدفاع عنها، وخطورة الإعلام السياسي وأهميته البالغة في الوصول الى عقليات الناس في مجتمعه والمجتمعات الأخرى. ويستغرب القارئ لتاريخ الملك عبد العزيز كيف أن قوى المحافظة استطاعت التأثير وتحويل مجرى الأحداث بعد غيابه وجهة مختلفة، وذلك ما يجعل لقرارات الملك عبد الله التطويرية أهمية تاريخ في إعادة المجرى الى نبعه الأول مع الأخذ في الاعتبار متغيرات الزمن ومستجداته. والواقع إنه لابد من نهج «التطور»... أي نهج الإصلاح المتدرج أحببنا هذه الكلمة أم لم نحبها ! فالجمود انتحار تاريخي لا يمكن للأمم التي تود البقاء الاستمرار فيه. كما أن الطفرات الراديكالية «جربها عالمنا العربي ورأى محاذيرها ومخاطرها، فلابد إذن من نهج «التطور» الذي علينا أن نفهم أنه ضرورة تاريخية لامفر منها... ومن المؤسف ان مدرسة التطور «بأدبياتها وأفكارها وما تتضمنه من ضرورة تطوير النظم والحياة ككل لم نأخذ منها كعرب ومسلمين الى اضعف عناوينها وهي «الفرضية» التي لم تثبت علميا بأن (الانسان أصله قرد!) فخسرنا فكر التطور كله تحت تأثير الوهم المضحك (وشر البلية ما يضحك «التطور» في تلك الفرضية المنفرة!.. وفاتنا أن تعاقب الأديان السماوية ، نبيا بعد نبي، ورسولا بعد آخر بمثابة «تطور» أراده الله للبشر. وإن حديث القرآن الكريم عن الأحوال التي يتدرج فيها «الجنين» الى أن يكتمل هي حلقات «تطور» جديرة بالتأمل... والتأمل الصحيح لمغزاها ومعناها...! ومن محاسن الصدف إن قرارات الملك عبد الله التطويرية صدرت يوم احتفال البحرين بذكرى «ميثاق العمل مرسى» في الرابع عشر من شهر فبراير الجاري. وكان ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، عندما يسأل، عن موقف الجارة الكبرى القريبة، المملكة العربية السعودية، من الإصلاحات في البحرين يجيب (في ملمح ينم عن مدى القرب المتميز بين البلدين): «إننا في هذه المنطقة على نهج الملك «المصلح» عبد العزيز... لا أكثر ... ولا أقل!. ويبقى أن أحداثا كبيرة وقريبة قد تمر بالمنطقة العربية، وتلهي الناس عن تطورات السعودية التي تمثلت في قرارات الملك عبد الله بن عبد العزيز ، ولكن التاريخ، ومعه المجتمع السعودي المعني بها، سيحكمان في النهاية على جدواها. وهي في تقديرنا لها ما بعدها... حيث لايمكن ان يتوقف تطور الحياة الذي هو نبضها وتنفسها من أجل الحياة.