صدر للكاتب المغربي محمد زيطان عمل مسرحي جديد موسوم ب" سيدة المتوسط" عن منشورات ومضة ضمن سلسلة المكتبة المسرحية . ويعد هذا العمل الحلقة الثالثة في ثلاثيته المسرحية المكونة من" حدائق لوركا" و" غجر منتصف الليل". ونص" السيدة الحرة تفاعل خلاق بين الدراما والتاريخ. ذلك أن محمد زيطان سليل أسخيلوس يذكرنا بولع شكسبير بالتاريخ، الذي ترجمه في لحظات مبكرة عبر أعمال مسرحية من قبيل:" "هنري السادس" و" ريتشارد الثالث" و" الملك جون". وفي كلمة الأستاذ عبد العزيز الزروالي الموسومة ب:"نحو إعادة الإعتبار للإنتاج المسرحي" اعتبر أن الحركة المسرحية بالمغرب بلورت" في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ثقافة فاعلة في مجتمعها، مستنبثة لقيم الخير والحق والجمال، ومصوغة للجدل المتفاعل بين الخطابات الرمزية والخطابات الواقعية."و "سيدة المتوسط" تترجم هذا الوعي التاريخي وسعي محمد زيطان إلى كتابة ما لم يقل عبر تخييل سردي يتخد من البناء الفني والجمالي أساسا لخلق دلالات جديدة، انطلاقا من القدرة على إعادة الخلق، ونسج علاقات حميمية بين السيدة الحرة والقوى الفاعلة في المسرحية ليحدد المصائر المختلفة على نحو درامي مزوداً بخبرته المعرفية، وبماء شفشاون الذي جعله لا يحس بالعطش وهو في رحلته في صحراء الأحداث التاريخية. وتتسم هذه المسرحية المكونة من فصل أول يضم أربعة مشاهد، وفصل ثاني يضم خمسة مشاهد، وفصل أخير يضم ثلاثة مشاهد. بشخوصها الفاعلين بشكل قوي في فضاءات النص المسرحي: السيدة الحرة الشخصية المحورية في المسرحية. خير الدين بارباروسا، والماطاموروس، وسيلينا، ومرجانة الموريسكية، وابن الدراج، والصيرفي، والنحاس، والجنديان، والكهل خوسيه. ولعل في الإفتتاحية التي يهيمن فيها الفضاء- ساحة عامة بمدينة غرناطة- إشارة لمكون المكان وأهميته في هذا العمل المسرحي الذي يصور مشاهد من معاناة المورسكيين وهو ما يمكن ملاحظته في قول الماطاموروس" سنضرم النار في الكتب وأسفار المورسكيين.إنا عددناها وأحصيناها فكانت بالالاف المؤلفة.. مانحن بآمنين إذا لم نحرق كل مصنفاتهم وقريضهم ومخطوطاتهم التليدة." إن صوت السيدة الحرة التي لن تظهر إلا في المشهد الثاني في هذا العمل المسرحي لا يكتسب مشروعيته انطلاقا من التأريخ المعهود لمسار هذه المرأة، وإنما في الحركية، والحيوية التي تتمتع بها في عالمها الجديد الذي نسجه محمد زيطان عبر سياق الملاءمة ذلك أن مسرحية" سيدة المتوسط بوصفها دالا تشكل عبر سياقات مخصوصة يستقي مدلوله لدى محمد زيطان انطلاقا من تقاطعاته التاريخية والجمالية، وعلاقاته السوسيولوجية انسجاما مع رؤية لوسيان غولدمان لبنية العمل الأدبي.لأن محمد زيطان ليس مؤرخا يعيد سرد الأحداث، ولكنه مبدع يعيد تأويل الأحداث عبر التخييل السردي مستثمرا العلاقة القوية بين المسرح والتاريخ، ومقترحا نصه المسرحي بوصفه نصا خصبا بسماته الفنية والجمالية، فضلا عن درامية المحكي، وبالتالي فحقيقة حياة السيدة الحرة لدى محمد زيطان لا يمكن فهمها إلا على ضوء فصول هذه المسرحية التي يمكن وصفها بعملية تأويلية للتاريخ يحضر فيها الإنساني أكثر من الجرح الدامي لسقوط غرناطة والأندلس. ولاشك أن هذا التأويل خلق متعة مضاعفة في هذا العمل المسرحي الذي حافظ على خصوبة الدلالة التاريخية، وحافظ أكثر على درامية سيرة السيدة الحرة التي وسمها محمد زيطان بسيدة المتوسط التي ابنة أمير شفشاون علي بن موسى بن راشد بن علي بن سعيد ابن عبد الوهاب بن علال بن عبد السلام بن مشيش(917ه - 1511م)، فهي شريفة النسب علمية إدريسية حسنية، وقد ولدت السيدة الحرة بشفشاون حوالي سنة (900ه - 1493م) بمدينة شفشاون، وتربت ونشأت في بيت جهاد، فقد كان والدها الأمير علي بن موسى بن راشد ، مختط مدينة شفشاون، وقائدها، وتلقت تعليمها على يد أشهر العلماء والفقهاء بهذه المدينة، مما لا شك فيه أن هذه التربية ساهمت في جعل السيدة الحرة تحصل على ثقافة واسعة انعكست على تصرفاتها وقراراتها فيما بعد.وهي الأخت الشقيقة للوزير أبي سالم الأمير إبراهيم بن راشد، وزوجة قائد تطوان محمد المنظري، وحاكمة تطوان لأزيد من ثلاثة عقود، وزوجة السلطان أحمد الوطاسي (932 – 956) ابن السلطان محمد الشيخ (910 – 932). وقد ذهب الأستاذ محمد داود في كتابه تاريخ تطوان "...أنها لقبت بالحرة تمييزا لها عن الإماء، لأن الناس في ذلك العصر كانوا يكثرون من التسري بالجواري..." أما الأستاذ عبد القادر العافية فيرى أن أبوي السيدة الحرة اهتديا إلى هذا الاسم تيمنا بملكة غرناطة الذائعة الصيت، وأيضا لأن وثيقة عقد زواج السيدة الحرة بالسلطان أحمد الوطاسي، أتبثت بما لا مجال للشك أن اسم الأميرة الراشدية هو "الحرة" لا عائشة.وانتهت حياتها بشفشاون حيث كانت في رعاية أخيها الأمير محمد، وأنها دفنت برياض الزاوية الريسونية بهذه المدينة وما يزال قبرها معروفا وحاملا لاسمها إلى اليوم. وهدا العمل المسرحي الذي يعيد نسج سيرة هذه المرأة ارتباطا بالمشترك التاريخي، ونقصد بذلك ذاكرة الأندلس وفضاءات شفشاون هو ما دفع بمحمد زيطان لإعادة تأويل هذه السيرة بقوتها التاريخية عبر انفتاح العملية الإبداعية على الممكن الدلالي، انطلاقا من قدرته على العودة غلى تاريخ مدينة شفشاون، وإلى أحلك فترات الموريسكين في الأندلس، متوقفا عند الدور الكبير الذي لعبته ( السيدة الحرة ) بحكمتها وغيرتها وإقدامها، إلى جانب بعض رجال البحر- كخير الدين بارباروسا – ورجال من العدوتين وموكادور، فيما عرف بحركة الجهاد البحري في التخفيف من مأساة أهالي الأندلس وفي رد أطماع الإيبيريين عموما وتهافتهم على مرافئ المغرب الأقصى. وتبعا لهذا السياق تمكن محمد زيطان في نصه المسرحي الجديد من كتابة المحتمل انطلاقا من مرجعياته التاريخية، وتوظيفه لقواعد البناء المسرحي القريب أكثر من الملحمي، ليجعل من المتخيل التاريخي محايثا لهذه السيرة على نحو يتداخل فيه الأسطوري بالجمالي، عبر لوحات درامية آخادة تنتهي بدخول السيدة الحرة إلى غرناطة على رأس جيش عرمرم. وهي نهاية وضعها محمد زيطان انطلاقا من قدرته على تأويل التاريخ، وفتح نوافذ لإعادة نسج سيرة امرأة تحتل مكانة مرموقة في الذاكرة الثقافية لشمال المغرب. وهذا ما جعل المسرحي العراقي الدكتور فاضل الجاف يكتب قائلا:" في سيدة البحر يؤسس الكاتب المسرحي محمد زيطان مادته على سقوط الأندلس والأحداث التاريخية المكتنفة به، ومن ثم تسليم مفاتيح بوابات غرناطة إلى المحتلين، تلك ثيمة تاريخية أزلية عاصرت التاريخ البشري بأجيالها المتعاقبة ومازلنا نعيشها في أوطاننا هنا والآن. فكم من مدينة سلّمت مفاتيحها إلى المحتلين في زمننا الراهن، وكم من مفاتيح ستسلم لهم في المستقبل القريب.. و تغدو شفشاون والأندلس وبقية الأقاليم المتاخمة لهما أفضية للتحاور والتعايش والتعاطف والتعددية عند زيطان، وتلك ميزة نادرة في نصوصنا المسرحية،و باب جديد من بوابات الإنفتاح المسرحي يطرقها في سيدة المتوسط، بجرأة وشفافية، تتجاوز الفواصل والموانع بين البشر بإختلاف أجناسهم وأديانهم. وطالما الحب والتعاطف هما النغمة الحقيقية في ذوات شخصياته، فسيبقى العالم رحبا فسيحا والنص المسرحي قابلا للتأويل والتفسير ولقراءات مغايرة، وذلك لعمري هو جوهر المسرح وسمة النص الدرامي الحقيقي.." وقد كتب محمد زيطان نصه المسرحي في زمن ينعت بزمن الصورة حيث الهيمنة الكلية لمحمولات الثقافة الإلكترونية، واختفاء شبه تام لحفدة شكسبير، وصامويل بكيت. لكن صاحب" حدائق لوركا" ظل وفيا للمسرح كتابة وانشغالا أكاديميا. ولعل هذا العمل هو ثمرة تفكير وبحث طويل من أجل إنتاج نص يزاوج بين البعد التثقيفي التاريخي، وبين المتعة الفرجوية والجمالية لنص لا ريتوانى في فصوله الدرامية في التعبير عن قضايا وإشكالات مرتبطة بالجرح العربي الإسلامي بعد سقوط غرناطة، وبما لم يقل بصدد تاريخ المورسكيين بعد أكثر من أربعمائة عام. والسيدة الحرة المنتمية إلى هذه الفئة التي استقرت بشمال إفريقيا بعد الخروج المدوي من غرناطة، والتي يقدر الباحثون عدد السكان الذين طردوا من إسبانيا منذ 1609 إلى غاية 1614 بما يناهز أربعمائة ألف مورسكي طرد من ديارهم في إسبانيا. قادرة حسب نص محمد زيطان على إعادة هؤلاء إلى ديارهم، ولنقل غنها قادرة على غعادة النبش في سيرتهم والغحساس من جديد بجرحهم الغائر. لكن هذا الثقل التاريخي، والجرح الكبير يزيد من صعوبة التعامل مع شخصية مثل السيدة الحرة، وصاحب" أقواس الغواية" انطلاقا من وعيه التاريخي بسيرة هذه المرأة، وانطلاقا من خبرته الجمالية، استطاع أن ينسج هذه الخيوط ليشيد عالما يعج بحركية، وتفاعلات بين الشخوص. ليجعل الأمكنة تنفتح على سكانها الجدد (القراء). وهو ما يمكن تلمسه في هذه الصورة المسرحية من العمل المسرحي " سيدة المتوسط "كل ما أملك من مال..بل كل ما لدي من ذهب و من نفائس الحلي ، تذهب اليوم قبل الغد إلى المعوزين في قبائل أنجرة ، كلهم أهلي و عشيرتي . يجب أن توفرلهم سبل العيش الكريم. غدا أخرج إلى الناس عند أسوار المدينة، تجارا و فلاحين و محاربين بل و حتى عابري سبيل، سأخطب فيهم جميعا...كل من كان على سعة من أمره ،أو حباه الله نعمة و رزقا قليلا كان أم وفيرا ، فليرأف بإخوانه النازحين من أرض الأندلس الحبيبة ، و ليكن لهم نعم المكرم و المضيف كما سأكتب إلى السلطان في فاس ، ألتمس منه أن يخصص حصة من بيت مال المسلمين تكون عونا لهم و سندا ...ليت كل السواعد تجتمع نصرة لك يا غرناطة من مشارق الأرض إلى مغاربها. " ص 41 من النص المسرحي. في هذا المقام النصي / الدرامي تصبح السيدة الحرة منبعا للقيم الوجودية التي نفتقدها في عصرنا و مرآة تعكس مبادئ سامية و نبيلة ( الحرية . التضامن . التسامح...) إنها تتخذ صورة " البطل المخلص" المطلوب الأسطوري في كل عصر. لقد أضفى زيطان على السيدة الحرة هالة من السحر التاريخي/ الدرامي و جللها بمسحة جمالية أخاذة . فهي في النص شاعرة و فارسة و حكيمة و فاتنة . تسكن فكر المتلقي و تأخذ بألبابه فيتساءل لماذا لم تفرد كتب التاريخ ما يليق بهذه السيدة / الرمز من صفحات ؟ لماذا تم تجاهلها ؟ كل ما نعثر عليه في ذكرها وارد في بعض المراجع البرتغالية أو الإسبانية مع ندرة ما كتبه المغاربة حول هذه الشخصية. ولعل هذه العودة لكتابة الممكن والمحتمل في هذه السيرة هو احتفاء خاص بالتاريخ المورسكي، وإنصات لجرح السقوط.وكأن محمد زيطان آثر أن يأخذ مفاتيح البيت الأندلسي الذي يحتفظ به غالب الشفشاونيين المنحدريين من الأندلس ليعيد فتح الضفة المتاخمة لبيتهم الجديد ، ويعيد الاعتبار لهذه المرأة عبر الركح، وعبر هذا العمل الأدبي الجمالي. إنه احتفاء بالمرأة وبعطائها. وهو من ثمة عمل تكريمي للسيدة الحرة. ولا يتوخى محمد زيطان بهذا العمل تكرار الأحداث التاريخية المرتبطة بسيرة السيدة الحرة، ولكنه يراهن على فتح أوراش جديدة لإعادة قراءة التاريخ بالتخلص من النزعة التقريرية، والتزود بالرؤية الجمالية ليرى المؤول ما لا يراه غيره. ومحمد زيطان مند عمله المسرحي" أقواس الغواية" و" حدائق لوركا " و"غجر منتصف الليل" و" قصر البحر" وانتهاء ب" سيدة المتوسط" لا يتوانى تشييد حوارية نصية بين التاريخي والجمالي، وعيا منه بضرورة تأسيس مفهوم جديد للكتابة المسرحية التي تنفتح على السجل التاريخي استنادا لسياقاتها النوعية والبلاغية المخصوصة. ولعل هذا الأمر هو ما جعل نص" سيدة المتوسط" حافل بالحركة، والصوت، والأقوال المأثورة للسيدة الحرة لصناعة مشهدية حركية مؤثرة انطلاقا من النص المكتوب الذي يراعي البعد الوظيفي لكل المكونات البنائية، والمؤشرات النصية، والأساليب التعبيرية التي تجعل سيدة المتوسط تتمتع بقدر كبير من الحرية في الحركة داخل فضاءات المسرحية. وبهذا ينخرط محمد زيطان في تحقق كينونة الفعل المسرحي عبر المزاوجة بين الفعل الإنساني، والفعل الجمالي المنتمي لحقل الأدب الشاسع.