حين كتبت مقالا سابقا عن تجربة السينما الفلسطينية واعتبرتها صراعا ضد الأمواج، اخترت المخرجة الفلسطينية بثينة كنعان خوري أنموذجاً يمثل هذا الصراع، وحينها لم أكن قد التقيت بالمخرجة بثينة سابقاً، وحين سألني البعض عن سبب اختياري لها كأنموذج والساحة تموج بالمخرجين، إضافة لمن أطلقوا على أنفسهم هذا اللقب، وبغض النظر عن دوافع السائلين كنت أقول: تعجبني كمراقب جرأة هذه المخرجة، واختراقها للخطوط الحمراء في أعمالها، فهي أنثى في مجتمع للهيمنة الذكورية دورها وتأثيرها الكبير عليه، وهي بدأت عملها السينمائي في فترة الانتفاضة الأولى، في الوقت الذي كانت تحرق به دور السينما، بتأثير الفكر المحدود والضيق الذي بدأ يغيّم على أجواء فلسطين، وهي تقترب وتخترق الخطوط الحمراء بقوة بقضايا يعتبر الخوض فيها من المحرمات. وخلال مهرجان القصبة الدولي الثاني للسينما في مدينة رام الله، أتيح لي متابعة العديد من الأفلام الدولية والعربية والفلسطينية، وكان هذا الفيلم من الأفلام التي شدتني للكتابة عنها بقوة، وقد جاء فيلم "مغارة ماريا"، ليؤكد صحة الفكرة التي كونتها عن بثينة خوري من قبل أن التقي بها، ويؤكد هذه الفكرة التي رسخت في ذهني حين تعرفت عليها، فهذا الفيلم تحدث عن قضية هامة وحساسة يواجهها المجتمع، ألا وهي قضية جرائم القتل للنساء على خلفية الشرف، وهذا موضوع يعتبر الخوض فيه من المحرمات، وكما جاء على لسان أحد شخوص الفيلم وهي سيدة أنها قالت: الأرض والعرض أغلى ما نملك. ومن الجدير بالذكر أن المخرجة تعرضت للتهديد أثناء الإعداد لهذا الفيلم، حين تصويرها مشهد لحرق مجموعة من البيوت على خلفية جريمة شرف، تعرضت لتحطيم كاميراتها والتهديد بحرق بيتها وبيوت أهلها، لذا لم يكن من السهل إخراج هذا الفيلم، في الوقت الذي يندر أن نجد من له علاقة بهذه القضايا ويقبل بالتحدث عنها، فبعد جريمة القتل التي تحدث وتعتبر في نظر الغالبية غسل للعار، لا أحد عنده الرغبة بمجرد الحديث عن هذا الموضوع، وخاصة أهل القاتل والقتيلة، فالكل يريد أن ينسى الموضوع ولا يريد أن يتذكره، وضمن العلاقات العشائرية وعلاقات الجوار، لا أحد أيضاً لديه الاستعداد للحديث والمناقشة، فهذا النمط من الجرائم خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه أبداً، فصفحة العار كما تسمى قد طويت، والقاتل غسل شرفه، والقتيلة كأنها لم تكن ولا تبقى في الأذهان إلا كعبرة لغيرها، وحتى قبرها يكون مجهولاً ولا توضع الشواهد عليه، والجميع تقريباً يمارس عملية التستر على مثل هذه الجرائم، بما فيها القانون الرسمي والعرف العشائري، وهذا يدلل على حجم الصعوبات التي تواجه من يريد أن يخوض في هذا الموضوع، وحجم الجرأة والتحدي لدى المخرجة بثينة، فهي لم تسلم من التهديد حتى بعد عرض الفيلم كما في فترة إعداده. قبل بداية الفيلم وقفت المخرجة أمام الجمهور وتحدثت قليلاً وقالت: "نحن نتاج للمجتمع الذي نعيش فيه، والموضوع الذي يتحدث عنه الفيلم من قضايا المجتمع التي يتم تجاهل الحديث عنها، وقد واجهت صعوبات كثيرة خلال العامين الذين استغرقهما إنتاج الفيلم"، وأعتقد أن هذه المقدمة أعدت الجمهور مسبقاً لاستيعاب فكرة الفيلم، والاستعداد النفسي للمشاهدة والمحاورة بعد العرض. بدأ العرض بمشهد عام لبلدة جميلة، وهي أنموذج من بلدات الوطن، بلدة تتميز بجمالها وعراقتها التاريخية ومبانيها القديمة، تتعالى أصوات دقات أجراس الكنيسة، في مشهد رمزي وكأن البداية هي دعوة للتطهر من الأدران، أو دق ناقوس الخطر لاستشراء هذه الجرائم وانعكاساتها السلبية على المجتمع، مشاهد لأوراق تتطاير بفعل الهواء في الشارع، وكأن المخرجة أرادت أن تقول للمشاهد: يجب أن تطير هذه القضايا من مجتمعنا وتذهب في مهب الريح كما هذه الأوراق، مشهد لامرأة تنشر الغسيل على سطح بيتها وغير محجبة، مشهد آخر لامرأة محجبة تجر عربة فيها طفل، والطفل يرمز لجيل قادم لعله من يتمكن من إسدال الستار على مثل هذه الجرائم، كما أن مشهد المرأتين يشير إلى أن الحياة تسير والتعايش القائم في المجتمع لا بد أن يستمر، بين شقي أهل الوطن بمسيحييه ومسلميه، رجل يتفنن بنقش الحجارة الخاصة بالبناء، وكأن الكاميرا تقول لنا: هيا لنبدأ بالإعداد لبناء المستقبل الجديد والقادم. هذه المشاهد الرمزية في بداية الفيلم كانت هامة وتدل على رؤية فنية متميزة للمخرجة، فهي بدأت بإشارات ذات معنى ومغزى، ولم تبدأ بمشاهد الحرق الكبيرة للبيوت التي أوردتها لاحقاً، وهي لقطات حقيقية وقد تضمنها الفيلم على خلفية جريمة قتل تحت مسمى الشرف، مما جعل الفيلم ومنذ البداية يشير للرغبة بالبدء بحياة جديدة، ترمي من خلفها الماضي وتنظر للمستقبل، تستمر الكاميرا بالتنقل حتى تمر عن كنيسة قديمة ومقبرة، وصوت المخرجة يقول: الطيبة بلدي، وحين كنت صغيرة كنت أزور مكان مقدس اسمه "الخضر"، وكنت أشعل فيه الشموع من طفولتي، وهناك رأيت الدم لأول مرة، دم الخراف التي تذبح وتوزع لحومها على الفقراء والمحتاجين، وكانت هناك مغارة ماريا، والتي كانت تلفت نظري منذ الطفولة. تستمر مسيرة الكاميرا حتى تصل إلى مشهد مقبرة البلدة، عصفور يلتقط الطعام من بين القبور، في إشارة يمكن أن نفهمها أن الحياة لا تتوقف بالموت، تجمعٌ للنساء وامرأة تبكي، وصوت الراوية ما زال يتحدث: انه سبت الأموات الذي يحضر الأهالي لتذكر موتاهم، إلا ماريا فلا أحد يزورها ولا أحد يتذكرها، كانت صبية حلوة واتهمت بشرفها وعرضها من قبل أعمامها وزوجاتهم، وجرى إحضارها من بلدة أخرى وقتلها هنا، وتبين بعد الكشف الطبي عليها أنها عذراء بتول قتلت ظلماً وعدواناً، وقد أكدت أكثر من امرأة من كبار السن في الفيلم، أن ماريا كانت بريئة وقتلت ظلماً، ورغم العذر الذي قدمه من تسببوا في قتلها، وهو أنها عادت من البرية على فرس خلف راعٍ للمواشي بعد هطول الأمطار، فهو عذر بالتأكيد غير مقنع، ولا يعني أبداً وجود علاقة محرمة، وبتقديري الشخصي أن المسألة مختلفة تماماً، فكون الأعمام وزوجاتهم من دبروا المكيدة، فهذا يدل أن ماريا بلا أب ولا أم ولا إخوة، وربما قتلت من أجل الاستيلاء على أراضٍ تملكها أو إرث من قبل والديها، وما يشير لذلك أن من قاموا بتنفيذ عملية القتل ليس أقاربها، ففي قضايا الشرف يتم القتل كردة فعل مباشرة، ولا يتم الانتظار حتى يتم إبلاغ من أسمتهم المتحدثات بالفيلم "الثوار"، وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة هامة وهي: أن تلك الحقبة التاريخية التي كانت في ثلاثينات القرن الماضي، شهدت إلى جانب الثوار العديد من العصابات، التي تحمل السلاح وتتستر باسم الثورة والثوار، فمن غير المستبعد لجوء أصحاب المصلحة بعملية القتل، إلى أحد هذه العصابات مقابل مبلغ من المال لتنفيذ عملية القتل، ومن ثم يشاع أن الثوار من قتلوها، وفي تاريخ تلك المرحلة جرت أكثر من عملية تصفية حسابات، ونسبت في النهاية إلى الثوار البريئين منها، وقد سمعت من كبار العمر الذين عايشوا تلك المرحلة عن أكثر من قضية نسبت للثوار بدون وجه حق. بتقديري أن المخرجة قد نجحت باستخدام قصة ماريا، للربط بين الماضي والحاضر، وللإشارة إلى أن هذه الجرائم قديمة ومتأصلة في المجتمع، ولا فرق فيها بين مسيحي ومسلم، فهي تراث اجتماعي لم يتوقف، رغم تحريم الديانتين لقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. من هذا الماضي القديم تنطلق المخرجة للواقع الحالي، فهي تتحدث في فيلمها عن عدة قضايا، وان كنت ليس بصدد التحدث عن تفاصيل هذه القضايا، إلا أنه من الجدير بالذكر الإشارة إلى أن ردة فعل الأهل تكون عادة في غير الاتجاه الصحيح، فهناك قضية قتلت فيها فتاة بعد اكتشاف أهلها أنها حامل، وبعد انكشاف عملية القتل تكون ردة الفعل تجاه من اتهم بهذه القضية وأقاربه، فتحرق بيوت ويعتدى على أشخاص، وتأخذ القضية أبعادا كبيرة ومتشعبة، ليتبين في النهاية ومن خلال فحص الحمض النووي أن المتهم بريء من قضية حمل الفتاة، ولكن بعد أن دمرت حياته وأملاكه وأملاك أقاربه. وفي قضية أخرى تخرج إشاعات عن سلوك فتاة، وتصل هذه الأقاويل لشقيقها الذي يستل سكيناً ويهاجم أخته بسبعة طعنات، دون أن يحاول أن يتأكد أو أن يستمع من شقيقته، وإن رحمها الله ولم تمت، ويتبين براءتها من هذه الأقاويل، وتمضي فترة في العلاج والشقيق بالسجن، حتى ييسر الله لها من يتزوجها ويصالحها مع أهلها، ويقر الشقيق أنه نادم وارتكب جريمته تحت تأثير المجتمع، وأن المجتمع ما زال لم يتغير رغم كل ما جرى. استخدمت المخرجة أكثر من نموذج، قُتلت فيه فتيات بريئات على قارعة الطريق، وأديس على رقابهن بعد القتل، وفي الغالب تحت تأثير الأقاويل والإشاعات، وبدون التيقن من صحة الاتهامات ومحاولة المعالجة العقلانية، فهناك موروث اجتماعي ضاغط لا يسمح للعقل بأن يأخذ دوره، ولذا يكون اللجوء فوراً إلى القتل تحت بند غسل العار، وتبقى النظرة السلبية تجاه أهل المتهمة قائمة من المجتمع، حتى تتم عملية القتل فتصبح النظرة إلى القاتل أنه رجل غسل عاره وأعاد الاعتبار لشرفه، وكأن الشرف مقتصر على مثل هذه القضايا، بينما الشرف الوطني مهدور تحت سنابك جنود الاحتلال، والأدهى أنه يتبين في الغالب أن المتهمات بريئات مما نسب إليهن، لكن القضاء يمنح القاتل الأعذار المخففة، ويقضي فترة محدودة بالسجن، ليخرج بعدها وكأنه بطل غسل عاره، وحتى لو تبين براءة القتيلة، فالقضاء يمنح القاتل العذر المخفف، والمجتمع ينظر للعملية إعادة اعتبار. لم تكتفي المخرجة بهذه النماذج المغموسة بالدم، فتورد أنموذجاً آخر لفتاة صغيرة بالسن تريد أن تمارس الغناء مع فرقة تغني أغاني "الراب" الحديثة، والتي اقتحمت مجتمعنا ومجتمع الشباب، فتتلقى الفرقة التهديد من أقارب الفتاة، وتهدد الفتاة أيضاً وتُمنع من الغناء، حتى أن أمها تقول في الفيلم: هذه موسيقى شوارع ولن نسمح لابنتنا أن تمارسها، بينما تقول الابنة وأمام أمها: نعم موسيقى شوارع ولكنها فن ولا أخجل منها، وتتحدث شقيقة الفتاة بقولها: أصبحت أخشى على حياة أختي بسبب عشقها لهذا النمط من الغناء، ورفض المجتمع لأن تمارسه فتاة. بتقديري أن الفيلم تمكن من تحقيق العديد من القضايا، فهو ربط الماضي بالحاضر من خلال هذا الموروث الثقيل، أبرز بشاعة النتائج التي تترتب على مثل هذه الجرائم، أظهر كم من الجرائم ترتكب بتأثير المجتمع والأقاويل والإشاعات، وكم من الضحايا البريئات اللواتي ذهبن ضحية المجتمع، كما تمكنت من الإشارة إلى أن هذه الجرائم لا تختص بها طائفة بدون غيرها، فهي قضايا مجتمع وليست قضايا أديان. تمكنت المخرجة باستخدام الرموز من تصوير رغبات وآمال وطموحات نحو المستقبل، فالفيلم يعالج قضايا اجتماعية منتشرة في أنحاء الوطن، وليس في بقاع محددة جغرافياً، ومن هنا فإن عرض الفيلم جاء في مرحلة تتزايد فيها هذه الجرائم، ففي خلال الشهور الماضية فقط تمت عدة جرائم قتل للنساء تحت مسمى جرائم الشرف، توزعت جغرافياً على معظم مناطق الوطن، سواءً في الداخل الفلسطيني أو قطاع غزة أو الضفة الغربية، ورغم بعض الملاحظات الصغيرة التي سجلتها فليس هناك من عمل كامل، فإن هذا لا ينفي حجم الجهد الكبير الذي بذلته المخرجة في الفيلم، وإصرارها على نزع الستار عن قضية حساسة وتعريتها، رغم كل الضغوط التي مورست عليها. وقد يتساءل البعض عن الحلول وهل طرحتها المخرجة، وبتقديري ليست مهمة المخرجة طرح الحلول بمقدار ما كانت مهمتها عرض الأحداث وعرض الآراء المختلفة، وإن رأيت في العديد من المشاهد إشارة للحلول المفترضة، مثل ضرورة سيادة القانون، وضرورة عدم الانجرار وراء الإشاعات، وأيضاً كما نجد في قضية الفتاة التي أرادت أن تغني ومنعت وهددت، أنه يجب أن نتعامل مع كل جيل ضمن عقليته ومفاهيمه وطبيعة الحياة التي تختلف عن طبيعة حياة من سبقهم، فهم خلقوا لزمان غير زماننا. وفي إشارة رمزية واضحة، تمكنت المخرجة من وضع فكرة ضرورة أن يطوي المجتمع هذه الصفحة من الجرائم، فهي في البداية فتحت مغارة ماريا، واختتمت الفيلم بمشهد إغلاق المغارة، فأشارت بوضوح أنه قد حان الوقت لنغلق صفحة الماضي وننظر للمستقبل المشرق، كما هي صورة الشمس التي برزت، ولا يفتني الإشارة إلى التفاعل الكبير من قبل الجمهور، الذي أبدى تشجيعه وتأييده للمخرجة وجهودها، وكانت المناقشات مميزة حتى أنها أخذت وقتاً أكثر من الوقت المحدد، مما يدل على رغبة الجمهور بالتخلص من هذا الإرث الاجتماعي الثقيل، كما لا بد من الإشارة إن إدارة مهرجان القصبة كانت موفقة في إدراج هذا الفيلم ضمن عروض المهرجان، والحجم الكبير للحضور دلالة على حسن الاختيار، مقارنة ببعض من الأفلام الأخرى التي فشلت في جذب الجمهور.