مفتي القدس يشيد بدعم المغرب تحت قيادة جلالة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟        إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حو موتٍ بطيء قراءة في رواية''الغربة'' ل: عبد الله العروي "قصة خريف يحكيها رجل قتلته الوحدة وشاخ قبل الأوان"
نشر في طنجة الأدبية يوم 02 - 09 - 2011


الغُربة:
قدم عبد الله العروي في مؤلفه "الغربة"، نموذجا روائيا مستجدا ومميزا في الواقع الروائي المغربي، حيث رسم من خلاله رؤية فريدة للرواية كما تصورها النقاد المعاصرون في العالم الغربي. وقد عُد مؤلفه من بين كتب قلائل بادرت إلى تبني النموذج الجديد هذا في العالم العربي. وكان ذلك السبق في خريف سنة 1956، أي بالتزامن مع الاستقلال السياسي للمغرب. وقد ساهم هذا المعطى التاريخي بشكل كبير في تحديد الوجهة الرئيسة ورسم المسار العام الذي ستسير وفقه أجواء الرواية وأحداثها رفقة شخصيات اختارها عبد الله العروي لتكون عناصر فاعلة ومحركات لتلك الأحداث التي تبدو للقارئ في بادئ الأمر غير ذات حمولة وافية، ومع القراءة الواعية والمتعمقة يندمج متتبعي أحداث الرواية تدريجيا في جوها العام، كونها - أي الرواية- تحمل في طياتها أبعادا مختلفة تعالج مواضيع آنية متعلقة بالزمان والمكان ( خمسينيات القرن الماضي // استقلال المغرب)، مما جعل الكتاب يصدح بمواضيع شتى، ويتصدى لقضايا ذات أبعاد واسعة مرتبطة بجوانب ثقافية، سياسية، مجتمعاتية و اقتصادية لمغرب الخمسينات كما كان يتصوره عبد الله العروي وفق نظرة ثاقبة لكاتب ليس بالعادي؛ حيث إننا في حديثنا عن د.العروي فنحن نذكر المفكر، والناقد المؤرخ والفيلسوف: هذه الجوانب الثلاثة ساهمت في انبثاق رؤية وحدوية فريدة لكاتب مميز عن واقع متبدل وخاضع لصيرورة مكثفة وفق أحداث كبرى شهدتها البلاد في العصر موضوع الرواية وشهدها الفيلسوف الروائي بمنظوره الثاقب وبطريقته الخاصة، لتكون روايتنا هاته نتاج مخاض عسير لا يتصدى له سوى كاتب كبير كعبد الله العروي الذي نجح في رصد الأحداث بكل دقة، وعمد إلى طبع روايته هاته بطابعه الفكري الخاص عن طريق تعليقات تمس في الجوهر آراء، وأفكار وتصرفات شخصيات القصة.
إن واجب عدم إغفال العلاقة الوثيقة القائمة بين أحداث الرواية والواقع الآني المساير لتاريخ كتابة الرواية يحتم علينا استكناه أوجه وشروط هذه الربط وتلك العلاقة. فأحداث ''الغربة'' نِتاج مخيلة عبد الله العروي، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال مطابقة الواقع بشكل كامل، أو لنقل بطريقة ''نقلية''، حيث إن هذا الأمر يعد ضربا من أضرب التوثيق، ووجها من أوجه الكتابة التاريخية التي لطالما اقتحمها عبد الله العروي باعتباره باحثا تاريخيا. غير أن جنس المؤلف الذي راق للعروي فتح بابه لا يساعفه في قصد ذلك المسلك ولا اتباعه. وعليه، كان لزاما على كاتبنا إيجاد صيغة توالفية توافق مابين الواقع والمتخيل، وتمزج مابين الكائن والممكن. وقد حقق العروي هذه المعالقة بالسير على هُدى القولة التي صَدَّرَ بها مؤلفه: ''التاريخ رواية واقع، والرواية تاريخ متوقع'' (ل: أندريه جيد). وقد وظف العروي الثنائية التقابلية السابقة (الواقع// الخيال - الكائن//الممكن) في إطار بحث سبل دحر الفاسد من الكائن، والدفع بالصالح من الممكن إلى عالم الحقيقة بعدما كان مُستقره في عالم التخيل والرغبة والإرادة. و بتحقق هاته الأخيرة يكون الكاتب قد حقق الجزء الأكبر من رغبته الأساسية ومقصد العام الذي زج به إلى ولوج عالم الكتابة من الأساس.
وكما ذكرنا آنفا، يكون من الصعب على القارئ المتحين الذي يُجري قراءة سريعة فهم الأطوار الرئيسية للقصة، وبلوغ الدلالات العامة وتلك الخاصة للأحداث، وكذا استكناه المقاصد الأساسية للمؤلف في علاقتها، دوما، بشخصيات الرواية وبالإطار الذي تسير وفقه هاته الشخصيات.
فالمستعجل من القراء قد يرى في الرواية مجرد سرد لقصة شخص راكم المعاناة والهموم وملَ الحياة والانتظار من خلال أفكار "تيئيسية" تمضي في إطار تقليداوي ينشد الحداثة. ونحن في قرائتنا هاته سنحاول، بإذن الله، استكناه المقاصد التي يرمي إليها الكاتب على هَدْيِ الإطار القَصَصِي للرواية وتبعا لأحداثها.. مع التركيز على البطل الأول للرواية ''إدريس'' الذي يُسَيرها وفق نظرته الخاصة.
---------------- إدريس: الباحث عن كمال الإحساس
نجد لإدريس أوصاف عدة في الرواية، حيث حاول عبد الله العروي تنوير القراء بأكبر عدد ممكن من التحديدات المختلفة لبطل روايته، خصوصا النفسية منها.. وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى البُعد النفسي الذي يؤثث لجزء كبير من مساحة الرواية ويهيمن على باقي فضاء المؤلف، وهو البُعد الذي يتجسد بشكل جلي في ثنايا شخصيات الرواية، خصوصا منها: ادريس، مارية وشُعيب.
يبدو إدريس منذ البداية شخصا مقعد الفهم، ذا شخصية مركبة، متعدد الأبعاد النفسية وغامض البعد الروحاني. يتخبط بين الماضي والحاضر، ولا يُقيم رؤية واضحة للمستقبل. واختلال البعد الزماني لدى صاحبنا يظهر جليا من خلال علاقة هاته الشخصية بالأزمنة الثلاثة. فهو لا يقيم وزنا للثبات الروحي في الحاضر كما في الماضي، خلافا لنصيحة الأستاذ يوليوس لتلميذه الوفي عمر: ''لم أتغير بل تغير العالم.. لم أخن الدنيا بل الزمن خان الزمن.." ص.46، بل إن إدريس مُتْخَمٌ كُليةً بالتجديد والأفكار المستجدة المواكبة للتطورات المجتمعاتية للحضارة الإنسانية، حيث نجد لهذا العنصر ما يدل عليه في الرواية. يقول إدريس (مُبَيِنًا وجهة نظره عن المرأة في المجتمع): "(...) انظر يا أخي كيف تتغير المشاريع وكيف احتلت المرأة الصدارة بعد أن بدأت في القصة كرمز مناقض لحقيقة ثابتة ثم انقلب هذا الرمز إلى مخلوق ينبض حيوية.. ليست المرأة في هذا البلد مشكلة، إنها تندمج في مشاكل أعمق وأوسع وإذا ما ارتفعت فتاة عن الواقع وسابقت الزمن فإنها لا محالة تبعث الزوبعة (...)" ص.90. إن تمثيل ادريس بالمرأة في مسألة التجديد يطرح موضوعا ذا أبعادا وافية المعطيات. فرفض المجتمع لمسابقة الفتاة زمنها ومجاراته هو في الحقيقة رفضٌ لمعطى مستجد سيهدم الأفكار التقليدية هدما، وسيعوضها بأفكار آنية. ومهما اختلفت طبيعة هذا الوافد الجديد وتعددت الرُؤى بشأنه، فإنه لا محالة سيكون ذا تأثير عظيم على الأفكار التقليدية التي قاومت لسنين ورسخت في الأذهان واطمأنت لها الأنفس وتماشت معها الروح. فتتجه الأفكار الوافدة لخلخلة الثابت وزعزعته، وربما أزاحته بشكل كلي.. و ما ذلك الثابت سوى رمز أثير، ذي بعد حاضر مرتبط بالماضي وحاملٍ لرهان المستقبل. وكما لو أن ادريس يريد أن يوضح لنا صعوبة وقع التغيير في أنفس عناصر المجتمع، لاسيما منهم أولائك المتشبثون بالتقاليد، المحافظون على العادات والذين يدفعون التهديد عن تلك التقاليد وهذه العادات متى أحسوا بالخطر يزحف نحوها. وهم في ذلك يحافظون على النفس التي أَلِفَتْ أمورا بعينها، فإن أنت أردت تغيير تلك الأمور بارت الأنفس وضاعت.
إن العلاقة القائمة بين الأزمنة الثلاثة كما تصورها ادريس، وكما أوضحناها سلفا، مرتبطة بمسألة القديم والجديد بشكل واضح. وفي إطار بيان ثنائية القديم والجديد يقول صاحبنا في رصده للسنة التي تقضي بتقابل العنصرين: "لكل مدينة حيها القديم وحيها الجديد وكأن الدنيا في انفصام دائم" ص.90. لقد وضح ادريس فكرته بعبارة تبدو بديهية، وهي كذلك لتعرضها لسنة من سنن الطبيعة التي تقوم دوما على الاختلاف. غير أن الإشكال هنا نابع في بحثنا عن طبيعة العلاقة الموجودة، أو التي يجب أن تتحقق، بين العنصرين المتقابلين. وحسب وجهة نظر بطلنا فالانفصام هو سيد الموقف ولا تآلف بين المتناقِضَيْن،
مع ترجيح كفة الأصالة، حيث إن ''كل واحد منا راجع إلى مسقط الوجدان (و) كل منا يبحث عن منهله'' ص.36، وفي بحثه ذاك، ''(...) يصل (المرء) دائما إلى شاطئ أحلامه إن لم يكن اليوم فغدا وإن لم يكن هو فأخوه أو أبوه'' ص.87. وهذا يشير إلى تشبث ادريس بمنطق الحتمية، خصوصا بعد الوضعية اليائسة التي وصلها المجتمع، وبلغها معه بطلنا.
غير أن صرح الهوية والقيم الذي شيده ادريس في وعيه وفكره، أو بالأحرى حُمل على تَبَنِيه أيام شبابه الأولى حملاً، لم يكد يصمد طويلا بمجرد مجيء رياح الشمال التي حملت معها غبار الشك لتهدم الصرح رويدا رويدا، فيكون الهدم متدرجا ويصير البناء عسيرا.
ثم يهيم رجل بلا هوية ولا مقصدٍ باحثا عن صراط قويم ينجو به قاربه من أمواج اليأس ويصل به إلى بر الأمان. ولنا في حواره مع أبيه خير آية، حيث خاطب الشيخ ابنه قائلا: ''كان يقال في شبابي من أتمَ القرآن والآجرومية وسيدي خليل فتح الله عليه وأما من تعاطى الدمياطي صاحبه الزلط طوال حياته''.. لكن الابن أعلن بوادر ثورة هادئة لم يُكتب لها التحقق، ورد معارضا: ''يا أبتِ إن طرق الماضي مغلقة أمامنا فاتركنا نبحث عن طرق جديدة.. نريدها لازمة وعلنية''.
كان طلبُ ادريس لطرق جديدة نابعا من إحساسه، بل ويقينه، من أنه لاشيء تغير في بلدته، ولا في مدينته، ولا في البلاد بأكملها.. ''(...) نعم .. لم تتغير البلدة لكن السكان تغيروا وهم يظنون أنفسهم أنهم عند ماضيهم واقفون..'' ص.98، وقد بنى ادريس هذه الفكرة بعد أن عاد إلى بلدته بعد غياب، فلم يلاحظ تغييرا يذكر، رغم أن جميع الخطب كانت تُصَرِح بأن البلاد تمر بفترة تاريخية حاسمة وتعيش طفرة.
وفي سعينا لبيان الإشكالية من خلال وجهة أخرى، نتناول رأي شُعيب (صديق ادريس) في ثنائية القديم والجديد؛ حيث يشكل القديم بالنسبة لشعيب ملاذا آمنا يقيه الحيرة والشك، فمن الكتب الصفراء ،مثلا، انتهل أول مرة، وإليها يعود عندما تعجزه الحيلة.. بينما يقصد الكتب الملونة (رمز الجديد) عله يجد فيها راحة الضمير. وهنا يُناط بكل من العنصرين (القديم والجديد) وظائف مستقلة ومتباعدة تخدم البُعد النفسي والروحي في الإنسان. فإن هو مل صفار الكتب، قصد بهاء الألوان عَلَ عينه ترتاح لرؤيتها، وهكذا الإنسان يتراوح بين النهل من هذا وذاك حتى تستقيم النفس وتُشبع الروح.
إعياء غامض: تبدو شخصية ادريس في رواية الغربة هائمة في بحر لا تُعرف له سواحل، رغم كونه في ريعان شبابه ولم يمض في الحياة كما يجب ليعلن انكساره وبداية الاحتضار الذي سوف يبلغه في رواية ''اليتيم'' التي تعد امتدادا للمؤلف موضوع الدرس. كيف لا وهو يعلن في أيما موقف من مواقف الرواية هشاشته النفسية، وتخلخله الروحي، مصورا بذلك وضعية شيخ هام في الدنيا حتى بلغ الثمالة. يقول ادريس نفسه مصرحا بكل ما سبق: ''أنا ابن الثامنة والعشرين وكأن دور حياتي قد انتهى.. نعم رافقت هتلر ورومل ومازلت أعايش هيروهيتو وتيتو، لكني شاب. في الماضي كنت أعجب لكلام من قال إنه نشأ شيخا وشاخ طفلا. إن هذا الإعياء الذي لا يُضبط له سبب ولا يُدرك له موضوع، الذي ليس له شكل ولا مضمون، لعله لا يرتكز في حياتي بل في المدينة أو في هذه الغرفة، أو في هذه الساعة قريب العصر'' ص. 113. ثم محاولا تفسير هذا الإعياء الغامض: ''كيف يشعر ابن ثمان وعشرين سنة بهذا العياء؟ لقد قرأ أن مثل هذا التعب والسأم من علامات الإحجام الذي يعتري الشاب وهو في مقتبل الحياة وكان على استعداد لقبول الفكرة لو لم يسمعها أحيانا من صبيان أو شيوخ طال عهدهم بطعم الشباب..'' ص.177.
لم يتوصل ادريس بعد رحلته الطويلة عبر قارب أحداث الرواية لسبب إعياءٍ متواصل اشتعل في نفسه شرارةً شرارةً على امتداد الأحداث التي عصفت بالمجتمع. هل الحالة تلك نابعة من كُنه دواخله؟ أم هي نتاج لحالة من اليأس العام المتفشي في المجتمع؟ أم هي لعنة المكان تؤثر في العناصر التي يحويها؟ أم هو عنصر الزمان؟
لا يُدرك ادريس جوابا لهاته التساؤلات التي استحالت إشكالات عويصة عصفت به وبحياته وزادت من حدة السأم والتعب الذي اعتراه رغم محاولاته إناطة عناصر عامة أو خاصة بحالته تلك كالإحباط الذي قيل له إنه أمر عادي عند كل شاب يستقبل الحياة ويُشفق من متاعبها ومحنها، غير أن الثابت في مخيلته وفي فكره هو أن المركب اتخذ مسارا غير المسار، وحاد عن الصراط. وليس بطلنا سوى مكون مادي لهذه الحياة لا حيلة لديه اتجاه تغيير مسار مركب بأكمله لاسيما وأن ''الشعب متأخر جدا'' و ''لا يمكن العناد'' اتجاه تشخيص الوضعية السلبية تلك..ف''لا يمكن أن نتحكم في الزمن بل نحن عبيد الزمن (...)'' ص.109. واتجاه هذا الوضع يُذكر ادريس نفسه بالحل الذي آمن به بعد التغير السياسي والثقافي والاجتماعي وكيفية تدبير المرحلة (مرحلة ما بعد الاستقلال) حيث ذكر: ''أنا في الماضي كنت أطالب بالتعمق في البحث والتأني في العلاج واعتبار هذه الفترة مرحلة انتقال. الآن المشكلة مشكلة حضارة لا مشكلة سيادة أو قيادة.. لكن الحضارة لا تؤخذ كما يؤخذ هذا الكأس.. لابد من وقت ووقت طويل.. لماذا إذن التشاؤم ولماذا هذا العناد؟؟..'' ص.109.
الآن، ''كل الحلول تؤدي إلى نفس النتيجة وهذه هي المأساة'' ص.112، ولا مهرب سوى تقبل النتيجة التي آل إليها الوضع وانتظار الذي يأتي و لا يأتي، كانتظار ادريس لمارية التي سئمت الوضع الراهن، بل وحاقتها العلل من جراءه، فقررت الرحيل بعد مخاض نفسي عسير وطويل. و نحن نرى ادريس يطلب مارية في مناجاته المستغرقة في الزمن: ''هكذا تنقضي الليالي في انتظار شخص لا يجيب وهكذا تمر الأيام في تغير دائم غير واع (...)" ص 98.
قبل الصدمة الكبرى، وبعد خيبة أمل ادريس من الواقع الذي حاق بالبلاد بعد تحررها السياسي وقبيل استسلامه للفتور والوهن، مضى ادريس في محاولات يائسة لإيجاد حلول فردية تخرجه من حالة السأم والتعب الذي مسه في الجوهر. لكن الأحداث التالية ستبين مدى ضعف تلك الحلول التي بقيت منقوشة في جدار المخلية ولم تعرف طريقها إلى الواقع. فبعد التأسف على الواقع المر (''إننا لا نأسف على الماضي بل على عدم مسايرة الحاضر'' ص.97،) الذي أفرزه المخاض السياسي والثقافي، يعطي ادريس تشخيصا لحالة البلاد؛ ف''عندما رجعت المياه إلى مجاريها وكثرت الإشاعات وأسفر الحاضر عن أبعد الآمال وذهبت الوفود تهنئ بسلامة العودة، أحسست إحساسا قويا أن السير سيتعثر وقلت للعم آنذاك أننا كهذا الطائر قفز من المراح إلى الغصن وهَم أن يطير إلى السطح لكن خيطا رقيقا يمنعه من الوصول إلى بغيته. كذلك نحن مقيدون بخيط حريري لا يُرى، نحن أحرار طلقاء بين حدود لا يجوز لنا أن نتعداها'' ص.112. يبقى السؤال المؤرق والمُبهَم: ما الخيط الحريري الذي يكبل حرية الطائر ويحول دون تحليقه عاليا؟.
يظل ادريس، إذن، في حيرته وسأمه يسنده في ذلك إيمانه الذي يحميه من الحكم القاسي، ومن عقاب الوحدة والانعزال، ولسان حاله يردد: انسكبت مني الحياة منذ سنوات وتركتني ظلا أسعى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.