حدثنا حاتم ذو الهمة قال: أحلَّني أرضَ الحَيْرَةِ سَفرٌ قاصِد، فألفيْتُ أهلَها على ضلالةٍ ورأيٍ فاسِد. أينما حَلَلْتَ تَفجَعُكَ طوابيرُ آدمِية، ترشَحُ عَرَقا كأَنْ بلَّهَا قَطْرُ أرْمِيَة، زادَها الحَرُّ نَتْناً كنَتْنِ الجِيَف، ما رأى راءٍ ولا عَرَف! حتى تخال الناسَ أقنانا بِلا أسَل، يمشون الهُوَيْنا ويُساقون على مَهَل، إلى حيث السُّخرَةُ بلا كَلَل. وحيثما وَلَّيتَ وجهَك فثَمَّ تدافعٌ وزِحام، وحشدٌ من الناس بلا نظام. الناسُ مُصْطفُّون قبالة شبابيكَ من حديد، بمكتبٍ ليس فيه غيرُ مُوَظفٍ وحيد. صفوفٌ لفاتورة الكهرباء، وصفوف لفاتورة الماء. وأخرى لضَرائِبَ شَتَّى وكلامِ الهاتف، والناسُ بين مُستنِدٍ لِحائطٍ وواقف. ثم قال: وإذا أردتَ استلامَ الراتِب، فصبراً وَلا تُعاتِب! دونكَ بنكٌ أو بريد، على ثَرَى البلدِ السعيد، ثم اعْلَمْ أيها المواطنُ المحبوب، أنَّ الطابورَ عليكَ هو المَكتوب! ويا رُبَّ صفوفٍ مُضجِرة، قُدَّامَ مَكاتبَ مُقفِرَة، نظَمَت مُسِنِّين إلى حوامل، وعواجزَ إلى أرامل، ورُبَّ انتظارٍ كأنه الطُّلاطِل، ماطِلٍ مُمِلٍّ بلا طائل. فقال ريتشارد: إن كانت طوابيرُ الانتظار، ما طال الليلُ والنهار، قدَرَكُم المقدور، فهلاَّ بَشٌّ وحُبور؟ قال ذو الهمة: أسمعتَ لو ناديْتَ حَيّا، وأشفيْتَ لو داوَيْتَ عِيّا. قال ريتشارد: ليس أكثرَ مِن كَراسِي للجَميع، لا وَثيرةٍ ولا من الطِّرازِ الرَّفيع. ليس المُنَى أرائِك وحُجُب مُطرَّزة، يكفي الناسَ عباراتٌ مُحَفِّزة. ظِل ظليلٌ وشربةُ ماء، لمَرْضى السُّكَّريِّ ومَن أصابَهُ العَيَاء. قال ذو الهمة: ثم ماذا لو أرسَلوا الجُباةَ إلى البيوت، ماذا لو حصَّلوا غنائِمَهم في سُكوت؟ ماذا لو قلَّلوا من الوثائق، ماذا لو فعلوا المطلوب في دقائق؟ صَدِّقوني ليس الأمرُ معجزة، وجهٌ طليق ومواعيدُ منجَزَة. ماذا لو تَبسَّمَ عميدُ الشرطة، أكان التبسُّمُ سُبَّةً أم غلطة؟ ومتى اللينُ بذي اللينِ أزرى، وحَقُّه التعظيمُ وكان به أحْرَى؟ متى البشاشةُ كانت مَعرَّة، ومتى التوَدُّدُ صارَ مَضرَّة؟ متى أنقصَ الإحسانُ مِن جاه، والجاهُ كلُّه والمُلك لله؟ أم تُرى المتجهِّمَ لم يبلغه قول القائل: أتُراكَ تَغنمُ بالتبرُّمِ دِرهَما ؞؞؞ أم أنت تَخسَرُ بالبشاشةِ مَغنَما؟ قال ذو الهمة: و أغربُ مِمَّا في الخيال، ومما حكَتْهُ الجدَّاتُ للعِيال، أنَّ الوقوفَ لساعاتٍ طِوَال، يزيدُ حماسَ الرِّجال. وحين يؤدي المواطنُ ما عليه، ويُسْلِم مالَه بيَدَيْه، ويَرجعُ خاوِيَ الوفاض، كئيبا يشكو الأمراض، تنهالُ عليه التهاني العِظام، أنْ أدَّى الواجبَ وبَلَغ المَرام. ثم قال ذو الهمة: هذا والمُعَطَّلون في المنازِل، وهَمُّهُم من أعظمِ النوازِل. لا يخلو منهم بيتٌ ولا دار، وربما اجتمَعُوا عند جِدار. فماذا لو عَمَروا المَكاتِب، ولهم أجورٌ ورواتِب، فاشتغلوا بكَدٍّ ولا مَأرَبَة، فلا رِشًى ولا قَرابَة. قال أبو فراس: أوَيُدرِكُ القومُ عيْشَ المَرْحَمَة؟ أم تُرى الهوان لِلئيمِ مَرْأَمَة؟ فأنشأ ذو الهمة يقول: قِفا نبكِ مِن طُولِ انتِظارٍ بمَكتَبِ ؞؞؞ بأرضِ الخَنَا بين البُكورِ ومَغْرِبِ وقدْ أرْتجِي بُلوغَ أَرْبِي بسَاحِها ؞؞؞ فأَنْكُصُ والناسُ وَرائِي ومَأْرَبِي