على سبيل التقديم ما المقصود بالرؤية النقدية؟ هل هي ذاك التصور الذي يمتلكه الناقد تجاه النص الأدبي؟ ما الذي يحقق الرؤية النقدية؟ أهو التكرار والترتيب لما سبق وقيل، أم هي الجدة والاجتهاد؟ إلى أي حد يمكن للناقد أن يمتلك رؤية خاصة به، أم أن حافر نقده لابد وأن يقع على حافر غيره مادام النقد جادة ؟ هل يستطيع الناقد أن يبقى وفيا لمنظوره الذي انطلق منه، أم إنه يغيره تبعا لتغير مسار الكتابة؟ وما علاقة الهدف بالرؤية؟ وما مدى تدخل القرائن و التحققات ( الاستشهادات ) في تشكيل الرؤية النقدية؟ وأخيرا هل يمكن الاعتماد على طريقة اشتغال الناقد للتعرف على رؤيته النقدية؟ ولمحاولة تبين الرؤية النقدية عند ابن الأثير، ننطلق من بعض العناصر التي يمكن أن تفيد في وضع اليد على طريقة اشتغال هذا الناقد الألمعي: 1/ تجديد الهدف: إن تأخر ابن الأثير الزمني أعطاه ميزة خاصة، جعلته يمحص ما قيل في علم البيان، فاختار منه الذهب وترك الحطب، وزاد على ذلك بما أملاه عليه فكره وقاده إليه فهمه، فبنى بذلك تصورا جديدا جاء نتيجة رؤية ومنظور خاصين ، فهو لا يتكئ على كلام سابقيه اتكاء مباشرا فينقل ما قالوه نقلا لا جدة فيه ولا اجتهاد كالذي عرف عن أبي هلال من أنه لم يزد على أن رتب كلام الجاحظ وقدامة وابن طباطبا. إن القول بامتلاك الناقد منظورا خاصا به للنص الأدبي يمر أساسا عبر تحديد الهدف من الكتاب، الذي يتمثل أساسا في "معرفة علم البيان، والاطلاع عليه، والحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصع، وتخلب العقول فتخدع" ، إلا أن منطوق هذه العبارة لا يسعفنا في تعرف الغرض المنشود صراحة، ما يجعلنا نستشف ذلك من مفهومها وهو أن الناقد يهدف إلى أن يلم المعلم بقواعد العمل الأدبي لفظا ومعنى، شكلا ومضمونا. إذن فالهدف ( الغرض) ضمنيا كان أو صريحا يساعد في تلمس الرؤية النقدية لدى الناقد، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتحدث عن رؤية نقدية في غياب معلن أو صريح للهدف، فما الذي اعتمده ابن الأثير لتحقيق هدفه أعلاه؟ 2/ التقسيم المعتمد: قسم الناقد كتابه بعد فصول خصصها لمعالجة جملة من القضايا ( آلات علم البيان، الفصاحة والبلاغة) إلى مقالتين كبيرتين إحداهما في الصناعة اللفظية، والأخرى في الصناعة المعنوية، وكل مقالة تنقسم إلى أقسام، ونلاحظ من هذا التقسيم أن الناقد استطاع أن يجمع كل القضايا المرتبطة بالإبداع تحت مقالتين اثنتين، فإذا كان النقاد السابقون أمثال ابن رشيق قد تناولوا هذه القضايا كل واحدة بمعزل عن الأخرى،فإن ابن الأثير جلعها تحت سماء واحدة ونظمها في عقد واحد لا ينفرط، والسبب في ذلك -في اعتقادي- يقينه التام بالتداخل بين قضايا كل مقالة، فهي ليست معزولة كما قد يظن للوهلة الأولى، بل ترتبط فيما بينها بخيوط سميكة، تدور في الغالب على مسألتين طالما أثارتا قيلا وقالا هما: اللفظ والمعنى. فالجانب اللفظي للإبداع تشترك في تحقيقه الألفاظ المفردة والمركبة،هذه الألفاظ عندما تسبك ينتج عنها نظم، وتكرارها ينتج عنه سجع وتجنيس، وتوافقها في الوزن يخلق موازنة إلى غير ذلك.....، والجانب اللفظي المذكور لا يؤدي معنى بمنأى عن نظيره المعنوي، فهما مرتبطان ارتباط الجلد بالعظم. ومن خلال هذا التقسيم للصناعة(الإبداع) يتضح أن ابن الأثير يمتلك رؤية نقدية واضحة المعالم بارزة الملامح، فمجرد التقسيم ينبئ بوعي تام بالعملية النقدية، ففرق بين ناقد يعرف أين يضع رجله وبين آخر تخبط خبط عشواء. 3- الوقوف عند آراء السابقين: إن تحديد الرؤية النقدية عند ناقد معين يمر أساسا عبر استفادته ممن سبقوه، فهو لا يستطيع أن يحدد لنفسه مسارا يتبعه دون اقتفاء آثار سابقيه، لكن الاقتفاء ههنا لا يعني التكرار وتتبع الآثار بقدر ما يعني وضع بصمة خاصة به وإبداء آراء تظهر فيها الخصوصية النقدية. لا يتوانى ابن الأثير في التصريح أنه استفاد من سابقيه فيما كتبوه في علم البيان إن في الجامع الكبير أو في المثل السائر، ففي الجامع الكبير يصرح أنه اطلع على ما كتبه السابقون في علم البيان حتى اتضح له باديه وخافيه، وانكشفت له أقوال الأئمة المشهورين فيه كالرماني، والآمدي، والجاحظ، وقدامه، وأبي هلال و الحاتمي وابن سنان الخفاجي" ، نفس الأمر يكرره في خطبة المثل السائر وأنه تصفح ما كتبه الناس فلم يجد ضالته إلا في كتاب الموازنة وسر الفصاحة ، وحتى نتبين صدق دعواه نأخذ على ذلك أمثلة من الكتاب" ومن أوصاف الكلمة أن تكون مؤلفة من أقل الأوزان تركيبا، وهذا مما ذكره ابن سنان في كتابه" ،وفي باب التجنيس يذكر أن سابقيه صنفوا فيه كتبا كثيرة وجعلوه أبوابا متعددة، واختلفوا في ذلك وأدخلوا بعض تلك الأبواب في بعض" فمنهم عبد الله بن المعتز، وأبو علي الحاتمي، والقاضي الجرجاني، وقدامة بن جعفر الكاتب وغيرهم" . إن مجرد ذكر النقاد السابقين باسمهم وكذا الإشارة إلى كلامهم، ليؤكد أن ناقدنا كان له من سعة المعرفة وعمق الإدراك ما جعله يبني لنفسه اتجاها في النقد، يقتفي فيه آثار السابقين دون أن يقلدهم تقليدا، وهو أمر لم يكن ليتم لولا امتلاكه منظورا نقديا ينبني على الاجتهاد، هنا نتساءل ، إلى أي مدى كان ابن الأثير مجتهدا في آرائه، إذا علمنا أن الاجتهاد مدخل أساسي لتحقق ما يسمى بالرؤية النقدية؟ 4- الاجتهاد: إن الحديث عن رؤية متميزة للنص الأدبي لا يتم عبر التكرار والاجترار واقتفاء الآثار، بل يقوم على التجديد والاجتهاد ، ويعلن ابن الاثير أنه" ابتدع أشياء لم تكن قبله مبتدعة، ومنحه الله درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما هي متبعة" ، ولنأخذ أمثلة تبين لنا اجتهاده وعدم اتفاقه مع من سبقه، يقول" ومن أوصاف الكلمة أن تكون مؤلفة من أقل الأوزان تركيبا وهذا مما ذكره ابن سنان الخفاجي في كتابه ثم مثله بقول أبي الطيب المتنبي: إن الكرام بلا كرام منهم مثل القلوب بلا سويداواتها وقال : إن لفظة سويداواتها طويلة فلهذا قبحت وليس الأمر كما ذكره، فإن قبح هذه اللفظة لم يكن بسبب طولها إنما وهو لأنها في نفسها قبيحة وقد كانت وهي مفردة حسنة، فلما جمعت قبحت، لابسبب الطول، والدليل على ذلك أنه قد ورد في القرآن ألفاظ طوال وهي مع ذلك حسنة، كقوله تعالى" فسيكفيكهم الله" فإن هذه اللفظة تسعة أحرف وكقوله تعالى" ليستخلفنكم في الأرض" فإن هذه اللفظة عشرة أحرف وكلتاهما حسنة رائقة، ولو كان الطول مما يوجب قبحا لقبحت هاتان اللفظتان" ، ونلاحظ كيف أن الناقد لا يسلم برأي من سبقه بل يرفضه، وهو ما يؤكده اجتهاده في قبول أو رفض الآراء، فمدار القبح الملتصق باللفظة ليس مرده إلى الطول بل يرتبط أساسا بمكان اللفظة داخل الجملة أي أنها قبحها أو حسنها مرده إلى النظم والتركيب . والناظر في كلام الناقد عن التجنيس يدرك أنه يملك نظرة خاصة، ويستشف ذلك من قوله" وعلى هذا فإني نظرت في التجنيس وما شبه فأجري مجراه، فوجدته ينقسم إلى تسعة أقسام، واحد منها يدل على حقيقة التجنيس لأن لفظه واحد لا يختلف وستة أقسام مشبهة" ، وفي أثناء ذلك يستدل على تقسيمه بمجموعه من الأشعار وربما رد على من يدخل في التجنيس ما ليس منه : " وربما جهل بعض الناس فأدخل في التجنيس ما ليس منه نظرا إلى مساواة اللفظ دون اختلاف المعنى، فمن ذلك قول لأبي تمام: أظن الدمع في خدي سيبقى رسوما من بكائي في الرسوم وهذا ليس من التجنيس، إذ حد التجنيس هو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، وهذا البيت المشار إليه هو اتفاق اللفظ والمعنى معا وهذا مما ينبغي أن ننبه عليه ليعرف" . إن تقسيم الجناس أو أي عنصر آخر لا يمكن أن يتم لولا الرؤية الشاملة التي امتلكها الناقد حول ضروب الصناعة اللفظية والتي تحتل مكانا متميزا في الإبداع الأدبي، والأمر نفسه ينطبق على التصريع، فإذا كان الناقد لم يعرف التصريع وعده من السجع فإنه قد اجتهد في تقسيمه إلى سبع مراتب . إن مقارنة بسيطة بين عمل ابن الأثير في تقسيم التصريع إلى مراتب سبع و بين ما قام به ابن رشيق حين تطرقه للتصريع يبين لنا تميز ابن الأثير، وهو تميز حصل له عن طريق كد القريحة وشحذ الذهن والاجتهاد المتواصل . ومن الاجتهادات التي ساقها إبان حديثه عن المبادئ والافتتاحات " وأما إذا كان القصيد في حادثة من الحوادث، كفتح مقفل أو هزيمة جيش أو غير ذلك فإنه لا ينبغي أن يبدأ فيها بغزل، وإن فعل ذلك دل على ضعف قريحة الشاعر وقصوره عن الغاية، أو على جهله بوضع الكلام في مواضعه" ، والسبب أن" الغزل رقة محضة، والألفاظ التي تنظم في الحوادث المشار إليها من فحل الكلام ومتين القول، وهي ضد الغزل، وأيضا فإن الأسماع تكون متطلعة إلى ما يقال في تلك الحوادث والابتداء بالخوض في ذكرها لا الابتداء بالغزل، إذ المهم واجب التقديم" . ونلاحظ كيف أن ابن الاثير علل عدم جواز الابتداء بالغزل في الأمور العظام للفارق بين القولين في الرقة والجزالة والاختلاف في المقام ، وهو استنتاج بديع ينبئ بفهم بديع لقاعدة مطابقة الكلام لمقتضى الحال. 5- الاستشهادات: والسؤال في هذا الباب ينصب على طابع الجدة الذي تتميز به هذه الاستشهادات والقرائن، وسوف لن نطنب في القول لنكتفي بما أورده الناقد نفسه في الجامع الكبير، وكيف أنه تصفح آيات القرآن العزيز فاستخرج منه ضربا من علم البيان لم يأت به أحد من أولئك العلماء الأعيان ، إذن فالجدة في التحققات والقرائن آتية من كثرة اعتماده واتكائه على استشهادات جديدة فيها معالم ما يبحث عنه، فهو لم يستنجد بالشعر وحده في نظرته لعملية الصناعة (الإبداع) بل زاد على ذلك المنثور من كلام العرب وحديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا بالإضافة إلى القرآن الكريم الغاص بالشواهد. 6- طريقة الاشتغال: يتبع الناقد طريقة خاصة في اشتغاله، فهو يعرض أولا لآراء من سبقه، فيؤيد منها مايؤيد، ويدحض منها ما يدحض، مستعملا في ذلك أدلة يدافع بها عن رأيه ومقترحاته، وقد رأينا هذا الأمر حين اعتراضه على ابن سنان في رد سبب قبح لفظه" سويداواتها" إلى طولها وليس إلى مكان النظم وزيادة على الطريقة المذكورة، يفرغ الناقد جهده في الإكثار من الشواهد والأمثلة لتأكيد رأيه. 7- استعمال التعاريف: إن وضوح الرؤية عند أي ناقد تمر أساسا عبر التعاريف التي يسوقها كلما تحدث عن مسألة من المسائل، وابن الأثير لا يتوانى في الانطلاق في كلامه من تعاريف يبني عليها ما سيأتي،وقد اتضح لنا ذلك في التجنيس" وحقيقته أن يكون اللفظ واحدا ،والمعنى مختلفا وعلى هذا فإنه هو: اللفظ المشترك، و ماعداه فليس من التجنيس الحقيقي في شيء إلا أنه قد خرج من ذلك ما يسمى تجنيسا، وتلك تسمية بالمشابهة ، لا لأنها دالة على حقيقة المسمى بعينه" ،وعلى أساس هذا التعريف ينطلق في تحديد ما هو تجنيس مما هو شبيه به ، وليس دائما يبدأ بتعريف فهو لا يعرف شيئا إلا إذا كان الخلاف دائرا حوله أو اكتشف أن معناه سيقفل بابه دون المتلقي. 8- انسجام الرؤية مع الهدف: إن المتأمل في كتاب المثل السائر ليجد أن رؤية الناقد تنسجم بشكل أو بآخر مع الغرض الذي هدف إليه في بداية الكتاب، والحق أن الناقد بذل جهده في بيان كل ما استغلق من أمور على مدى تاريخ النقد العربي، وحاول وضع علم البيان على طبق من ذهب أمام المتلقي، معتمدا في ذلك على حسه النقدي العالي، وتمرسه بالنصوص، ودربته الكبيرة، وإذا كان هدفه هو معرفة علم البيان في لفظه ومعناه، فإنه قد تحقق، لأنه لم يترك شيئا متعلقا بالصناعة اللفظية أو المعنوية إلا وذكره وشرحه وفسره اعتماد على رؤية واضحة المعالم. على سبيل الختم: واعتماد على ما سبق ذكره ونشره نصل إلى تقرير ما يلي: لقد اعتمد ابن الأثير منظورا ( رؤية) نقديا بين المعالم، حيث حدد في بداية الكتاب الغرض الطامح إليه، واعتمد على آراء من سبقوه ولم يأل جهدا في الإتيان بالجديد، كما استعان باستشهادات تتسم بالجدة، و اعتمد طريقة اشتغال لازمته في كل أبواب الكتاب، هذا بالإضافة إلى التعاريف التي شكلت منطلق بحثه وتقصيه،ليصل في النهاية إلى تحقيق الهدف من وضع الكتاب، ما يعني تحقق الرؤية بشكل كبير. المصدر المعتمد : المثل السائر،ابن الاثير تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد،دار الكتب العصرية. بيروت.