الآن، عرفت لماذا كان أبي يحثني على الموت وسط الحشود في الشارع، وعرفت لماذا كان يأمرني بعدم الخوف من السجّان.. لأنه كان يعلم أن الزنزانة ستضم الحاكم أيضا. كان يقول لي: سيأتي يوم يُفاجِئُ الخوفُ الرجالَ ذوي الوجوه المدبّبة، وان سفينتهم ستغرق، وسيحيا من كان خفيفَ الوِزْر.. فطوبى للنازلين إلى القاع..؟؟ وكان يأمرني أن لا أسكن الأبراج العاجية.. وأن لا أخاف من العمارات التي بناها القراصنة من جيوب الجوعى، وعرق المكلومين.. وبكاء الصامتين.. وكان يأمرني بالوقوف في الصفوف الأمامية، حيث وَجْهُ الرصاص.. ولكي يرى ملايين الشهود دمي.. وتشيعني وردةٌ.. ومنديلٌ .. وقنديل.. وكان يحدثني عن الذين أُدخلوا مَخافرَ الأمن ولم يخرجوا. وكان يعلمني ألا أتخلى عن المُغَيّبين قسرا وبدون محاكمة.. وكان يقول لي: شيئان لا تثق فيهما، "البحر ورجال الأمن". كان يعلمني كيف أكون فقيرا، وكيف تَتَلَوّن الحِرباء، وكيف يتخلص الثعبان من جلده.. وكيف أكون وفيا للرفاق. ولما كبرت، بدأت أفكر فيما قال أبي.. فرأيت الدماء أنبتت في الشوارع ورودا، والمندسّون كانوا عميانا، يذرفون الرصاص على الياسمين، ويَحلِفُونَ في المحاكم، على يمين الحاكم، أنهم لم يطلقوا رصاصة.. ورأيت في الساحة، قرودا يرتدون زيا موحدا، يضربون رجلا ميتا بهراوات غليظة.. يضربون.. ويضربون حتى تحول صوفا. فحمله أحدهم، وعلقه على باب المدينة.. وهتفت مع الجماهير في وجه الحاكم الأكبر، وهو سجين في قصره، بعد ما خسر جميع أوراق اللعبة. وسمعت أحد الشهود يقول: اخرج سنُعيد اللعبة من أجلك..؟؟ لكن الحاكم بقي في البيت الزجاجي أعواما.. فناداه أبناء القبيلة: اخرج أتيناك بشقراوات، وأسلحة نووية، والكثير من الدولارات.. يكفي أن توقع العقد..! لم يخرج..! قالوا: اخرج سندفع عنك ديون العالم.. لم يخرج..! انتظروا سنوات.. فجاء الشُّقْرُ فحملوه على هودج، ووضعوه في قبر خارج الحدود. سألت مرة أبي: لماذا يمطروننا رصاصا، حين نطالب بالخبز والحرية.. قال: يا ولدي، هؤلاء القروش لن يسمحوا بالعطاء.. لقد اعتادوا على الأخذ. ولم أعد أسأل عن أي شيء، لأن الأشياء العظيمة تأتي عفوية.