في الحقيقة لم يشعل بايزيد غليونه يوما، بل كان يوهمنا بذلك، أو كنا نتوهم ذلك دون قصد منه، حيث كان كلما عنت له خاطرة ما وهو جالس بيننا في مقهى الأدباء، يضع يده في جيبه، يخرج علية الثقاب، يسوي غليونه مجددا، يرمي ببصره في الفضاء، كنا نحس من خلال حدة نظرته تلك أنه يرى شخصا ما، وخاصة أن ابتسامة جانبية كانت ترتسم على محياه. أثناء ذلك كان يشعل عود الثقاب، يقرب من فوهة غليونه، ثم يشرع في الحديث عن الموضوع الذي شغله تلك اللحظات .. كنا ننصت إليه مشدوهين، ودفء ما يعترينا .. في ذلك اليوم الذي كان آخر أيامه بيننا .. قال لنا بعد أن أشعل عود الثقاب : هل تعرفون أن الروائي الذي حصل على جائزة نوبل أمس، كان صديقا حميما لي .. ثم التفت نحونا مضيفا : مثلكم أنتم.. ثم أسهب قليلا: يعني الصداقة التي جمعتني به مثل هذه التي تجمعنا.. استغربنا .. دون أن ننبس ببنت شفة.. أطفأ عود الثقاب .. واستمر : قرأت له الرواية التي نالت إعجاب اللجنة، وصححت له بعض الأخطاء اللغوية.. نعم الأخطاء اللغوية ..لا تستغربوا.. ثم قلت له بالحرف الواحد : إذا نشرت هذه، ستتعرض لبعض المضايقات، لكنك ستربح في الأخير .. وحين سألني ما سيربح.. قلت له بأعلى صوتي – ورفع بايزيد صوته عاليا حتى أسمع كل من كانوا مثلنا داخل المقهى - : ستربح جائزة نوبل .. أتسمعني جائزة نوبل .. ثم قام بايزيد .. وانصرف .. ولم يعد من يومها .. ولم نعد نسمع من أخباره شيئا .. البعض يقول إنه جن .. وآخرون يقولون إنه اعتزل الناس في قرية جنوبية نائية .. وآخرون يقولون – وهم المتفائلون طبعا، المصدقون دائما لحديثه – إنه التحق بصديقه الحائز على جائزة نوبل، وإنه يعيش في شقة فخمة رفقة فتاة شقراء في ضواحي باريس .. لكن لا أحد من هؤلاء القائلين والمتحدثين.. تذكر أن بايزيد لم يكن يشعل غليونه أبدا ..