.. ما أجملك أيها الغروب لولا أن رحيلك يخلّف سماء كلها يعاسيب وجراد .. !قريتنا من بعيد تتراءى في عزلتها كعجوز تحفها الصخور والجنادل لتحكي لها حكايات زمن لا وجود له. هرْرْ..هرْرْ .. تصعد بشق الأنفس مُنعرجا هائما في القفار ثم تلتوي في وهدة كأنها أفعى يئن ظهرها من الحصى و الأخاديد.. ثم تعود إلى هرْرْ..هرْرْ .. ررررررررررررر..هْرْ.. ررر .. يتلاشى جبل في إثر جبل حتى آخر جبل .النسيم الحار يجرح وجهي وأنا على ظهر شاحنة بيدفورد أهتزّ كهودج على جَمَل هائج، والعالم كله يتطاير ويتراجع إلى الوراء .. قال رجل من العائدين متحسرا ومحدثا نفسه ومتذكرا مبنى الشركة العظيم ، غير عابئ بالنسيم الذي يشوي وجهه : - نعيش من فضل الله لولا أن الذئاب تطاردنا .. ! دخلتُ إلى الدار وعيون فضولية تطل من النوافذ المجاورة لدارنا.كان يرقب ما في يدي ويرتقب غنائمي المتدروشة، ويُمَنّي نفسه بأحلام كالجبال. ماذا تنتظر في زمن الانتظار يا..؟ بلغتُ حافة الدهشة وأنا أرنو إلى خصلات بيضاء متناثرة في ذقنه،وهو يهش على الفراغ ويطرد عن أنفه ذبابا شاردا، ويبتسم بلا مناسبة ويقول: - اجلس. - لماذا لم ترحب بي ؟ اصطكت الدهور والسنون في تقاسيم وجهه المستدير وكأنما حفرتها أنامل الأيام، ولا أدري لماذا يصر على أن يلاحقني بنظرات شزراء كل حين. ابتسم ثم قال متجاهلا لهفتي : - رأيتُ لك حلما . - ماذا يكون ؟ ضحك حتى آلمه بطنه وبرزت أسنانه الفضية، فأجاب ساخرا: - ماذا يكون ؟؟ ثم لأمي : - هل سمعتِ ؟ يقول ماذا يكون ..؟؟ ثم لي : - خيراً .. إنه في غاية الإشراق يا بني ! أدركت مراده، قلت بامتعاض : - يوم أسود إذن ؟ تجاهلني مرة أخرى : - لماذا جئتَ ؟ - لأراك وأمي. - أين ما طحنَتْهُ رحاك ؟ - ذَرَتْهُ الرياح .. - حلبوكَ إذن ..؟؟ - أعطني فرصة لأفسّر لك ! - تفسر ماذا بعد أن سقطَ منك ! - أبي ..؟؟ - حلبوكَ إذن ؟؟ - .. !! - حلبوكَ إذن ؟؟ - أبي ؟؟ - لا .. أْمِّي ؟؟ تجاهلني مرة أخرى بسخرية، ابتسم وأنشد في ندم : - سولتْ عليك العود والناي .. غرقتُ في الصمت، لم يكن لدي وقت للبكاء، فأبي كلامه فأس لا يميز ما يحفره ! أردت أن أتجاهله وكلامه عساه يكفُّ عن الحفر، فقلتُ وخيال الشّركة المشؤومة يتراءى لي - في سواد الليل - من خارج النافذة متربعا على أريكة من الدجى: - وماذا عن الحلم يا أبي ؟ تجاهلني مرة أخرى وأخرى .. ابتسم وأمسك يد أمي مهرولا إلى خارج الدار، ثم صفق الباب وقال من رواءه بصوت مبحوح : - هذا فراق بيني وبينك أيتها البقرة الحلوب. - على كل حال أنا غبي ..