إنه سؤال قديم يتكرر، ولكنه في الوقت نفسه قد يكون جديدا تبعا للسياق الذي يطرح فيه، ونتيجة لمتغيرات تستحث السائل على إيجاد مبررات جديدة تحافظ على جدوى الكتابة والكاتب، وتفتح سبل استمرارها وتجددها. وهذا هو ما يعطي للسؤال أهميته في مجال الأدب والنقد، والمعرفة بمختلف أشكالها، ويستوجب وضعه في السياقات الخاصة التي تفرضه بل وتجعله سؤالا ضروريا ومؤرقا للفرد ولكل من ينتظر الإجابة؛ أي المعنى الذي به تكون الكتابة ذات جدوى. لذا ليس هناك سؤال يطلب الإجابة بلا دوافع ولا مناسبة شرط ولا غاية، الإنسان في جوهر إنسانيته هو سؤاله: سؤال الإنسان بجميع صيغ التعبير عنه. والكاتب ليس كاتبا، والناقد أيضا، إلا مجموع اقتراحات الإجابة عن أسئلته، أي مشروع حياة تتجدد بطرح المزيد من الأسئلة وليس لها نهاية، حتى الصمت يتحول إلى صيغة سؤال.... ومناسبة هذا المقال رسالة صديق من الكتاب المغاربة، ورفيق طريق في مسيرة الأسئلة، وجدت نفسي أتمثل سؤالا لم يصرح به بصراحة، ولكني استخلصته ورأيته يكاد يجيب عنه إجابة إنكارية، إذ للخطاب مكره البلاغي، الذي يصرح ويستضمر، ينكر ويرغب. كتب الكاتب الكبير، من جملة ما جاء في رسالته : .......... كماعرفت، لقد كانت الكتابة بالنسبة لنا ممارسة تحد، تحد للفراغ، وتحد للضحالة، وإنجازا حداثيا يتحدى للقيم العتيقة في الشكل والمحتوى، الكاتبة تعبير عن أقوى درجات الوعي كنا معا في نفس الخندق.... وكنت أوافقك. بعضهم كان يؤول ما نكتب فيلصق بنا تهما إيديولوجيا اليسار، ربما كنت أنت مقتنعا بأن الكتابة دفاع عن مواقف وكما عرفتني وعرفتك، لقد كانت الكتابة خيارا وجوديا، كنا نكتب في زمن مضى لأننا نتحدى الكتابة بالكتابة، كنت أنت تراها أداة تحريض والتزام.... كنا نكتب، كنا صغارا نحترم الذين سبقونا، نعتز ونعترف بفضلهم،، نحن كنا نتنافس: نص يتحدى نصا ويأتي نص إثره يتحدى سابقه في مضمار الكتابة العنيدة وجدلها الساخن. لا أحد يتجاهل، لا أحد ينتقص. الرأي في مواجهة الرأي. حتى رفاقنا الذين ركبوا منطق الرفض والهجوم كان لهم منطق هو منطق المرحلة المشتعلة بالتناقضات والتصنيفات...... الآن اختلف الوضع. صرنا نكتب وحولنا تماسيح تنهش رؤوسنا، تقتطع من أجسادنا وكأنها معلقة في محل الجزارين، يبتلعون أكبادنا وقلوبنا ويتقيؤون، ثم لا يعرفون أسماءنا، أو على الحقيقة يتعمدون محو أسما ئنا... هل علينا أن نجعل أقلامنا سيوفا....؟؟؟؟ هذا بعض ما جاء في رسالة الكاتب الكبير الذي تعمدت عدم ذكره تفاديا للإحراج وتمسكا بأخلاق الكتاب وأنا أنشر مقتطفات رسالته والتي حفزتني عى طرح السؤال: ما معنى أن تكون كاتبا؟؟؟ ما معنى أن تكون كاتبا،؟؟ إنه السؤال القديم الجديد، والذي لو طرحته منذ أربعين سنة لما كان له الفحوى الذي يمكن أن يتشبع به وأنا أعود إليه اليوم. بل لن لا أتذكر الكثير من الإجابات التي وجدتها في قلبي مرة وفي عقلي مرة وفي أوراق الكتب التي سهرت بين سطورها سنين.. ولكني الآن أجدني على ناصية عالم لم يبق منه غير بقايا للتأمل وقد سقطت بعض معالمها ولم تعد جدرانها تضمن للعابرين رغبة الإقامة. فقط تغري اللصوص بسرقة نوافذها ورخامها ومصابيحها ونافوراتها، باعتبارها آثارا وملكا عاما، هل ذهب ذلك «التقديس الذي حف واحتفى بالكتابة»؟؟ لم تكن الكتابة مقدسة إلا في رؤوس كهنة المعابد، فهي شأن دنيوي ويختلف حقا عن بقية الشؤون، ولكن لا يفضل غيره في الجوهر، بل ليس هناك جوهر ولا حقيقة سوى ما يقرره الناس ممن يستطيعون التقرير والهيمنة، لذا علينا ألا ننزعج. والكاتب لا يمتلك تفويضا إلاهيا، ولكنه قد يسطو على موقع يمكنه من اللعب فيفرض لعبته، قد يكون مالكا لدور النشر، أو ذا حظوة لدى مؤسسة إعلامية، أو صاحب مواهب في النفاق، أو له خالة تستطيع أن تعمي عيون العشاق،، مثل هذا الكاتب موجود، وما أكثرهم وما اكثر حواريهم. هل نتحدث عن الكتابة؟؟ نعم لكن نحن نتحدث عنها، كما نتحدث عن ملعب أو سوق، وفي الملعب هناك من يريد أن يلعب وحده ويعترض على وجود غيره، وفي السوق هناك سماسرة ولصوص وشرطة وبائعو العاديات والجديد، وكل يعطي القيمة للشيئ أو يبخسها، والغش حق في نظر من لايملك قيمة... عزيزي الكاتب الكبير، لايجب أن نرهن قيمة ما نكتب بما يجري في السوق أو في ملعب العاطلين، لأن الكاتبة مراهنة ضد الزمن العابر.الكتابة تحد للنسيان والصمت. هي ذاكرة مفتوحة دائما على الزمن الآتي. كلماتنا لن يحبسها من يغرق في كأس مكعبة أو من يضع على رأسه قفة من جمل مناقفة تغري الأطفال والخنازير البرية والنمور الوردية،. نحن لا ننتظر اعترافا ممن يصولون في الملعب والسوق. نحن نكتب، والرهان في الكتابة على الكتابة لا غير. أخيرا أرجو أن تعتبر مقالي هذا جوابا عن السؤال الذي تركته بين سطور رسالتك حارا وقلقا، وعسى أن يتغير مجرى القلق والحرارة إلى قلب الورق. وأتمنى أن أقرأ لك في القريب بعض ما اختمر في قلبك وعقلك وتجسد في كتابتك...