محرك ودافع الأغتراب في المملكة السويدية ، مختلف ومتنوع ، بأختلاف وتنوع الآلآف من البشر الذين لجئوا اليها . فمنهم من قصدها ، بعد أن وجد نفسه محاصراَ ومهدداَ ، ومن جميع المنافذ . فكانت السويد بالنسبة له المنفذ والآمل الأخير في مكابدة الجور والطغيان ، والفوز بأطالة أمده في الحياة ، حتى تستمر قدرته على الصمود والتصدي والمواجهة . ومنهم من فضل الأغتراب فيها ، بعد أن تسرب الى نفسه وعقله الأحباط واليأس من أمكانية المواجهة بهدف التغيير، ففضل الهروب الى المجهول والذي أختاره في السويد . ومنهم من جاءها ، بعد أن أكتوى بنار الصرعات والحروب والكوارث التي ليس له طائل فيها ، فقصد السويد بهدف العيش والتناسل الآمن حتى يحين أجله الذي لاهروب منه . ومنهم من وصلها، بهدف تحسين أوضاعه المعيشية ، التي فقد الآمل تماماَ في تحسينها بموطنه الأم . ومنهم من شد الرحال إليها ، تناغماً مع ( المودة ) وعلى ( صيحات الدفوف والطبول ) لأن بعظهم يظن ، أو هكذا صورت له نفسه أن الجنة المفقودة ، إنما هيَّ وراء البحار . ومنهم من إبتغاها ، ترفاً وطمعاً بالملذات الدنيوية والغير متيسرة بالقدر المشبع ، في موطنه الأصل . والبعض القليل ، من اللاجئين السياسيين العرب عامة والعراقيين خاصة . ممن دفعت بهم الأقدار الى المملكة السويدية ، أستثمر هامش وجوده في ملاذه الآمن الجديد هذا ، في توظيفه بمواصلة ، ممارسه أنشطته وحراكه ، النابع من رؤيته الفكرية والسياسية والدينية ، دون أنقطاع . بينما الأغلبية من نفس الشريحة ، فضلت التقاعد عن أنشطتها النضالية السابقة ، في ظل الحياة المريحة التي وجدتها في المملكة وأسترخت لها ، مما دفعها للتفرغ والأنغماس في شؤنها الحياتية الخاصة في التكسب والأنشغال بالحياة الأسرية والتناسل والتفرغ المطلق في الأستمتاغ بملاذ الحياة السهلة التي وفرتها لهم ظروف المعيشة المستقرة في المملكة السويدية . قبل أرتحالي الى السويد في آواسط 1987 ، لم أكن ملماً بالقدر الكافي من الأحاطة ، بهذا البلد النائي تماماً عن خيالي وتفكيري وعن موطني ( العراق ) . إذ لم يكن يعنيني ، من شأن ولا من أهتمام خاص ، بهذا البلد الغريب والمجهول بلونه وطعمه ورائحته على الأقل بالنسبة ليَّ . سوى أمر في غاية الأهمية ، موصول بحاضري ومستقبلي . ويتصل بأمكانية العيش المؤقت فيه بأمان وبحرية وبكرامة ، ( بعدما ضاقت بيَّ الحيل والسبل ) . فهذا تحديدا ماكان يشغلني ويقلقني ، من شأن هذه البلاد ، وأمكانية توفر هذه الشروط الحياتية فيها بعدما تعذرت في غيرها . فجائتني التطمينات الموثوقة من ( صديق عزيز ) ، أبتلا بنفس ظروفي ومعاناتي ، في البحث عن ملأذ يأمن حياتنا ويصون كرامتنا . الرجل ( الصدوق ) هذا والذي سبقني الى السويد ، هو ذاته الذي كان برفقتي حين كنا نطرق أبواب الممثليات والسفارات العربية ، الواحدة تلو الأخرى ، آملين نجدتها وتعاطفها معنا ، في أحتضاننا وفي توفير فرصة العيش بكرامة لنا وأنتشالنا من محنتنا الأنسانية ، ( قد أسمعنا لو نادينا حيا و لكن لا حياة لمن تنادي ) . المهم أن رفيق دربيَّ هذا هو الذي حمل ليَّ هذه التطمينات . وبهذه التطمينات عقدت العزم لخوض التجربة في بلد أجهل أبجديته ، كجهلي في قراءة طلاسم مايحمله المسقبل ليَّ من مفاجأت . كيف قرأت هذا البلد الآمن ، بعد تجربة أقامة وعمل ، تجاوزة العشرين عام . منها عشرة أعوام في الترجمة ؟ ************************************************************************************** ************************************************************************************** المملكة السويدية ، كقريناتها من دول الغرب المستقرة و المنغمسة بالترف الرأسمالي الصارخ وجنون الأستهلاك الباذخ والفوارق الطبقية المقنعة وغياب الحميمية . والدفء الأجتماعي المفقود . تتجسد فيها ، كل أشكال المساواة القانونية وتغيب عنها إشراقة العدل الأجتماعي ، وشتان بين الأثنين ) ! فحين وطأت قدماي أرض هذه المملكة ومع مرور الوقت ، بدأت تدريجياً تتكشف ليَّ طلاسم ما كان في حكم الغيب من هذه التجربة . لم أنجرف في زوبعة الأنبهار والتقليد والأجترار والأنجرار والأنسلاخ ، كبعض أقراني من المغتربين حديثي العهد آنذاك . والفضل في هذه الحصانة يعود أساساً ، الى جذوري الأسرية والفكرية والسياسية الضاربة في أعماق ذهني والملامسة لسطح حواسي . والتي بدورها عززت من وشائج أرتباطي ببئتي العربية التي أفتخر بها وبالتمسك والأنشداد الى موروثها الثقافي والأجتماعي المشرق . زد على ذلك ، ثورة الأتصالات والتي لها فضل لاينكر ، في تمتين حلقة الوصل وتقريب المسافات ، بين المهجر والبيئة الأم . أضافة الى عملي المهني في حقل الترجمة ، الذي أتاح ليَّ هو الأخر ، بحكم متطلبات المهنة التي تقتضي العمل بين أبناء جلدتي ، من الوافدين الجدد الى المهجر . فعملي الوظيفي هذا ، صب هو الأخر في خانة تمتين وتعزيز تلك الأواصر وملء تلك الفجوة الطبيعية الناشئة في المهجر ، بالحفاظ على الهوية الثقافية طبق الأصل . أو أستبدالها بهوية المهجر الثقافية أو خلق التوازن ما بين الهويتين الثقافيتين . والمتجنسين العرب في المملكة السويدية ، والذين يشكلون نسبة عددية لايستهان بها ، بلغت حسب أحدث أحصائية لمصلحة الهجرة السويدية الى ما يزيد على الثلثمائة ألف متجنس . ومن بيئات عربية مختلفة . في المقدمة منها وحسب الكثافة العددية ، يتصدرهم العراقيون ويليهم ، الصوماليون والأرتيريون والفلسطينيون والسوريون واللبنانيون والمغربيون والتونسيون والليبيون وأقلهم عدداً الجزائريون والسودانيون والأردنيون والمصريون والموريتانيون . وهناك أعداد أقل من نفس الجنسيات المذكورة أعلاه تنتظر دورها في التجنس . أما أبناء الخليج العربي ، فيقتصر وجودهم في الجامعات والمعاهد التعليمية السويدية ، والمرسلين عبر بلدانهم ، بهدف التحصيل العلمي والأكاديمي . شكل الاتصال الثقافي للوافدين العرب هؤلاء ، المقيمون منهم والمتجنسون على حد سواء ، بأبناء البلد الأصلييون أشكالية ، يفترض أن تكون طبيعية من أشكاليات الهجرة . تمحورت حول موضوعة الأندماج ببلد المهجهر . إلا أن هذه الأشكالية والتي من المفترض أن تكون في حدودها الطبيعية ، قد تفاقمت للأسف وخرجت عن حدودها وباتت تشكل خطرا حقيقيا يحدق بالأمن و السلم الاجتماعي ، بين مكونات دولة المهجر . ولاشك أن لهذا التفاقم والذي ينذر بأخطار له أسباب ودوافع . المغتربين العرب والسكان الأصليون في غنى عنها . لأنها وبغفلة ، قد تقود الى كوارث تحرق الأخضر واليابس . ولتلخيص هذه الأشكالية المتفاقمة وتقريبها وتبسيطها الى ذهنية القارئ الكريم والحريص على الألمام بواقع أخوته من الجالية العربية ومعاناتهم في المملكة السويدية . أرتأيت أن أستشهد بتصريح غاية في الدقة ويلخص فحوى تلك المنغصات . لرئيسة الحزب الإشتراكي الديمقراطي السويدي ( منى سالين ) والمرشحة بقوة للأنتخابات البرلمانية المقبلة ، في تولي حقيبة رئاسة الوزراء وبالتحالف التقليدي مع حزبي ، اليسار والبيئة اليساريين . إذ تقول : ”” لقد صرفنا مليارات الكرونات على إقناع المهاجرين بضرورة الإندماج في المجتمع السويدي وكان يجب أن نصرف هذه المبالغ على إقناع السويديين بضرورة قبول الآخر”” ولكم أن تتصوروا مدى وحجم تصحر العلاقات الإنسانية الحميمية والدفء الأجتماعي بين الوافدين العرب وأبناء المملكة السويدية وبالأستناد الى الأعتراف أعلاه والذي يعد سيد الأدلة القاطعة بجسامة وضخامة هذه المعضلة والنذيرة بالشؤم .