رغم انني قرأت رواية "خالتي صفية والدير" للكاتب والأديب الكبير«بهاء طاهر» فور صدورها.. إلا انني شعرت برغبة في التعرف علي انطباع أديب مبدع آخر هو «أحمد الخميسي» بالنسبة لنفس هذه الرواية. يقول أحمد الخميسي ان هذه الرواية تشغل مكانة خاصة للغاية مستمدة من القدرة الأدبية التي لا نظير لها، ومن الضمير المرهف للروائي بهاء طاهر. وقد خرجت الرواية إلي النور عام 1991، وكانت من زاوية ما رد فعل علي أحداث العنف التي تلاحقت ما بين سنة 0891 0991 في جنوب مصر.. وقد سعي كاتب الرواية.. ونجح في ان يشعر القارئ عبر صفحات الرواية كلها بأن حياة المصريين واحدة، سواء أكانت في بيت مسيحي أم مسلم، وان اختلاف الدين لا يجعلنا مختلفين إلي درجة الصراع، لأن ما يجمعنا في الحياة أكثر بكثير وأقوي. وحتي عندما يصف الكاتب »الجلايات« التي يعيش فيها الرهبان داخل الأديرة، فإنه يصفها بحيث تبدو قريبة للبيوت داخل القرية. وتدور أحداث الرواية في قرية صغيرة في صعيد مصر تقع بالقرب من أحد الأديرة القبطية ويصف لنا الروائي الكبير في الفصل الأول وعنوانه »المقدس بشاي« حياة القرية والصلات الطيبة التي تربط ما بين أهلها، ويتذكر كيف كان ينتظر قدوم العيد ليحمل، وهو صبي صغير، الكعك إلي الدير، وكيف كان يلتقي هناك بالمقدس بشاي الذي يترك في نفس الصبي أثرا لا يمحي بمودته وطيبته. أما عن صفية، الشخصية الرئيسية، فإنها ليست خالة الراوي في الواقع، لكنها بنت خال أمه، إلا انه اعتاد أن يناديها بقوله »خالتي صفية«. يطرح بهاء طاهر منذ البداية وحدة تاريخ مصر، ثم يطرح صفية والدير، كحقيقتين لابد ان تتعايشا في وئام وحب. صفية تحب حربي قريبها وتقول عنه انه »مثل فلق القمر«، وحربي يعشقها. والقرية كلها تعلم ان صفية لحربي، وحربي لصفية. إلا ان »البك« صاحب القصر يطلب صفية زوجة له. ولا يمكن رد طلبه. هكذا تنصاع صفية وتتزوج »البك«، وتنجب له ابنه حسان. وتتحرك الوشاية لتلعب دورها حين يسمع »البك« بأن حربي يخطط لقتل حسان انتقاما منه. وتتعقد الأحداث بحيث يجد حربي نفسه مرغما علي قتل البك بالفعل، ومن ثم يتم سجنه. أما صفية التي كانت تعشق حربي فإن الكراهية تشعل قلبها كله الآن، ولم يعد يشغلها سوي ترقب خروج حربي من السجن لتقتله هي أو يقتله ابنها حسان. وعندما يخرج حربي من السجن لا يجد ملاذا سوي في الدير. وهنا يصبح الدير علي خط الاشتباك بين صفية وحربي، ويقول أحدهم لصفية: »ان خرج من الدير قتلناه، ولكننا لا نستطيع ان نقتله في الدير.. حرام« ويكرر فارس، زعيم المطاريد، المعني ذاته قائلا للقروي »حنين« باستنكار: »تريدني ان اعتدي علي الرهبان الذين أوصي عليهم ربنا سبحانه وتعالي في القرآن«؟ هنا يلاحظ كاتب هذه السطور ان العبارة الأخيرة جاءت علي لسان زعيم المطاريد، أي أحد محترفي ارتكاب الجرائم. ويقول أحمد الخميسي ان الرواية تنفي جذور الطائفية.. بالتأكيد علي المحبة التي تجمع أهل القرية، وبأن الدير كان يمثل فيما يمثل حماية لحربي المسلم، وفي ذلك المجال تحديدا نجح هذا العمل الأدبي في نقل رسالة حب تبدد أجواء الظلام القاتم. كل منهم.. وحيد الأحد: في الكتاب الذي نشره أحمد الخميسي بعنوان »الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين في مصر« عام 7002 يروي حكاية باب شقة صغيرة في الطابق الأول بعمارة في حي الظاهر، يسكنها الأستاذ موريس المحاسب في أحد البنوك وزوجته مدام جانيت التي تعمل في مدرسة تعليم لغات أجنبية قرب المنزل. الاثنان تجاوزا سن الانجاب دون ان ينجبا، لكنهما قانعان بحياتهما التي تمضي في هدوء. وفي العمارة، يوجد محمود البواب، الذي جاء منذ زمن وسكن أسفل السلالم وتوفيت زوجته وتركت له ابنة وحيدة صغيرة هي »هدي« التي تشتري للسكان وخاصة لمدام جانيت الحاجيات من المحلات الواقعة أمام العمارة. موريس وجانيت المحرومان من الأولاد أحسا بعطف علي البنت الصغيرة. وكان يحدث أحيانا، في أوقات المغرب، ان تأتي بالشاي أو الخبز للأستاذ موريس، وتدعوها مدام جانيت للجلوس: »اقعدي ياهدي استريحي وأنت طالعة نازلة طول النهار«. تجلس هدي علي حافة المقعد، وتحملق في شاشة التليفزيون إلي ان يناديها والدها لأن أحد سكان الطابق الثالث أو الرابع يطلب شيئا من محل بقالة، وتهرول هدي لتلبية الطلب. وعندما تخرج البنت يحل شعور خفيف قاتم في الصالة، وتبدو الحياة موحشة. يموت محمود، والد هدي، علي فرشته تحت السلم، ويكتشف سكان العمارة انهم لا يعرفون له بلدة أو أقارب أو عناوين. ويتولي أحد السكان جمع التبرعات من الشقق ويشترك مع الأستاذ موريس في انهاء الاجراءات ودفن الرجل. وأصبحت إقامة هدي عند الأستاذ وزوجته أمرا مسلما به. واشترت جانيت فستانا وحذاء جديدين للبنت، وأخذت تفكر في وضع سرير لها في الغرفة الصغيرة. لا أحد يعرف من الذي تفوه بكلمة أو ملاحظة عابرة أو سؤال، لكن الكلام راح ينتقل شيئا فشيئا من محل المكوجي إلي البقال، ومن صاحب البقالة إلي دكان العصير ثم إلي المقهي.. ومن رواد المهقي إلي الشقق والبيوت: »الأستاذ موريس أخد البنت الصغيرة وح يخليها نصرانية ويعلمها علي طريقتهم«. وبدأت الغمزات والتلميحات من جانب الصيدلي وصاحب المخبز ومحل البقالة في صيغة أسئلة تبدو بريئة في الظاهر. أدرك موريس المقصود بالكلام وشعر بارتباك. صحيح انه رجل متقدم في السن ومعروف انه طيب وعلي خلق، ولكن ليست هذه هي المشكلة.. بل توجد هناك قضية أخري! روي موريس الحكاية لزميل مقرب إليه، فنصحه علي الفور بأن يطرد البنت لكي لا يتسبب بقاؤها عنده في مشكلة في الشارع والحي، أبعد من ذلك النطاق! واحتج موريس بأن البنت مستريحة وتحب هذه الأسرة الصغيرة، ورد عليه زميله بقوله: »سيبك من حكاية مستريحة، مش ده الموضوع.. العملية أكبر من كده ياموريس«. يسأل موريس نفسه: كيف يطرد طفلة صغيرة بلا أهل ولا سند ويلقي بها إلي الشارع؟ ويوما بعد يوم، شعر بأن العيون تلاحقه وتترقب قراره. وتحولت الأسئلة إلي عبارات مباشرة. واتخذ قراره، وطلب من البنت مغادرة الشقة. انفجرت هدي في البكاء وسألت »أروح فين ياعم موريس؟ أنا ما اعرفش حد غيركم«. واستنجدت البنت بمدام جانيت، التي قمعت كل مشاعرها وأصبح وجهها متصلبا. قالت هدي انها لن تغادر المكان، واتجهت إلي الصالة لتراجع ما علمته اياها مدام جانيت من حروف الكتابة. واضطر موريس ان يجذبها من ذراعها بقوة ويضعها خارج باب الشقة. البنت ملتصقة بالباب.. تخمشه كالقطة وتبكي: »أنا زعلتك في حاجة ياعم موريس.. والنبي دخلني.. والنبي«. انهمرت دموع موريس وجانيت وراء الباب المغلق، لكن الباب ظل مغلقا. وخلف كل ناحية.. شخص وحيد بحاجة للآخر. يقول أحمد الخميسي ان كل ما أراده من قصته ان يدفع مع الآخرين الباب المغلق، ولو دفعة صغيرة،.. متشبثا بالأمل في ان ينفتح في الضمائر والنفوس. ما أشد الاختلاف بين زمن »خالتي صفية والدير« وبين زمن »الباب المغلق«! ولكن أحمد الخميسي علي حق.. فإن الباب لن يبقي مغلقا.. لأن فتحه من ضرورات الحياة والبقاء، خاصة اذا شارك الجميع في فتحه.. لكي تذهب بعيدا السموم المكتومة ويدخل الهواء النقي وضوء الشمس.