تنتابني من حين لآخر أسئلة ترهق تفكيري، و تحزن نفسي، و تحملني ما لا أطيق.. أسئلة ذات ارتباط وثيق بوجودنا الحضاري، و بدورنا في معركة التقدم و ازدهار الإنسانية.. أي هي نفسها الأسئلة التي أرقت رواد نهضتنا في أواخر القرن التاسع عشر، و النصف الأول من القرن العشرين.. و الحق يقال، أن جل رواد أمتنا اجتهدوا في صياغة بعض الأجوبة عن أسئلة شائكة و محرقة، دارت مجملها حول التخلف و التقدم، و الخرافة و المعرفة، و العدل و الاستبداد، و الديموقراطية و الديكتاتورية ؟؟؟؟ فهل تمكنوا في هدينا إلى الجواب الشافي ؟ هل ساهموا بما اقترحوه من أفكار و مناهج و حلول في تجاوز محنة الأوضاع المؤلمة التي ميزت عصرهم ؟ و ماتزال " ماركة مسجلة " لعصرنا الراهن ؟ لا أحد باستطاعته أن ينكر مساهماتهم الكبيرة و الرائدة، في إجلاء الغشاوة عن أعيننا، و في نفض غبار التقليد و العجز عن عقولنا و قلوبنا و أرواحنا.. و في رسم خريطة طريق للنهضة و التحرر، كفيلة بأن تميز نوعية هويتنا، و ترفع من قدرنا في مواجهة خصومنا، و تضمن لكرامتنا عزتها و وقارها و هيبتها.. لكن لماذا لم يحققوا ما سطروه في أجندتهم من أهداف و أحلام و غايات ؟ ألأنهم كانوا في مواقع بعيدة عن صناعة القرار ؟ قرار التنفيذ و الحسم ؟ أم أنهم كانوا يغردون خارج السرب ؟ سرب الساسة، و أهل الحل و العقد، و أولي الأمر و النهي ؟ لقد ماتوا جميعا اليوم، و التحقوا بالرفيق الأعلى، بعد أن أبلوا البلاء الحسن في استنهاض الهمم، و استنفار العقول، و التحريض على العيش خارج أسوار الخنوع و الاستسلام.. ماتوا جميعا، و لم تعد في دنيانا سوى أسمائهم اللامعة: جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و عبد الرحمن الكواكبي و بلعربي العلوي و شكيب أرسلان و الطاهر عاشور و عبد الحميد بن باديس و غيرهم كثر، يعجز مثل هذا الحيز " مساحة للنقاش " عن ذكرهم بأسمائهم.. فبالأحرى أفكارهم و مشاريعهم النهضوية.. قد يبدو حديثي من المواضيع التي استهلكت، و لم يعد يسمح بها الوقت حسب تعابيرنا العامية.. لكن بالمقابل هل أضفنا ما تبقى من الأجوبة عن الأسئلة التي أورثها هؤلاء الرواد لنا ؟ بل هل اجتهدنا في الرد على ما استجد من أسئلة بلورها عصرنا الراهن.. و ما أكثرها و أعقدها و أصعبها ؟ ما هي طبيعة الأجوبة التي يمكن لنا الإدلاء بها أمام أسئلة مثل الاحتكام إلى الديموقراطية، و احترام حقوق الإنسان، و الالتزام بعدالة توزيع الثروات، و ترسيخ ثقافة المحاسبة و المتابعة و المساءلة، و تجسيد حرية الرأي و التعبير و النشر و الاحتجاج و المعارضة.. بل ما هو جوابنا حول سؤال الدستور ( في كل بلاد العرب بدون استثناء ) بما يعنيه من إصلاح و تغيير و تهذيب و تنقيح و تجويد ؟ إن من الأمانة - و نحن نستحضر عمل رواد نهضتنا - أن نتبنى أسئلتهم جميعها، و نضيفها إلى أسئلتنا الجديدة، التي لم تكن قد نضجت و كشفت عن أكمامها في عصرهم، و أن نركب الصعب في نسج أجوبة عنها ( قدر المستطاع )، لعلنا نحقق بعض ما لم يحققوه قبلنا.. رغم أن بعض ساستنا أسرع من بعض ساستهم في رفض الحق، و في لي عنق القانون، و في الانقلاب على الديموقراطية.. و لكنها الأمانة التي أورثونا لنا.. أمانة قد تتطلب منا جهدا و مشقة، و نفورا من الراحة.. و ركونا إلى النشاط و الابتلاء.