فتنة بدوي.. تفاحتان عليهما دم مراق. حرارة من جَلنار.الإثنتان أغدقتا في ذكاء اللون تسبحان شمالا،تكتسبان الشكل منه.إجاصات ثلاث غرقن يمينا في العسل وانسكاب الدلال العابث؛ لا يفصل بيننا سوى خيط العبق الرفيع. وذي خوخة طرية اغتبطت في نار الشقائق لا أكاد أطرد عنها نظراتي حتى تستقر ثانية عليها،فإذا هي لكأنما تملكت حجما أكبر وفضاء جديدا! ما هذا البذخ المستحضرالمستفز لشهية تورط وانفتاح نهم مسبوق بلعاب؟..فاكهة تستهويك تلهو بجوارحك ، حواسك وذاكرتها.ها مدُ طرفك لامسني، ذق مما تشتهي!. تحثك فتستجيب.أنا صافية المنبت ،المجرى والقطف. تهمَ أنت ولا تجرؤ. الطاولة كدعابة هيئتها أنيقة.تموضع الكوكتيل عليها جَد مستساغ. يمهل النظرات ولا يزعجها حتى يمرح فيه الذوق ما بين ترتيب وإهمال ، هكذا ليروق كل مزاج.
وأنت تقف حذو العقل المتفائل ، حدثني يا سيدي عن هذا الاستفزاز المريب. من أين جئتم بكل هذا الترف المباح لخيال الخاصة ؟..مزية ولاككل المزايا. وجبة ولا ككل الوجبات. نقيض يبعثرني شتاتا في متناول أزقتكم وأنهجكم ، يجعلني أستطرد قصة الاستفهام دونما خجل. ولأنني عربي فالاستطراد يا سيدي هو إرثي الوحيد الذي حرص على حفظه لي أجدادي. محض صدفة جاء حضوري على عكس هذا الوافد على الذمة يتأمل غير آبه بمماحك انخرط يرشق أسماع الزوار بعبارات مخادعة. مدارات..أحاديث على درجة من الازدحام. يشكو الرواق المدبج للغرض تخمة في العرض!.. هنا أكسيجين الحياة ، راحة الأرواح ..صدى إنسانية يطفو!.. لعلَه ضرب من الدهشة إذ وقفت أمم اللوحة أزدرد يقظة أصباغها. كوامني في استنفار تدفقت في توهج. كم ذا أستطيب المقام وكم يظل يلزمني لأستعيد توزنا بالمعادلة ؟..دعني قليلا أتعرف على ذاكرة حواسي وهي تستأنف نشاطها المتشظي...كأنما إكبارا حدود مخيالي، نطَ بذهني أحد الأسماء التي تثير به ما عقلت لها بوريقات كناش من جملة ما قرأت: -علينا بالفن كي لا نموت بالحقيقة *." عفوا يا سيدي ، فنَكم اشتباك تشنج صرف ، لا ينسيني حقيقتي بل يزيدها مجابهة لي. يذكرني الآن بمغص في الأمعاء. البارحة عجزت على دفع سعر كعكتين لبائع متجول ، فاقتصرت على كعكة يتيمة وبتَ أدَعي بأن الماء أفضل ما يستوجبه قضاء ليلة صيفية. الأشكال، الألوان، المضامين..عبث سلطانها بسحنة الزوار.وحده الذوق أطبق يرسم نقاط تعجب. لست حذقا ولا أدعي مدنية سلوك ، فأنا بدوي في كل اتجاه. غير أن الشيء بالشيء يذكر...ثمَة لوحة تماما في قصي زاوية الرواق، سرها الخاشع استوقف أكثر من كوكبة.ما مرت إحداها إلا وحانت من بعضهم التفاتة عطف مغلَفة بشفقة ، تلوَح بأن اللوحة حقا آسرة.هي ذي لوحة الطفل الباكي المشهورة. كيف لي بإخفاء تبرمي عنها لما أعيرها من تأويلات أغلب ضني لا يوافقني عنها عشاقها...لا يهم ! فاللوحة طال سيطها الآفاق وليس رأيي ما سيقلل من شأنها أو يطفيء من إشراق رونقها ، بعد أن عانقت دور الدنيا واكتسحت المطابخ . ربما أدخلت شيئا من الوقار حتى على نفوس الخدم والحشم. أبواب السماء..
ستائر المخمل مسدولة بشكل يبيح للغرفة رشف ضوء النَهار. هذا يريحني أكثر ، فغرفة لا يمرح غزل الشمس فيها لا تستيقظ. حاجتي للشمس حاجة مزاج أمره محسوم.أنا خلاصة لطقس شموس تصحو ببلد، ترشه ، تلفَه تجلده ولا تؤذيه. تصحو تناديه : أنا ثروة وبالمجان!.. غير أننا طيبون ولأننا كذلك نريدها للمزاج لاغير. شكل الستائر يبدو على نوافذ الخان أجنحة حمائم تتوثَب للطيران. النظافة والأناقة فيه على صلح مستديم. صاحبة الخان ذواقة ومن طراز محافظ : -أمسكو عن عادات سيئة ، أنا لا أريد جعَات شراب أو شيئا من هذا القبيل. صرامتها في تدبير الشؤون، نبرتها الآمرة لم يعفياني من مراقبة هندامها وهي تنصرف جارة ذيلا أسود لأجنحتها المسيحية. عند الظهيرة قضمت خبزا وحبة تفاح لم أذق أشهى وألذَ. حمدلت ، كبَرت ، صلَيت. الوساوس التي راودتها بشأني، طردتها بعد مراقبتها لطقوس صلاتي. شاء غروب شمس البارحة أن يشهد خيال شخصي وأنا أرشف بمعيتها قهوة معطرة أعدتها خصيصا بمقصورتها ثم دعتني لأقاسمها لحظات ثقة وطدتها أبواب السماء. حليب البمبيني *.. الوقت متخفَ وزئبقي... هي ساعة أو تزيد، جمحت بي الأفكار بعيدا.. استلَني هوى النفس تمشَيت مفتونا . هذي روما على مصراعيها كل الطرق تؤدي إليها. أنا الآن ملء أحضانها تهب لي متسعا شاغرا. هنا الآثار الناجية من الزمن تنفث رائحة قياصرتها وملوكها. ها ساحاتها..باحاتها..تذهب فلول فضول. تخمد قليلا رغبة قيصرية ، كم راودتني هنالك يشكل لا يوصف. على الأحرى أرغمتني هنا على جلوس مباغت فوق مقعد حجري مباغت صامت لا يكلم الدنيا إلاَ تهكما بها.إذا ما حانت مني التفاتة ، تشبثت أطالع ذاك المحياَ الأشقر يشع كينبوع ، رحت أوغل في الشرود: – أتراه طيف كليوباترا سعى حقبا ضوئية خصَيصا ليتوزع في سمات حسناوات روما كيما يبعث في الدنيا الهيام القديم ؟ !.. لم كل شيء هنا يشعرني بالترف المبالغ فيه:الأكل ، المشروبات، اللباس ، العمران ، الجمال ؟.. أو يكون الفقر مقصورا فقط على أمثالي في ما اشتهي وما لا أشتهي؟!.. لا ريب في أنني أطلت التجوال نهارا، أهبط من شارع إلى ساحة ، أعبر زقاقا شاحب الملامح أمشي منكس الجبين تظاهرا بطمأنينة أهل البلد ، ورأسي تمور بصور الأمكنة والمآثر ؛ تزرع في خواء الذات احتفالية الظفر والقداسة.هنا على سطح الذاكرة نقر بلا هوادة يأتي من واجهة الكوليزيوم،يسوق صدى ملاحم المتصارعين فريسة للأسود ، وهتاف جموع تسعى للإطاحة بغريم بطل ألَهوه دونما إذن من كهنة القيصر. هو الكوليزيوم مفخرة روما، لا تدخلنَه وإلاَ سيبطشنَ بك بهائه وصداه. !.. ممشاي صمت ضاج وأنا بين أحجار زقاق شاحب اللامح أفقت على نبرتها الإيطالية وصورة يسراها ماسكة بيمنة طفلها المتوعك الخطى . وعيت غرض تلك السيدة ذات العقد الرابع ، غير أنها لم تمهلني لحظة تدبر إذ هي راحت تسوق الأمر ذاته بإنجليزية دارجة ، سرعان ما أردفتها بفرنسية مستهجنة اللكنة: شملتك عناية الرب ، أرجوك ، تصدق عليَ لأطعم البمبيني* حليبا وخبزا. ناولتها قطع الليرات متلعثما عند إفراغ جيوبي .أجش كانت نبرتها وهي تلح بالشكر وتنصرف. قرع أجراس غمر طنينها روما العصرية . ضجَت طواحين رأسي إثر إيابي بالطائرة. لذت بحديث النفس أكلمها بشأن لوحة الطفل الباكي ...كان أجدى بصاحب المعرض أن يعلَقها إلى جانب لوحة الفاكهة ذات البذخ الصارخ.