لست وحدي إلا بجسدي داخل غرفة المكتبة! تحف بي أشباح، ترقص في عتمة الزوايا، ولا يكشفها مصباح المكتب الذي أمام عيني. بينما أنا أرهف السمع إلى أصوات تتردد في أعماقي وهمس ينغرز في ظهري وهسيس يأتي من رفوف المكتبة التي أشبهت مقبرة تزاحمت فيها القبور: كتاب إلي جوار كتاب، وقبر جوار قبر، فرويد إلى جوار أدلر و يونع، وابن رشد يزاحم أرسطو، وابن حزم يتحرش بالغزالي، وابن خلدون يستخف بابن خلكان وصاحب الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، ويرهف السمع إلى ابن سينا والسهر وردي وهرمس الحكيم ... اسمع الهمس وأفسر وأؤول، اشعر بأن بعض الهمس يحدثني عن حيواتي. وأن كثيرا من الهمس ينكأ جراح النفسي ويقرح الجلد وان بعض القليل يرش مساحيق تخفف الألم وتحث على اللامبالاة والاحتفاظ بعزة النفس؛ فهي الشيء الوحيد الذي نملكه في كل الأوقات ونعبر به الأزمان... أنظر إلى الساعة الصامتة فوق المكتب، عقربها يتحرك يؤشر علي الثانية عشر ليلا ويستمد حركته من نبض القلب و الرأس، ينتظر حضور ذلك الطائر الخرافي الذي ينزل على الرأس فيثقله وينشر جناحه الرمادي أمام العين فيجمد الجفن،.. لكنه تأخر، فلا شيء يستعجله لكي يجرني بمخالبه وينزلني فوق الفراش ويفترس ما بقي لدي من يقظة، ثم يرمي بي في نهر الزمن لأغتسل وأسبح فيه أكثر من مرة فأتغير بتغير الماء ليبقي النهر نهرا ويبقي ما في داخلي هو هو. قلت للطائر: لست مستعجلا فالصفحات.. التي كتبتها منذ ساعة مايزال بها بياض. وما سردته فيها ماهو إلا حكاية الروح ضمن حكايات الجسد و الأسماء؛ هذه الحكاية التي نسميها الحياة، هي حكاية مبعثرة، كل جسد مثل كل اسم... يجمع منها ما يسميه حياته أو حكايته الخاصة ولا وجود لحكاية في أول الأمر إلا حكاية الروح، والأسماء والأجساد جميعا ولا حكاية في نهاية الرواية إلا حكاية الروح أيضا. أدرك أن الأسماء التي كتبتها في صفحات هذه الرواية أسماء حكايات فقط، ليست حكايات أسماء أناس من ورق.. بل هي أسماء أشخاص يسكنون ذاكرتي ومخيلتي ويفترشون كل المساحات الموجودة في العقل والقلب ويشربون عصارة أعصابي... أسماؤهم إذن أسمائي، حتى وإن كنت غير متيقن بأنهم يحملون اسمي آنا أو اسمي الجسدى حماد الصالح إذ ليس مهما أن نسمي كل ثمرة أو ورقة في شجرة تنبت أو تسقط، مادامت شجرة الإنسان هي كل أوراقها، ولا تتطابق مع شجرة القرد أو الخيل و السمك... حتى ولو كانت كل الأشجارخلقت من ماء ينزل من السماء، يسقط ثم يسيل على التراب، والتراب يتفنن في إخراج ما فيه من سر الماء.. ويصنع حكايات التقى فيها ذلك المراهق الحضرمي الذي ضل فى صحراء الجزيرة وألفى نفسه خادما في معبد النار بفارس ملقبا باسم" سهدان "، ومات عند حدود فلسطين هاربا يبحث عن دين غير دين النار..وربما كان شهيدا وربما كان كافرا... تلك حكاية سهدان، ومثل حكاية الجندي العباسي عبد الله الأدهم..في نفس الحكاية..حيث يجد نفسه حارسا بباب مقصورة جواري الخليفة العباسي الذي لا إسم له؛ هناك كان يرى فسق الملوك وهم يدخلون غرف الجواري ويتلصص ويتهيح وهو يرى أجمل الأجساد وأشهاها فيشعر بألم الحرمان وتتحرك فيه كل غرائز الجسد و لا يجد أمامه إلا البكاء...بكاء من قتلت فيه مقومات الرجولة، و الفحولة، ثم مات مدافعا عن ملك صريع دون أن ينعته احد بأنه شهيد أو فاجر.. ولا يذكر إلا الملك الذي قاتله أخوه ليكون ملكا بعده وخليفة لجميع المسلمين... الحكاية هكذا في الرواية وتجتمع فيها حيوات، والروح تغير أجسادها وأسماءها كما كان الشأن حين اختارت أن تتقمص جسدا آخر سمي باسم صالح المرسي...ذلك الجندي الأندلسي، قائد كتيبة جند من جنود غرناطة..صال وجال، قاتل النصارى والمسلمين عربا و بربرا. ونجا من مكائد الأقران، من القواد وأصحاب الدواوين وأهل الفتن، ولم يفز إلا بجارية حسناء اختص بها نفسه، أحبته أكثر من زوجته وأحبها أيضا أكثر من زوجته وأم أبنائه...ومات فجأة حين أصيب بطلقة بندقية على مشارف غرناطة مجهولة المصدر. واكتفى بما عاشه، ولم يجد المؤرخون مكانا له في التاريخ الذي احتكره الملوك، وكتاب عبيد الملوك...ولم يكن إلا مثل حدوا السبتي-او-أحمد السبتي-ذلك القرصان الذي صال وجال البحار تحت إمرة رئيس سفينه..اعترضت سفن النصارى وأغرقت منها عددا، وغنمت ثروات ونساء..."نساء الكفار حق وحلال...وذهب النصارى ذهب المسلمين الذي سرقه النصارى " ولم يفز حدوا السبتي إلا بالنزر اليسير ولم يشبع شبقه...وهو يرى نساءا من أجناس يقعن تحت الأسر لكنه نسي كل ذلك حين وقع في الأسر. يوم غرقت سفينته وقتل رئيسها واغلب بحارتها الأشاوش، فكان حظه أن يستعبد في مزرعة أميرة برتغالية، ابنة ملك، بمجرد أن وصل إلى شاطئ قرية "فارو" على ظهر خشبة من بقايا سفينته... فحمد الله على الأسر وزاد حمده حين تملكته أميرة فاتنة، متجبرة ومتوحشة تحمل اسم فيرونيكا...جعلته سايسا لخيولها يرافقها بين مرابط الخيل وصارت تكثر من زيارة المزرعة، كلما رأت بغلا أو فرسا مزهوا بذكره ويستعرضه استجابة لما وصل إلى منخريه، دفعته إلي زاوية .ممسك بعنقه. قالت له في المرة الأولى : أنت رجل قوي ضخم الجسد لونك لون الفرس الذي اركبه. في المرة الثانية دفعته أرضا وركبته "من حقي أن اركب بغالي وحميري " وتركها تفعل به مايتمناه، سمع حشرجة الفرس ولهاثها وظل يطعن بسيفه ويغزو أرضا وظهرا، قطع وما أبقى ...وسرعان سكنت موجات البحر تعب القرصان من تفجير مدافع سفينته، وظل الفرس بعد ذلك متعودة تتقلب على التبن وترفع ساقيها...وتهمس "خدو..خدو..خدو... " والفارس المركوب بدوره يصعد و ينزل ويهمس: "فيرو..فيرو..فيرو..فيرو..فيرو..فيرو... "واستمر فعل الركوب شهورا وشهورا..وفجأة اختفت فيرونيكا وظهر البحر وعلا الموج، وألقى نفسه على ظهر سفينة تنزل البحر وتمر بشواطئ بلاد "المورو " وترسو أخيرا بميناء الموكادور، ولم يعد يرى البحر ويتطلع إلى السهول، يبحث عن فرصة..ولم تكن الفرصة إلا أن يقفز من فوق الأنوار. يسقط مغميا عليه لا يتحرك، وتركه الجنود هناك ليتعفن...لكنهم لم يفطنوا به إلا وقد عادت إليه الحياة، وصار بعيدا عن مرمى البنادق وتعبت اليد وأرخت القلم، وبقيت أنظر إلى الصفحات وأفكر في تفاصيل حيوات كل الأسماء...وأتساءل..أليست تلك الأسماء هي اسمي أنا..حماد الصالح أستاذ الفلسفة وعلم النفس؟...ويجيب عقلي...إننا نعيش، ننام ونستيقظ دائما. نحيا لنموت ونموت لكي نحيا. متعلقون بشجرة الحياة. لا نملك إلا روحا تتجدد وتخضر على غصن..ويكون جسدنا في كل مرة مختلفا ومصيرها متشابها ودائما تستأنف الروح حياتها بحثا عما لم يتحقق لتصير روحا نقية كاملة.. ذلك سر الحكاية في رواية الحياة.وإلا لماذا نتطلع إلي العودة إلى الماضي؟ ولم نريد أن نتجاوز الحاضر إلى المستقبل؟ كل منا يريد أن يلم بعثرة فصول حكايته. كل رواية بها حيوات مبعثرة وفي كل حكاية فراغات تظل في حاجة إلى الملء والمراجعة والاكتمال. نظرت إلى الساعة مرة أخرى، الواحدة ليلا...تململت فوق الكرسي ووجدته قاسيا، نصحت نفسي بان ألجأ إلى الفراش، وان أبحلق في السقف، أن اترك العنان لمخيلتي وذاكرتي، حتى ولو جاء شخير زوجتي من غرفة نومها..وحرض الطائر الخرافي لكي لا يقترب...ويتركني أراوغه واقتنص شبحا بعد شبح، وكل شبح حين يتمثل لي يدعوني إلى مطاردته متحديا ومنسلا عبر مسارب العتمة نحو أماكن يفتح أبوابها ويغلقها ويختفي لأبقى أتلفت..انتظر آن أصادف شخصا ما يؤكد لي باني يقظان، أو يخبرني باني أحلم...وهاهي امرأة وقفت أمامي. تقول أنها زوجتي. استغربت وقلت: ربما أنت زوجتي. ليكن!؟ قالت زوجتي وقد عادت فجأة إلى شبابها."يجب أن ألد لك ولدين قبل أن تشيخ.. " ضحكت، وأجبتها:" لا بأس! لكنك لن تخدعيني!! نامي في غرفة وأنا سأنام في غرفة أخرى بعد أن كبر الولدان وسافرا مع السندباد وسكنتهما روحان ليس لهما نسب إلى روحك وروحي ". ثم ظهرت بصورة امرأة كهل وتقول "لم نعد كما كنا. شخنا ولم تعد لنا رغبة في النوم معا!! " سخرت منها.."الان يمكن ان تلحقي برابعة العدوية. أو بدير رهبان. أما أنا سأعتكف في برج بابل...ولن أمنع نفسي من البحث عن المرأة التي تعوضني عنك..يكفيني ماعرفه صالح المرسي وما ذاقه حدو السبتي من جسد فيرونيكا... " عندئذ أحاط بي سهدان وهو يرفع شعلة نار. وعبد الله الأدهم وهو يلوح بسيفه..وصالح المرسي وهو يهجم على كتيبة ويقيد امرأة ويخاطبني.."هكذا يفعل الفرسان..وهذه المرأة هي أم كل أحفادي الجسديين "..ثم سمعت صهيل حصان ورأيت حدو يقول.."أنت ماتزال فحلا..فخذ مكاني واقض حياتك راكبا وأبحث عن بربرية من جبال الأطلس أو حفيدة من أحفاد العرب "، ومرت بي صور لشواطئ..وصور..معبد مجوسي. وقصر عباسي..وقصور غرناطة ومالقة ومزرعة فاروا وقلعة الموكادور...وسمعت صوت طبول حرب بعيدة وصدى نفير..ورنين أجراس كنائس ورنات ساعات...وسهول قفراء من سهول دكالة والشاوية..وبياض ثلوج وضوء يلمع أمام عيني.. في هذه اللحظة لم أدر إلا وأنا محاط برهط من البشر ذوي بشرة زرقاء يرشقون الشمس والسحاب والعصافير بأقلام طويلة..لها هيئة رماح وسهام. يغمسونها في الأرض فتخرج مخضبة تقطر بسائل أصفر...سرعان ما يصير أسود ثم أحمر. بعض الأقلام، السهام، يسقط أمامي، بعضها يئز خلف أذني. وأنا أراوغ وأتفادى موتا ممكنا بالرغم من أني أعرف أن الذي يحدث قد يكون حلما وإن شككت أن ما أراه حلما..وأن أغلب الحروب تحدث لدى البشر حين يختلط عليهم وقت الحلم واليقظة مما يجعل ما يحدث كوابيس بعد كوابيس. تصديت لأصحاب الوجوه الزرقاء..صحت فيهم:إني أعرفكم..أنتم زملائي في العمل، أنتم من يدعي صداقتي...أقنعتكم لن تخفي عني حقيقة ما تحلمون به وما تريدونه..فأنا ضميركم الذي يعذبكم أنا الذي تريدون تصفية حسابكم معه ولم تتمكنوا من ذلك في الازمنة الغابرة... ولن تستطيعوا الآن.ما أسهل أن أقضى عليكم جميعا. يكفي أن أستيقظ، أن أفتح عيني، فأنا بلا شك أحلم... يتبع