بداية، ليس بالأمر الهين أن يرمي حداد ما المطرقة من قبضة يده ويمسك القلم بين أصابعه المفحمة بلون الصدأ الحديدي ويعتنق ملكة الكتابة. كما ليس هيّنا عليه كذلك أن يمسح عن طبلتي أذنيه صياح القصدير، ويخلد إلى ركن هادئ ودافئ، بعيدا عن صخب وضجيج المصنع ونفاياته ليكتب يومياته مرتبة ومرقمة كما يجب.. لكنها الضرورة، ضرورة البوح بما في الصدر من حَرّ قبل أن ينفجر!؟ لكن هل أستطيع أنا العامل "البوجادي" البسيط أن أحدث ثورة على الورق الذي ينتظرني كلما عدت في المساء منهوكا إلى بيتي المغارة لأتقيأ على بياضه سواد قلبي؟؟ فيا ليته يسعفني ! هل أستطيع أن أحيك كل خيوط حكاياتي من ألفها إلى ياءها بدقة الروائي الماهر؟ ثم هل أستطيع بدرايتي البسيطة لقوالب الكتابة وفنونها العنيدة أن أرسم كل المحن وكل المرارات التي مرت لا بردا ولا سلاما على هذا الرأس؟ أعني رأسي. أم أكتري كاتبا أريه كل أحزاني وكل همومي وأكشف له عن كل حكاياتي من بأسها إلى فأسها؟... كل هذه التساؤلات وغيرها راودت بالي، لكن أخيرا عملت بنصيحة أبي التي ما فارقتني طول حياتي.. أذكر أنه كان حكيما حين قال لي باللسان المغربي: (اللّي ما يَغسلْ كساتُو أو ما يكتبْ بْراتُو ولا.. ولا.. يتعزى في حْياتو..) يعني كل إنسان وجب عليه قضاء حوائجه بيده وإلا فليتقبل التعازي في حياته قبل مماته، وذلك خير له من عيشة ضنكا.. وهذه أيامي التي تداولتها مع الأخيار والأشرار داخل أسوار ما يسمى بالشركة المنجمية الشريفة.. باسم الضرورة أكتبها. خمسة وعشرون عاما وما يزيد، ثمانية ألاف يوم عمل مضت عليَ بأيامها ولياليها، بلهيبها وصقيعها بين المطرقة والسندان صابرا على اللقمة المرة والساخنة، وذلك من أجل إطعام مجموعة من الأفواه المفتوحة الجائعة التي تنتظرني كل يوم حتى أعود ومعي كسرة خبز زقومية المذاق. تلك التي كنت أحلّلُها وأحلّّيها بصبري الحديدي ونيتي الخالصة في خدمة الشركة والوطن بكل إخلاص وتفان في العمل. واجهت طيلة هذه السنوات كل أنواع الآفات، كل المصاعب والمتاعب، كل الشدائد وكل ألوان وأشكال القمع من طرف شرذمة من منعدمي الضمير، من الأطر الخارجين عن الإطار القانوني والمسؤولين (الشافات) البغاة الذين لا يعرفون لا الله ولا رسوله ولا حتى الوالدين! فأغلب (الشافات) كانوا يقولون لنا نحن العمال بسفه العبارة أنهم لا آباء لهم.. ويردفون القول: (خْدَمْ أو قََوَدْ) وكلاما آخر أعور، أشد قبحا ووقاحة من هذا وذاك يندى له الجبين خجلا وحياء... فخطابهم لنا دائما كان صريحا وواضحا في همجيته، لكن بالنسبة لي، أرى أن الفعْليْن أحلاهما مُُرُ، فالخدمة ليست خدمة رحمة وشفقة تتطلب الجهد العادي للإنسان بل جهد عفريت أو سبعة خيل، أو ما يعادلهما!! أمّا القيادة فليست قيادة شريفة وعفيفة بل تلك هي المذلة بعينيها، إما أن تقود الوشاية إلى طريقها الصحيح والسريع نحو (الشاف) أو تقود النقود والهدايا الثمينة إلى عقر داره مرفقة برقم تأجيرك وخصوصا إذا تعلق الأمر برشوة المواشي والدواجن (ضروري رقم التأجير بحيث يكتب على ظرف ويربط بخيط أسفل رجل الخروف أو الديك الهندي،،) إنه حديث شائع بين شريحة واسعة من العمال، وذلك حسب رواية صحيحة وموثوق منها رواها كثير من زملاءنا الخونة الذين كانوا يفضحون بعضهم البعض سواء عن قصد أو عن غير قصد.. أما الأطر (الشافات) فقد كانوا جلهم حُكاما ظُلاما بكل المقاييس، إلا من رحم ربي.. وهذه سيرة كل الكُبَيرين فهم يحسبون أنفسهم أناسا كبارا يُحسبُ لهم ألفُ حساب ويحسبوننا نحن الصغار رعاة أبقار أو أدنى من ذلك إلى درجة أنهم كانوا لا ينادوننا بأسمائنا الحقيقية، فكلما احتاجوا منا أحدا، لخدمة ما، كانوا ينادونه: (آآالحلوووف! أو آآالبغل!) قبل هذا الهوان، فلا بأس، قد يقبلوه ويقربونه إلى قلوبهم كخادم وليس كعامل نشيط ذي شرف وكرامة.. وذلك حسب طقوس هواهم ومزاجاتهم الوسخة.. أما إذا لم يقبل هذا الذل والهوان، فلا أرض تتسع لقدميه ولا حتى لنفسه الضيقة.. إنه زمن الزبونية والمحسوبية والسباق إلى التموقع ولو على حساب الشرف الرفيع ! أما إذا لم تقبل الخضوع لمثل هذه الطقوس فما عليك إلا أن تقلب قفاك إلى الخلف وتقود جثتك المنهكة خارج أسوار الشركة.... فما عليك إلا أن تختار ما بين العار والنار، إما الخضوع أو الجوع.. بالنسبة لي أنا الشاب الفتي المسلح بقوة الإيمان والصبر، فقد كنت دائما أختار أن أكون أثناء مزاولة عملي الشاق والمضني، عفريتا بإذن الله كي أسْلَمَ من الكفرة أعداء الله !