رغم الكم الهائل من الاعمال الدرامية التي تبثها عشرات القنوات الفضائية العربية خلال شهر رمضان إلاّ ان الكثير من تلك الاعمال لايستحق عناء ومتعة المشاهدة لاكثر من الدقائق الاولى ، لتكتشف وبكل سهولة رداءة الطبخة الدرامية التي قدمت لك رغم الاسماء اللامعة من النجوم التي تم حشوها في تلك الاعمال من دون جدوى. هذا الامر يتكرر سنوياً في الانتاج الدرامي العربي الذي بدأت دوائر انتاجه تتسع سنة بعد اخرى بعد انطلاق وتوسع حجم القنوات الفضائية التي كان عليها أن تغطي الكثير من ساعات بثها بالاعمال الدرامية والتي تأتي في اولويات استقطاب المشاهد العربي الذي يعاني مايعاني من هزائم حياتية شتى بفعل فشل الانظمة السياسية في بناء وتنمية مجتمعاتها وهذا مايدفع مواطنيها الى الارتماء في أحلام وبطولات خيالية تصنعها وتخيطها له شركات الانتاج الدرامي على مقاس احباطاته وعجزه ويأسه ولتساهم بالتالي هي الاخرى وبالتواطىء مع الانظمة العربية في تخديره وابقاءه في حالة من الكسل الفكري والارتكان الى حالة من الشعور بالمتعة السلبية الاستهلاكية وهو يشاهد تلك الاعمال الدرامية التي تزيد من كثافة العيش في الخرافات الاوهام والبطولات الزائفة . وتشترك في ذلك (الاعمال الكوميدية و الدرامية الجادة . والميلودرامية .) . لكن وسط هذا الكم الردىء غالباً مايطالعك عمل فني يغرد خارج السرب ليمنحك متعة فنية وفكرية تغنيك عن مشاهدة بقية الاعمال . ودائماً مايقف وراء هذه الاعمال النادرة فنانون يتسمون بقدر عال من الاحترام لانفسهم وللمشاهد الذي يحسبون له الف حساب حين يقررون الاقدام على انتاج عمل فني جديد . من تلك الاسماء التي ارتقت بالدرما العربية الى افق اخر جديد لاصلة له بالارث الردىء الذي تشكل عبر عقود طويلة من الانتاج أسم بدأ يمهر بصمته واضحة ومتفردة في ذاكرة الشاشة الفضية خلال الاعوام العشرة الاخيرة . شوقي الماجري المخرج الذي اكد حضوره الرصين والمميز عبر عدد من الاعمال الدرامية( الملحمية ) التي تصدى لاخراجها. حالفني الحظ ان اتابع مسيرة هذا المخرج ابتدأً من مسلسل ( اخوة التراب ) بجزأيه في مطلع تسعينات القرن الماضي والذي تناول فيه ملحمة النضال الوطني التي خاضها الشعب العربي السوري لنيل حريته في مطلع القرن العشرين . ثم جاء عمل اخر بعنوان (بيت الارواح ) ثم عمل اخر بعنوان (عمرالخيام ) واعقبه بعمل اخر بعنوان( الاجتياح ) تناول فيه صور الكفاح الفلسطيني من اجل الحرية واثبات الحقوق في ملحمة تلفزيونية احتشدت فيها نماذج انسانية لم تقترب منها معظم نتاجات الدرما العربية وهي تتناول الصراع الفلسطيني الفلسطسيني والفلسطيني الصهيوني إ لاّ بعض الاعمال مثال على ذلك مسلسل( التغريبة الفلسطينية ) للمخرج بسام الخطيب .واخيراً جاء العمل الاخير للمخرج شوقي الماجري( هدؤ نسبي ) الذي مازال عرضه مستمراً على شاشة عدد من القنوات الفضائية والذي تناول فيه وبموضوعية وجرأة يحسد عليها ، الايام الاخيرة لنظام صدام حسين ومن ثم سقوطه السريع والمفاجىء امام القوات الاميركية والجيوش المتحالفة معها . كل ذلك يتم من خلال وجهة نظر مجموعة من الاعلاميين والصحفيين العرب والاجانب الذين تواجدوا في تلك الايام والساعات التي شهدت نهاية ذاك النظام وسقوط بغداد تحت الاحتلال الاميركي وهمجيته وما تبع ذلك من تداعيات لم نزل نشهدها حتى اللحظة وهي ترسم امامنا صورة وطن تشظى وغاب عن اعيننا في فوضى الصراعات الحزبية والطائفية التي يتحمل مسؤولية ظهورها وانتعاشها وتأجيجها المحتل الاميركي والصراعات الاقليمية التي ألقت بظلالها على الساحة العراقية الملتهبة . المخرج شوقي الماجري تصدى لهذا الموضوع المعقّد والشائك. وتكمن خطورة هذا العمل في راهنيته ووقوعه في الزمن الحاضر وهو لم يزل يتشكّل بحضوره الكارثي والثقيل بيننا إضافة الى رسمه لمسار حياتنا وغدِنا الغامض . ومع ذلك كانت ملامح الصورة التي رسمها شوقي الماجري ، لما جرى من احداث ومايزال يجري على ارض الواقع العراقي واضحة ودقيقة في تفاصيلها ومبتعدة عن المبالغة والتضخيم سواء في رسمها للاحداث او الشخصيات . ولو تابعنا مسيرة هذا المخرج الحافلة والغنية على الرغم من قصر ظهوره على الساحة الفنية لوجدنا ان له نمط من التفكير والقناعات الفنية التي تجعله يقتفي وبوعي تام اساليب الفنانين الكبارفي رسم ملامح تجربته الفنية، ابتدأ من اختياره للنصوص والتي غالباً ما تتناول في جوهرها صراع الانسان لاثبات انسانيته . تأتي هذه القيمة التي غالباً مايحتفي بها الماجري ضمن اطار ملحمي ( زماناً ومكاناً ) . . ففي اعماله ليس هنالك من بطل فردي يستحوذ على الاحداث انما هنالك دائما عدد كبير من الشخصيات الانسانية الرئيسية والثانوية التي تتحرك وتنبض داخل الازمنة والاحداث التي تتسع رقعتها لتشمل مديات عمودية واسعة . ولن يكتفي شوقي الماجري في التوقف والاهتمام بالشخصيات الرئيسية . انما تأخذ معظم الشخصيات نفس الاهمية والاهتمام من قبله في تقديمها داخل المشهد . كما ان تربيته الاكاديمية السينمائية جعلته يعتمد في بناءه للمشهد على الصورة اولاً فيما تحمله من مفردات وفيما يحمّلها هو من مدلولات وتأويلات مستغنياً بذلك عن الثرثرة في الحوار الذي يشكل مرضاً قاتلاً في الدراما العربية ،مكتفياً بجمل قصيرة مكثفة تساهم اولاً واخراً في صياغة وبناء الشخصية، وفي دفع وتطور الاحداث درامتيكياً الى الامام دون السقوط في الاستطراد والاطالة التي ادمن عليها المخرجون تحت رغبة شركات الانتاج التي تسعى الى تلك الاساليب لاغراض ربحية ! حتى لو كان ذلك على حساب التخلّي عن القيم والاشتراطات الفنية المكثفة والمطلوبة في بناء اي عمل فني . كما يتضافر مع ذلك لدى الماجري بناء المشهد/ الصورة . وذلك بالاهتمام العالي في تصميم اضاءة المشهد درامياً وتأثيثه بجمل وتراكيب بلاغية من البقع والمساقط الضوئية واللونية التي قد لانجدها الا في الاعمال السينمائية لكبار المخرجين العالميين . من هنا يأتي حرصه على التعامل مع مدير التصوير البولوني الجنسية في كل الاعمال التي اخرجها . وذلك لادراكه الكبير لأهمية ان يكون الى جانبه مديرتصوير يمتلك خبرة وكفاءة ووعياً درامياً يمكنه من فهم ما يفكرفيه المخرج ومايريده في كل لقطة وفي كل مشهد . وهذا مالانجده في معظم النتاجات الدرامية العربية التي لايولي مخرجوها اية اهمية لدور مدير التصوير .وغالباً ماتراهم يكتفون بأضاءة المكان والشخصيات دون ان يكون للاضاءة اي دور في رسم وايصال الافكار والاجواء التي ينبغي ايصالها للمتفرج . . ان شوقي الماجري التونسي الجنسية والمتخرج من احد معاهد السينما في بولونيا في منتصف العقد الثامن من القرن العشرين . هوبحق نموذج للفنان الذي يكافح من اجل الدفاع عن عشقه للفن والتعبير عنه بأجمل الصور واكثرها بلاغة . ولم يثنيه عن ذلك ضعف ومحدودية دعم الانتاج السينمائي في العالم العربي عن التوقف وانتظار فرصة العمل السينمائي . كما فعل الكثير من الموهوبين السينمائيين في عالمنا العربي . بل آثر ان يقتحم ميدان التلفزيون المتكلّس منذ عقود بالأطُر والفورمات الجاهزة . وآثر ان يدخله بعُدّته السينمائية التي إكتسبها من غنى السينما الاوربية واصالتها التي تختلف في خطابها وجمالياتها المميزة عن صناعة السينما الاميركية وقوالبها الجاهزة في معالجة الشخصيات والاحداث . ومعلوم لدى العارفين والمتابعين لتاريخ السينما في العالم مدى البون الشاسع الذي يفصل مابين نمط الانتاج السينمائي الاوربي والانتاج الاميركي . واقل مايمكن قوله في هذا الموضوع ان السينما الاوربية تنطلق من اسس انسانية وجمالية في بناء الفلم السينمائي رغم بساطة الكلفة الانتاجية التي تقف وراء انتاج الفلم قياساً الى الفلم الاميركي الذي تتضاعف ارقام انتاجيته الى عشرات بل مئات اضعاف من انتاجية الفلم الاوربي . من هذه التقاليد الاوربية الرصينة التي شكلتها فلسفات وافكار تمجد الحرية للانسان والشعوب وانتجت معظم المناهج والتيارات الفنية المعاصرة في كل الفنون جاء شوقي الماجري ليضع مع قلة اخرين الحجر الاساس لبناء دراما تلفزيونية جديدة شكلاً ومضموناً وتمكن في سوريا من تحقيق احلامه التي بدأت تشكل علامة فارقة في الدرما العربية .