لاأحد يستطيع أن ينكر بأن المجتمع الموصلي ولعقود من السنين كان معافى من علاقات التطرف فيما بين الاطياف التي تكونه من عرب وأكراد ومسيحيين وأكراد ويزيدية وشبك ،وحتى تلك الفترات التي اصطبغت بصراعات دموية لم تكن إلاّ بتأثير الصراعات السياسية ولم يتورط بها عامة الناس البسطاء وهذا ماحدث بالضبط بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الشواف عام 59 في محاولة منه لتصفية حسابات بينه وبين الزعيم عبد الكريم قاسم كانت لاتخرج عن نطاق الصراع على السلطة وكرسي الحكم . ان التوافق الاجتماعي الذي كان ولم يزل سمة للمجتمع الموصلي خصوصاً والعراقي عموماً دائماً ماكان السياسيون العراقيون يسعون لاستثماره من اجل الوصول الى غاياتهم ،وليس من اجل تعزيزه وادامته لالشيء الا َ من اجل كسب الاصوات وتوسيع القاعدةالحزبية حتى لو كان ثمن ذلك الدفع بالاحداث الى التوتر والانفجار فليس مهماً ما قد يسقط من ضحايا ابرياء ،لان موتهم سيتم استثماره في اخر الامروليصبح الضحايا المساكين في المحصلة النهائية غنيمة لتلك الاحزاب التي ستسرع في رفع لافتات سوداء بهذه المناسبة ترفع فوق المقرات الحزبية . هذا هو ماشهدته الساحة السياسية العراقية بكل معاركها وتعقيداتها الدموية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1922وحتى التاسع من نيسان عام2003 بل ازدادت الاوضاع تعقيدا وسوءاً واحتقانا مبرمجاً أفتقد إلى النظرة السليمة التي تدعوا اولاً الى بناء دولة تخلو من كل الاخطاء الكارثية التي كانت تحملها الدولة العراقية طيلة قرن من الزمان . فبدلاً من ان تُقبر الطائفية تم الترويج بشكل مؤدلج وصريح لكل ماهو طائفي وبدلاً من انصاف الشعب العراقي المقهور بكل حقوقه الانسانية التي سلبت منه لعقود طويلة وجعلته في ادنى درجات السلم قياسا الى كل شعوب الارض عامة وشعوب المنطقة العربية امسى الشعب العراقي عرضة مرة اخرى لجشع الفاسدين الذين بدأوا يمتصون دمه وغذاءه وصحته مقابل صفقات فاسدة من الاغذية والادوية تدر عليهم بمليارات من الدولارات لهم وللاولادهم واقربائهم . وبدلا من ان يعود الذين كانوا قد غادروا مرغمين من بلدهم هرباً من غياب الحرية اضيفت اليهم الملايين من الهاربين هرباً من دكتاتورية الاحزاب الطائفية والمليشيات وفرق الموت وعصابات الجريمة المنظمة . وهنا اتسأل عمايحدث الان في الموصل . من هوالخاسر ومن هو المستفيد من اجواء الصراعات القائمة التي بدأت تشهدها الموصل بعد احداث التاسع من نيسان عام 2003 ؟ لن أتردد في القول :ان الكل سيكون خاسرا في نهاية الصراع الذي لن تكون له نهاية ، وللاسف الشديد لن أكون متشائماً حين اقول بأننا سوف لن نشهد والى مابعد خمسين عاما من الان نهاية هذا الصراع ! قد اكون متشائما في نظر البعض لكني لن كون متفائلا ابدا على حساب القفز على حقائق وطبيعة الصراع القائم وطريقة معالجته . لقد دفع المواطن الموصلي ولوحده الثمن ولم يزل، وبالتالي خسرت المدينة كل الفرص التي كانت متاحة امامها من اجل النمو والازدهار وغادرها رجال الاعمال والتجار ليستثمروا اموالهم في الدول المجاورة . كما غادرها الكثير الكثير من خيرة الاطباء والجراحين الاكفاء الذين ذاعت سمعتهم داخل وخارج البلاد وهكذا الحال مع بقية اصحاب الشهادات العلمية في معظم الاختصاصات . ويوماً بعد اخر وسنة بعد اخرى تحولت المدينة الى خراب . حتى ان هنالك عدداً من الاحياء الكبيرة من المدينة وخصوصاً في الجانب الايمن منه مثل حي اليرموك والاصلاح الزراعي ودورة بغداد وموصل الجديدة وباب البيض ورأس الجادة والمأمون وتل الرمان والمنصور وحي العامل والرسالة . امست أمكنة يعم الخراب والدماركل الطرق المؤدية اليها وفيها وتعطلت فيها عجلة الحياة بكل اوجهها لما شهدته من انفجارات ومواجهات مسلحة بشكل يومي منذ عام 2004 وحتى وقت قريب من عام 2009 الذي شهد انخفاضاً ملحوظاً في صور العنف فيها . لقد عملت اطراف عدة الى نسف الهدؤ والاستقرار الذي تميزت به المدينة من بين كل المدن العراقية بعد التاسع من نيسان عام 2003 إذ لم تشهد المدينة خلال عام كامل من بعد السقوط اي مظهر من مظاهر العنف التي اتسمت به بقية مدن العراق بل استمرت الحياة فيها وكأن شيئاً لم يحدث ، لتثبت لكل العراقيين سلوكاً حضارياً ومدنياً وسياسياً متقدماً فاجأ الجميع سواء كانوا ساسة عراقيون أم غيرهم ، على عكس ماكان شائعاً عنها ويروج له الكثير من الاطراف بأن المدينة بمواطنيها وخصوصاً العرب منهم على أنها من المدن التي تحسب بولائها التام والمحسوم للنظام السابق .إلاً أن ماشهدته المدينة من هدؤ واستقرار خلال العام الذي تبع سقوط بغداد أثبت للجميع ان سكان المدينة وفي المقدمة منهم العرب ليسوا كما كان يتصور البعض بتبعيتهم العمياء لشخص أو جهة . بل كانوا كغيرهم من العراقيين لايسعون الا من اجل العيش بسلام وأمان وهذا ماأثار استغراب الكثير ممن كان يحمل فكرة خاطئة عنها ،كما اثار ذلك نوازع الشر لدى البعض الاخر ممن كانوا يخططون لان تجري الاحداث في المدينة بعد سقوط النظام على غير هذا المسار المتمدن الذي يعكس طبيعتها الحضارية التي عرفت بها منذ ازمنة بعيدة منساقين وراء دوافع شتى كانت تحركهم !. وعلى ذلك انتشرت في المدينة في أول الامر، حرب اعلامية دعائية ضدها ، تم الترويج لها عبر العديد من ( النُّكات) التي بدأ الموصليون يسمعونها والتي كان تصفهم( بالجبن والضعف وتشبههم بالدجاج !)مقارنة بالمدن العراقية الاخرى التي كانت تشهد صراعات دموية بكل الالوان والاشكال . لم يكن سهلا على تلك القوى ان تجد رجالات المدينة بكل قومياتهم واديانهم وطوائفهم وقد احتكموا الى العقل والى ارث عميق وغني من العلاقات الانسانية الطيبة التي تربطهم في مواجهة ماكان يخطط لها من اجل توريط المدينة واهلها في لعبة خطرة ومكشوفة لديهم ، ذلك لانها سبق ان مرت بظروف صعبة ومُرّة في فترات ليست ببعيدة عن ذاكرة الكثير من اجيالها التي عاشت تلك الاحداث وعانت من جراءها . لذا كان اهل المدينة قد حفظوا ذاك الدرس جيدا وحتى الاجيال الجديدة كانت قد ورثت الحكمة عن تلك الاجيال التي سبقتها . الا ان اطرافاً سياسية ابت إلاّ ان تزج أبناء المدينة في صراع خاسر ، له بداية ولكن ليس له من نهاية، وهاهي الايام تتوالى على ابناء الموصل وهم يدفعون الثمن غالياً من ابنائهم الابرياء ، علماء اطباء ورجال قانون ولاأحد يعلم من القاتل ولن يعلم احد من القاتل! لان اللعبة شائكة ومعقدة ولها اوجه متعددة ويبدوأن جزأً من اللعبة أن لايتم الكشف عن القتلة والمأجورين الذين كانوا الاداة في عمليات التنفيذ كما هو الحال بما يحدث في بغداد من تفجيرات كارثية . وانا على يقين تام بأن يوم الكشف عن اسماء القتلة سيبقى مطوياً الى يوم الدين. ورغم ذلك فأننا سنخاطب ماتبقى من ضمير وانسانية لدى الاطراف الفاعلة على ارض الموصل ، لعلهم يستثمرون أية فرصة تتاح لهم ليحتكموا الى العقل ويرموا بكل اسلحة التخوين والترهيب والتخويف والتاجيج والتحريض والتزييف ، ويلتقوا وجها لوجه عند النقاط المشتركة الكثيرة والتي لاخلاف عليها . لقد عانت شعوب المنطقة من المتاجرة بالقضية الفلسطينية من قبل كل الحكام العرب دون استثناء ولم تزل حتى هذه اللحظة ، لالشيءإلاّ من اجل الحفاظ على المناصب والزعامات الفارغة التي أهلكت ألاجيال وداست على احلامها باحذيتها، بحجة النضال ضد الصهيونية والاستعمار وتحرير فلسطين من الغاصب المحتل ولم تكن تلك، إلاّ شعارات فجة وكاذبة انطلت على أجيال وأجيال، وضاعت بالتالي على البلدان فرصة النمو والاستقرار والعيش الكريم وقبع الشرفاء في السجون والمعتقلات وأُلصقت بهم شتى التهم من الخيانة الى العمالة لالشيء إلاّ لأنهم لم ينخدعوا كبقية طبقات وفئات الشعب بالشعارات التي كان الزعماءالابطال والحكام الافذاذ يحشون بها ادمغة الشعوب العربية المسكينة والتي سعى ولم يزل كل الحكام الى بقاءها خائفة وجائعة وجاهلة لكي يسهل دفعها الى جبهات الموت بعد أن يتم خداعها بشتى الاضاليل التي تقنعها بأنها ذاهبة الى جنات الخلد لتحيا مع الشهداء والصديقين . وهانحن اليوم نعيش بداية كارثة تبدو ملامحها واضحة جداً لكل عاقل . فالحرب المهلكة التي تستعد لتدق ابواب الموصليين امست قاب قوسين أوأدنى ، ولو قامت لاسامح الله لأحرقت في اتونها الجميع ولن ينجو منها أحد،بعيداً كان أوقريباً، والثمن سيكون باهظاً ،لأنه لن يحسم في يوم ولافي سنة ولافي عقود من السنين. لذا ينبغي على كل الاطراف المتصارعة على ارض الموصل ان تلتقي وتجلس حول مائدة الحوار وتفتح صفحة جديدة ، فيها الكثير من التنازل عن كل مايثير الاحتدام والاقتتال . وأن يضعوا في حسبانهم ماعاناه الشعب العراقي عموماً من حرمان وقهر وتجهيل وموت منذ تأسيس الدولة العراقية التي بنيت كثير من اسسها على مفاهيم خاطئة وغير منصفة للكثير من القوى المجتمعية المهمة داخل بنية الشعب العراقي . إن الفرصة الان متاحة لكي يتم البدء بمسار جديد ، بعيدا عن المصالح الضيقة وقريباً من الامنيات الواسعة لتطلعات هذا الشعب المسكين . والاّ ستكون النهاية خسارة للجميع .