شهدت الساحة الفنية الفلسطينية خلال الأيام الأخيرة حراكا واسعاً تمثل بإسدال الستار عن العديد من الأعمال الفنية فيما يعتبر سعياً من قبل الوسط الفني الفلسطيني لأخذ دوره في تفعيل احد أشكال النضال الفاعلة والتي غيبت لفترة ليست قصيرة وتم تحجيم دورها إما بسبب ضعف الإمكانيات أو عدم توفر الأجواء المناسبة . وكم هو جميل أن يأخذ الفن مكانته المرموقة ويقدم الأعمال ليتذوقها المجتمع ويراها من ناحية لم يتعود أن يراها كثيراً خاصة على الصعيد الفلسطيني. ويبدو أن الحكومة الفلسطينية في غزة بدأت بتفعيل الجبهة الثقافية الداخلية من اجل المزيد من الصمود وتسليط الأضواء على الحصار المستمر على قطاع غزة وآثار العدوان الكارثية, في يوم واحد يعد يوماً استثنائيا تم إسدال الستار عن فيلم "عماد عقل" واتبعه عرض مسرحية "نساء غزة وصبر أيوب", اتبع كل ذلك زيارة الفنان الكبير دريد لحام ما يعتبر اختراقاً ثقافياً وفنياً على الساحة الفلسطينية. الأوساط الإعلامية المحلية منها والعالمية علقت بل وأفردت صفحات لهذا الموضوع بأن هناك مساحة أوسع وأرحب من التفاعل الثقافي الكمي والنوعي تشارك فيه أطياف مختلفة من النسيج السياسي والاجتماعي الفلسطيني. "نساء غزة وصبر أيوب" هذا هو الاسم الذي أطلقه المخرج الفلسطيني سعيد البيطار على مسرحيته و الذي استمر عرضها, لمدة عشرة أيام على خشبة مسرح مركز رشاد الشوا الثقافي بمدينة غزة واستغرق التحضير له مدة ثلاثة أشهر بمشاركة 25 ممثلة , هذا الاسم حمل بين طياته مدلولات واضحة عن فحوى هذا العمل الفني والذي يٌقيم بالكبير نسبياً. وفي حديثنا عن كواليس هذا العمل فقد كانت البداية بأن قدم المخرج والممثل الفلسطيني سعيد البيطار والذي كان يعمل في فضائية فلسطين "سابقاً", نصاً مسرحياً كتبه في وعن حرب غزة, وزارة الثقافة بدورها قامت بالاطلاع وتعديل النص ومن ثم بدأت بروفات العمل التي حضر بعضها وفد من وزارة الثقافة برفقة المخرج الفلسطيني المقيم في بريطانيا د.أحمد مسعود وتم إبداء الملاحظات على العمل. في حقيقة الأمر فقد احتوى العمل على جرأة ونقد واضح ومستمر لممارسات في واقع غزة وبالرغم هذه السلبيات فقد شهد العمل ايجابيات عدة نمت عن مساحة في التعبير وحرية الطرح. وأسدل الستار عن العرض الأول بحضور شخصيات رسمية وجهات عالية المستوى من الحكومة وحركة حماس على رأسها معالي وزير الثقافة د.م. أسامة العيسوي ومستشار دولة رئيس الوزراء د. يوسف رزقة , والناطق باسم الحكومة أ. طاهر النونو. تكمن أهمية هذا العمل في انه جاء بعيد حرب غزة التي شهدت سقوط الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين الفلسطينيين ناهيك عن المعاناة الكبيرة التي لاقاها ولازال يكابدها الشعب الفلسطيني في ظل الحصار المطبق والوضع الاقتصادي السيئ وآثار الانقسام التي انعكست سلبا على النسيج الاجتماعي الفلسطيني وبالفعل فإن كل هذه الأحداث نالت نصيب كبير من العرض المسرحي والذي تجسد بعرض معاناة النساء الفلسطينيات في الحرب والتي تنوعت ما بين فقد الولد والزوج وهدم البيت متناولاً واقع عذابات المرأة العربية الفلسطينية الصبورة المعطاءة وما تتعرض له من قمع و اضطهاد جسدي و نفسي ومعنوي مرورا بالملكة (هيلانة) حتى يومنا هذا, حيث عرض المشهد الأول من المسرحية أم فلسطينية تبحث عن أبناءها بين أنقاض منزلها المدمر بفعل قذائف الطائرات الإسرائيلية , ليس ذلك فحسب ففي لوحة من لوحات المسرحية, عرض احد المشاهد معاناة النساء السجينات في سجون الاحتلال من خلال شخصية "مريم" التي جلست تكتب لوالدتها رسالة من داخل القفص توصيها على رضيعها محمود الذي وضعته في السجن إلا أن مشهد ترويض النمرة الذي يعبر عن الأسيرة (مريم) كان قريبا للكوميديا رغم أنه يحتاج إلى أن يعبر عن الواقع المأساوي. و تطرق المخرج سعيد البيطار إلى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين حيث يقوم الراوي الفنان (سعيد البيطار) بدور رجل الدين يتلو آيات من سورة المائدة قوله تعالى: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ", حيث تجسد علاقة المسلم بالمسيحي فنجد الراهبة (كرستين) تصلي داخل الكنيسة وعند سماعها طلقات نارية تخرج للشارع فتشاهد مقاومين بحالة انهيار نفسي يخبروها بأن هناك ثالثاً مصاباً إصابة خطيرة وهو بحاجة للمساعدة فتقرر مساعدته لتسقط شهيدة على أرض السلام أرض فلسطين ,هذا المشهد نال بعضاً من الملاحظات منها أن الحديث الذي دار بين المسلمين والمسيحيين بالكنيسة اتسم بالسطحية واحتواءه على مفردات تشكيكية. في لوحة أخري من لوحات مسرحية "نساء غزة وصبر أيوب" تناول المخرج سعيد البيطار قضية عاصرها واكتوى بنارها إلا وهي قضية المفقودين حيث أن للبيطار أخ مفقود منذ حرب الستة والخمسين جراء قصف مدرسته ومن ثم هروبه للمجهول, وفي هذا المشهد يعيد التاريخ نفسه حيث أن مدارس شمال قطاع غزة تتعرض للقصف والتدمير من قبل الاحتلال الإسرائيلي وكارثة التهجير والمفقودين مازالت قائمة, وفي هذا المشهد تظهر أم اسعد التي لم تعدم وسيلة للبحث عن ابنها المفقود إضافة إلى الحرقة التي تصيب أم المفقود على ابنها. كما تناول احد المشاهد قضية الحصار والضغط النفسي الذي يطبق على الإنسان الفلسطينية و تأقلمه مع هذه الأوضاع السيئة من خلال عرض "البابور" الذي جسد القدرة على الصبر والصمود والإيمان بالمستقبل المشرق . الانقسام الداخلي نال نصيبه من مشاهد هذا العمل المسرحي حيث تناول السلبيات التي تنطوي عليه والآثار التي تركها على النسيج الاجتماعي الفلسطيني داعيا من خلال عرض صور قيادات فلسطينية توصل رسالة بأن وحدتهم تعيد للشعب الحياة مختتما المسرحية بمشهد يصور البطل أيوب وهو يعود إلى داخل السلة ويرفض الخروج منها لأنه يرى أن"الوطن أصبح وطنين والبلد أصبح بلدين". كان هذا عرضاً لأهم جوانب ولوحات مسرحية"نساء غزة وصبر أيوب" ولكن الملاحظ انه و برغم بعض الانتقادات المبطنة بطريقة ذكية لبعض من سلوكيات المقاومة والحكومة بغزة, إلا انه حظي باستحسان من أوساط شعبية ورسمية ما يدل على وجود مساحة للتعبير و قدرة على تقبل النقد من قبل النظام وحركة حماس في قطاع غزة. المخرج سعيد البيطار يقول "أن هدفه من هذا العمل المسرحي هو إيصال رسالة للعالم بأنه يكفي حصاراً, بالإضافة إلى تسليط الضوء على المرأة الفلسطينية التي تشكل عماد المجتمع بالرغم من كل الصعوبات التي تعيشها". ويتابع "أردنا أن نقول أن غزة بحاجة إلى الحياة ويكفي الاحتلال مصادرة للحياة والأمل, ويفخر البيطار بان هذا العمل جاء من بين الحصار وثنايا الحرب ليخرج هذا الإبداع وينقل رسالتنا للعالم. ويفسر سعيد البيطار انه أراد من خلال المشهد الأخير أن يدعو إلى حدوث المصالحة بين الفصائل بشكل شعبي من خلال أن نحب بعضنا ونتحد ونفرض المصالحة على الجميع. ويضيف "أردت أن أصل إلى أن يطرح الجمهور ويصل إلى ضرورة أن نرجع لصلب القضية الفلسطينية موحدين". الفنان الكبير دريد لحام والذي أضفت زيارته المزيد من الاهتمام والأضواء لهذا العمل المسرحي يقول :" الإنسان الفلسطيني الرائع ليس محاصرا في غزة والضفة فقط ولكن في العالم كافة، لكن الحصار الأقسى والأكثر وجعا هو حصار الخلاف بين الأخوة الفلسطينيين". وتابع "منذ وصولي إلى غزة شعرت بإحساس الحرية والكرامة وليس بأنها سجن لأنها محاصرة، أتينا إليكم نستمد منكم الشموخ". لم يكتفي الفنان دريد لحام بذلك بل كان أيضا جزءاً من المسرحية من خلال توجه البطل أيوب في نهاية العرض للفنان السوري بقوله "تعال يا أستاذ دريد مش عارف أخليني جوا القفة ولا اطلع براها"، فيصعد لحام إلى خشبة المسرح وسط تصفيق الجمهور الحار ويقول للبطل "إذا لم يتحدوا(الفصائل) راح ادخل أنا معاك في القفة". كما وأثار دريد اللحام حماس الحضور بغنائه لأغنية "بأكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب" وهي إحدى أغاني مسرحيته الشهيرة "كاسك يا وطن". كل هذا مثل أهمية كبيرة ووضع الفن الفلسطيني على الطاولة وتحت المجهر, فحضور فنان بحجم دريد لحام لحضور العرض يعني أن هناك تقدما ملحوظاُ تشهده الساحة الفنية الفلسطينية بل والمشهد الثقافي برمته. من ناحيته قال المخرج الفلسطيني مصطفى النبيه تعليقا علي العمل المسرحي " نساء غزة وصبر أيوب لوحات واقعية تعبر عن تلقائية الحالة ، أبدع في تكوينها المخرج الفنان (سعيد البيطار) حين تناول واقع عذابات المرأة العربية الفلسطينية الصبورة المعطاءة وما تتعرض له من قمع و اضطهاد جسدي و نفسي ومعنوي مرورا بالملكة (هيلانة) حتى يومنا هذا، وتوج هذه اللوحات الجميلة بقصة مستوحاة عن النبي أيوب (عليه السلام) الذي أبتُلِيَ في جسده بأنواع من البلاء ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، حتى هجره الجميع ولم يبق يحنو عليه سوى زوجته . كان يحلم أن يخرج من السلة أن يحلق فوق هذه الأرض وعندما تحقق حلمه وشاهد مأساة تناحر الأخوة والفئوية والحزبية واللاحب الذي استوطن غزة قرر أن يعود إلى وحدته وألا يشاهد هذه الكوارث اللاأخلاقية واللعنة التي صُبَّت على هذه الأرض". واختتم قراءتي هذه بتعقيب معالي وزير الثقافة الفلسطيني د.م. أسامة العيسوي بعيد حضوره للمسرحية حيث قال " إن هذا العمل يشكل نقله نوعية في الفن الفلسطيني المقاوم خاصة انه يجسد الواقع الفلسطيني بما تحتويه من صور المعاناة والصمود ومقاومة الاحتلال,مضيفا أن هذا العمل يمثل صفحة مشرقة في المشهد الثقافي الفلسطيني بل ويعمل على النهوض به, كما و ثمن معالي الوزير هذا العمل وشكر كل من قام عليه مع الاحتفاظ ببعض الملاحظات التي سيتم إيصالها إلى القائمين على العمل ليتم تداركها للارتقاء بالفن الفلسطيني المقاوم والذي يعد شكلا من أشكال النضال والمقاومة ضد الاحتلال. وأكد العيسوي على دعم وزارة الثقافة لكل الإبداعات الفنية على الساحة الفلسطينية وتمني أن تكون "نساء غزة وصبر أيوب" بداية لنهضة فنية مقاومة.