أخذت كلاب القبيلة تعوي.. وتعوي.. قلت في العادة.. الكلاب تنبح.. فلم هذه.. تعوي..؟ وبالرغم من اللون القمري، الذي يطغى على هذه الليلة، فإني أكاد أقول إنني لا أرى قمرا. كما أنني أسمع عواء الكلاب القريب مني، لكن لا أرى كلابا، وقد تكون ذئابا.. وقد تكون هي تراني.. و"تنمنم" و"تنقنق"حول ظلال وجودي، خلف سياج هذه الغابة الكثيفة، دون أن تفهم ما أنوي القيام به، ولا لماذا أنا هنا.. فقط لأنها كلاب ربما مسنة، تسمع.. دون أن ترى، وقد ترى.. دون أن تفهم. قلت .. تشجع يا سالم، فالغابة لن تكون أكثر من غابة أشجار، و سواقي مياه، جبلت على طاعة صخور صلبة، يعود تاريخها إلى زمن غابر وقديم.. عندما قطفت أول ثمرة قريبة من ذراعي الأيسر، تعالى عواء كلاب القبيلة، التي باتت أقرب مما يتصور. لم أشعر بالخوف بتاتا. بل أحسست بقوة لا حد لها، تسري في كيان جسدي وروحي، لا أدري ما هو مصدرها، ولا كيف ولا من أين جاءتني. اخترقت الأشجار بتحد كبير.. أشجار كثيفة، ضخمة وعالية جدا، لم يحصل أن شاهدت مثلها من قبل. كنت بين الفينة و الأخرى، أردد لحنا عفويا، أرتجله بلا أي تفكير مسبق، أكسر به رتابة هدوء المكان، الذي يكاد يلمس.. عواء الكلاب دائما يطاردني، أو أطارده، لست أدري... إنه الآن آخذ في الارتفاع، كلما تقدمت خطواتي. الأشباح فكر خرافي يجب أن يقبر إلى الأبد. وصلت إلى شلال كبير، استهوتني مياهه العذبة.قلت فلتكن يا سالم سفرة أخرى لك، في مياه شلال عملاق كهذا. أظهر للسماء والغابة معا قوتك وعنفوان شبابك. عاينت ببصري محيطي الغابوي، لعلني أكتشف آدميا يترقبني. شرعت في نزع ملابسي. لماذا لا أسبح في مياه جنة أرضية كهذه؟ وقبل أن ألقي بجسدي كليا بين اشتباكات دوالي ماء الشلال الفضي، تحسسته بأطراف أصابع يدي، لأجده جد دافئ. فقلت هذا الشلال نعمة يا سالم. غطست بجسدي كله.. وعندما حاولت رفع رأسي إلى سطح الماء، لم أتمكن من ذلك. بل لم أستطع رفعه بالمرة، وكأن مجموعة من أياد حديدية تدفعي، بدءا من رأسي، عكسيا، تجاه عمق هذا البحر، غير كل بحار الدنيا . فقلت ما عليك يا زعيم إلا أن تواصل فن العوم، حتى الشط المقابل لهذا الشلال الغابوي الجميل. أنذاك رأيت بأمي عيني هاتين في عمق المياه العذبة ما لم يكن في حسباني: جيوش كثيرة من الكلاب، أو الحيتان.. لست أدري.. بأحجام وألوان مختلفة.. قادمة في اتجاهي. وهي بلا شك- قلت- كلاب القبيلة المقيمة خلف الغابة. فعاودت التحدث مع نفسي قائلا: تقدم يا سالم فهذا يومك قد حان.. وهذه ولادتك الجديدة. مهمتك الآن أسهل من ذي قبل. لن تحتاج في هذه المعركة الوجودية- إما أن تكون أو لا تكون- التي انتظرتها منذ زمن بعيد، إلا لاستخدام السلاح رقم سبعة. الكلاب بطبعها جبانة. فهي كثيرة النباح لتحمي نفسها من إطلالة الغريب، الذي هو أنا.. لذا إن استطعت أن تطبق القاعدة سبعة، بجعل هذه الكلاب الطائشة، ترقص لك عارية من كبريائها الغرائزي، تكون بالقطع قد ربحت الرهان.. ولم تمض لحظات، حتى وجدت في قلب دائرة سرب كبير.. من كلاب غريبة، نصفها الأعلى كلبي والنصف الآخر آدمي، مربوطة في ما بينها بسلاسل سميكة لم أتبين طبيعتها، مشدودة بدورها لجذع شجرة ضخمة.. أو جبل صخري مشكل بطريقة وكأنها منحوتة، تتوسطه مغارة عميقة، ينبع منها شعاع نور يتلألأ بين الفينة والأخرى. قلت يجب أن أفرض آدميتي على صورتهم الكلبية.. لكن.. وإذا حدث العكس..؟ لا.. لا يمكن.. بخبرتي في الحياة.. وبشيء من الحروف التي قرأت في الكتب، يمكن أن أقنعها وأنجح في مغامرة كهذه.. مضت أيام غير قليلة، على مقامي الطوعي، بين كلاب قبيلة الشلال. تمكنت بجهد أقل مما تصورت، من النجاح في مهمتي، وأصبحت تلك الكلاب، رغم وجوهها "الكلبية" الغارقة في عالم البرية، كائنات جميلة الملامح ومطيعة لي في كل شيء.. مثل الخاتم في أصبعي.. كما يقال.. وفي يوم من أيام خريف عاصف، بالضبط .. في ليلة مقمرة مشاكسة.. قلت لهم، بعد أن هيأت متاعي وأشيائي، أن وقت الفراق قد حان بعد أن طال. حاول البعض منهم، عكس البعض الآخر، الحيلولة دون رحيلي.. لكن دون جدوى.. كنت جد مصر عل مغادرة الشلال.. والرحيل إلى مكان آخر، أكثر تناسبا مع تربة دواخلي.. أنا ابن مدينة تسكن بين تفاصيل شمس.. أحلم بوهج يبحث عنها. أنا كائن لا يمكن أن يكون "كلبي" اللون. غادرت الشلال سعيدا، وفي ذهني أن أصل إلى ضجيج المدينة، وأدخنة المعامل المغسولة الوجه ببخار الصمت الجميل، وازدحام سواعد الرجال، المنتظرين في أرصفة المقاهي الحمراء.. أذكر أنني عندما تركت كلاب هذه القبيلة المسعورة والمحترمة.. كانت تبكي.. تبكي من شدة الحزن على فراقي لأنها- ربما.. يرهبها أن تعود إليها، في غيابي، صورتها الكلبية... بعد أن تخلصت منها تقريبا، بوجودي.. أما أطفالها الأقوياء، الذين كانوا يتحلقون حولي كل مساء، يستمعون لحكاياتي الغريبة والعجيبة، رغم هزال أجسادهم الطويلة، فتركتهم يلعبون في أرجوحاتهم الشجرية.. وأمام مجسم حجري كبير، كانت نساؤهم منشغلات بإعداد الأفران الطينية، وصهاريج الأمطار القادمة... للزمن الصعب الذي يمكن أن يحمله القدر القادم.