دق دق دق عينا المرأة الأخرى تطلان علي. هناك مقعد يركن في الزاوية غادرته قبل قليل. ذو اليدين يجلس قبالتي كليما. تلك المرأة تحت النصب الحجري ركنت يديها المطرزتين، بينما يداه تعدان الأرقام رقما، رقما على نصبها الحجري. يداه رائعتان للعزف على جسدها لتنام نوما هادئا بلا كوابيس. لكنه لسبب ما كف عن العزف واستكان لتلك المرأة تحت التراب التي كانت تشهق قبل قليل تحته في مقهى فرنسا وهو يسجل غيابها قولا. "هناك كانت تجلس" هنا حدثتني عنك قبل أن تنزع نفسها منا قسرا." استرق ثانية بعيدا عني وهمس لها: "جردتني صاحبتك منك ورمتني عاريا في الشارع" استرقت ثانية بعيدة عنه وهمست لها: "من سلمتيني مفاتيحه جردني من روحي جسدا يلوكه الكلام" تقهقه ساخرة "يا أولاد "المساخيط" تغدران بي حتى وأنا تحت التراب"؟ أحاول أن أخلص نفسي من دقات المهباج. أسد أذني رغم صراخ شارع محمد الخامس، ورغم خضرة قاتمة لمبنى لا يشبهني ولا يشبهه في شيء. أفضل أن أتيه في شوارع البيضاء، لأهرب من دقات المهباج. الدارالبيضاء لم تعد تشيح بوجهها لي كما في أول يوم عندما غادرني. "إلى متى ستبقي تائهة أيتها الجدة الطفلة"؟ حسنا سأمنح نفسي للتيه. ما الذي سيحصل؟ لن يحصل شيء سوى أن أجد رجل شرطة في النهاية ليدلني على الطريق أو ربما يأخذني في تيه آخر. وسط البلد ليس من النوع الذي يبتلعك كما في شوارع تل_أبيب، حيث هنا تحس أنك مهما اغتربت، فروائح الأكل ذاتها ، والنساء ذاتهن والرجال ذاتهم، واللغة بألوانها وغرابتها وإن كانت مبهمة فلا بد أن تحمل ولو نبضا مني. أتحت لنفسي التيه على أن لا أنجرف تحت دقات المهباج تلك التي تحاول دق قلبه، ومسح عينيه و"كندورة" بيضاء متخيلة ارتسمت أمامي منذ أيام. دق، دق، دق. أرجوك أيها المهباج دق بلطف وامسح تلك الدمعة المحتقنة من أمامي لئلا يضيء انهزام يؤدي بي إلى الهاوية. فكم هزمتني الرحمة. ومنحت نفسي للطريق أن تجول بي شيء ما بدأ يعشش في الذاكرة. بدأت الاتجاهات التي كانت تتوه مني تستدل عليَّ، ما السر؟ ما السر في أني أتوه في بلدي واجد الاتجاه في هذه المدينة الغريبة؟ هي إذن. حاسة الشم القديمة. وأعود بهدير الموج الذي تسلل لمساماتي وبإيقاع نوتاته: "طار الحمام طار، وكل إلى عشه يطير" غنى لي في ليلة الوداع لا يعلم أن عشي هو نصي، وان نصي "هو" كل كله-صاحب تلك الأغنية. بعد عودني من حضنه مزعت الليل بإيقاع صوته المسجل.والناس نيام ولا يعلمون تلك العاشقة التي تستند إلى صوت في البعيد، صوت يتغير حسب لحظات الجنون، الطفولة،الحزن والرزانة . ومن خلال تسجيلاتنا على مسجل صغير رمادي، تقفز لحضني متاهاتنا، حماقاتنا وضحكاتنا التي لم تتوقف ونحن نقطع السهول في السيارة الرمادية. وهو يرتجل خطابا عن الانتصاب القائم حولنا. انتصاب الكراسي حتى اهترائها تحت مؤخرات الزعماء، انتصاب المآذن التي لا شأن لها بالقادمين من حوافي التسول على جوانب المدن الكبيرة، وانتصاب أشياء أخرى قد نلتقطها بين الحين والآخر كنصب تذكارية نضعها في وسط ميدان مدينة شاهدة على من انتصب على كرسي ابد الدهر. ويعيقني حرف الباء عندما يقتحم ال"نص" ويجعله "نصب"ا. وتتملكني تلك الحروف. ماذا مثلا لو نصبنا الفاعل، فالفاعل" التارك" هو المفروض أن يكون المنتصب دائما وأبدا. تأخذني ترهات وحماقات "حرف النصب" ولا أجد مثله إلا في اللغة العربية. كأني بنا غاوون لكل من ينتصب ومع أن الناصب هو الفاعل. إلا أنه في أغلب الحالات شأنه شأن المفعول به. ضحكاته، حماقاته الحكيمة تنطلق من داخل آلة التسجيل وتأتي بهدير البحر. ويهدر البحر تحت دخان السيارات التي تسير في الشارع الرئيسي المحاذي لرأسي تماما. أحاول أن أتخيل الموج بديلا لهذه الضجة التي تسكن مدينتي، فاسرح في المراح المتخيل المليء بنبات القرع ورائحة البحر المحاذي لقرية فلاحية، وهناك تنبت الروح فينا عند رؤية الفلاح الذي سكن وحيدا في روضته، بعيدا عن النت وعن أزرار الالكترونيات. كانت عيناه بلون عسل صاف كصفاء تلك الحقول الشاسعة في الطريق إلى الميلودية. و"هو" ، يلمس ما بي من غرق في الحقول، من تيه أردناه، سفر طويل ونحن نمارس حماقاتنا الطفولية "ياه ما أجمل هذا القرع " "تعالي سآخذ لك صورة مع القرع" ليس قرعا عاديا، بل له تشكيلات لا يمكن ليد إنسان إتقانها، القرع يشكل نفسه عاشقا للشمس فيتلون بألوانها وولعا بالأرض يتيح لها تلويحه كما تشاء. لكن قرعة هذا الفلاح الميلودي قرعة دائرية تحضن أبنائها في داخلها، والفلاح يتكلم عن القرعة كما لو كان يتكلم عن معشوقته المنبثقة من الأرض. على حائط غرفته البسيطة علق قرعة ملونة باللون النيلي "هل أنت رسام"؟سألته لا. ولكن أمارس أحيانا التلوين. لا حاجة لأن يتعلم الفلاح الرسم في كلية الفنون الجميلة، فهو يرسم التراب بيديه، وهو يشيد الإعمال الموضعية المكونة من سعف النخيل بيديه، لا حاجة له في تعريف ما هو العمل الموضعي؟. نبع فنه هو كاس الشاي الأخضر، "دكة" بسيطة، البحر وهديره أمامه. كم حسدته على تلك الحياة. أمان بطينة الفلاح وبطيبته لا يحتاج لأن يضع كرسيا سياسيا ليحرسه من السرقات. هم هؤلاء الفلاحين لا حاجة لهم للتفلسف كثيرا لكي يتعايشوا مع كيس الأركان أو مع موج البحر أو مع التراب الملون. من يحتاج للنصب هم فقط. أولئك من لا لحن في أياديهم للعزف على الطين. وددت لو تمددت قليلا في تلك الغرفة، لكن كان ينتظرنا سفر آخر، وبقيت رموشي معلقة بتلك السهول الشاسعة التي حرمني منها هذا البناء الصخري الذي يشبه الغيتو محيطا بغرفتي. "طار الحمام طار، كل إلى عشه يطير". تلك المرأة طارت لعشها، ذو اليدين طار لعشه، وها أنا أطير مع من نحته جلدي إلى داخل النص.