أقام موسيقار إسرائيلي يدعى دانيال بارنبويم حفلا موسيقيا في دار الأوبرا المصرية يوم الخميس 16 أبريل الحالي . وهي المرة الأولى التي يدخل فيها الإسرائيليون دار الأوبر ويقدم أحدهم حفلا بالاشتراك مع أوركسترا القاهرة السيمفوني على خشبة المسرح الكبير. ومما يثير الدهشة أن الجهة التي دعت موسيقارا إسرائيليا للقاهرة – حسب تصريحات وزير الثقافة - هي السفارة النمساوية ! فهل يجوز لسفارتنا في النمسا أن تدعو موسيقيا هنديا لتقديم عرض في النمسا ؟ . والآن : هل جاءت دعوة الموسيقار الذي يحمل ثلاثة جوازات سفر أخرى من باب " النشاط الثقافي " ؟ أم من باب " النشاط السياسي " ؟ هل تكتسب زيارته جدواها من حضوره السياسي كداعية للسلام والتسامح كما يقولون ؟ أم من حضوره الفني كعازف وقائد أوركسترا؟ . فإن كنا معنيين بتنشيط الحركة الموسيقية بمختلف العروض ، فكيف يتسق هذا الاهتمام مع إغلاق دار الأوبرا في وجه سيد درويش الذي تجاهلت الأوبرا كعادتها ذكرى مولده التي مرت في مارس هذا العام ، فلم تقدم شيئا من أعماله التي لا نعرف منها سوى أوبريت واحدة هي العشرة الطيبة ، بينما له ما يزيد عن عشرة أعمال أخرى؟ . لماذا تدفن الأوبرا المصرية تراثنا وتقدم لنا التفاهات المتأنقة ؟ كما يدفن المسرح تراثنا المسرحي ويقدم لنا المسرح التجريبي ، فلا يعود أحد يعرف من هو توفيق الحكيم ، أو نعمان عاشور؟ أو يوسف إدريس أو ألفريد فرج ؟ . والحق أنه ليس لدي الأوبرا والقائمين عليها أي اهتمام حقيقي بتاريخ المسرح الغنائي المصري ، وإلا لاعتنوا بتقديمه والاحتفاء بأكبر رموزه سيد درويش ، ليس بالكلمات لكن بتقديم أعماله . وزيارة " بارنبويم " إذن لا تأتي في سياق فني ، فهناك عشرات " بارنبويم " لم تتم دعوتهم ، لكنها تجيء في إطار آخر، في سياق الاحتفاء بقيمة ما سياسية مقنعة بشكل فني . فإن كان الأمر كذلك ، فلماذا لم تتم دعوة الموسيقار اللبناني وليم نصار الذي رفض استلام جائزة حين تحتم عليه أن يتقاسمها مع إسرائيلي ؟ ولماذا لم تتم دعوة فرقة إحياء تراث الموسيقى الفلسطينية المسماة " حنين " ؟ أو غيرها ؟ . هذا لأن المدعو " بارنبويم " داعية سلام ، وهي قيمة لو صح وجودها لاستحقت دون شك كل احتفاء من جانبنا . يقوم " سلام بارنبويم " على تكراره أنه كان صديقا لإدوارد سعيد، والأخير مع احترامنا له ليس حيا ليدقق لنا تلك القصص ، كما أنه ليس مرجعا نهائيا في كل شيء خاصة مع دعوته لتذويب الشعب الفلسطيني داخل دولة إسرائيل . ويتضح " سلام بارنبويم " حين نعلم أنه في مطلع يناير هذا العام أقام حفلا في فيينا حين كانت المجازر الإسرائيلية على أشدها في غزة ، وأعرب بعد الحفل في بيان صحفي عن : " انتقاده للغارات الإسرائيلية ، وشدد في الوقت نفسه ( انتبه لما سيقوله) على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الصاروخية لحماس "! ووفق " سلام بارنبويم " فإن ما ارتكبته إسرائيل في غزة كان " دفاعا عن نفسها " ولها الحق في ذلك ! وفي فبراير هذا العام أصدر " سلام بارنبويم " بيانا نادى فيه بأنه : " لا يمكن حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالقوة " . فصور القضية على أنها صراع ، وليس احتلال دولة لأرض شعب آخر ! وفي تصريحات أخرى له اعتبر أن الصراع على حد قوله : " ليس عسكريا ولا سياسيا بل إنسانيا لأن هناك شعبين يطالبان بقطعة الأرض نفسها " ، أي أن على الشعب الفلسطيني أن يغض النظر عن الدبابات والمجازر والاستيطان وعليه أيضا أن يحل المسألة بشكل " إنساني " لأن الصراع " ليس عسكريا " ! أما القنابل الفوسفورية والقصف فهو من خيالات الشعب الفلسطيني الذي يظن خطأ أن هناك " صراعا عسكريا " ويتصرف على هذا الأساس! ويرتكز الحل الذي يقدمه " سلام بارنبويم " في ضرورة أن يصبح العرب قادرين على الذهاب لإسرائيل للتعبير عن رأيهم بصراحة ، بدلا من ترك الإسرائليين هكذا لا يتفهمون رأي العرب ! أي أنه يدعونا ألا نقاطع إسرائيل ، وأن نحتذي حذو على سالم وجورج البهجوري ، وحينما نذهب لإسرائيل ستفهم إسرائيل وتقول : آه .. والله ما كنت فاهمة ! وإذا كان " بارنبويم " داعية تسامح وسلام ، فلماذا لم نسمع عن حفلاته خلال حصار غزة ؟ وخلال حرب إسرائيل على لبنان ؟ ولماذا لا يقول لنا رأيه صراحة بشأن حق عودة الفلسطينيين المعترف به من الأممالمتحدة ؟ ولماذا لا يقول لنا بدلا من الكلام العمومي عن السلام شيئا محددا عن ضرورة انسحاب إسرائيل لخطوط ما قبل 1967 ؟ . وعندما يتحدث شخص عن السلام ، بكلمات عامة ومبهمة ، في ظل وضع تحتل فيه دولة أرض شعب آخر ، فإنه في الحقيقة لا يدعو إلا لاستمرار الاحتلال. ومن سوء حظ مصر أن تغلق أبوابها في وجه أبنائها العظام مثل سيد درويش ، وتفتح لكل أفاق سلام عابر طريق .