جلست أنظر إلى المارة في ذهابهم وإيابهم ثارة واستمتع بخضرة الأشجار الشامخة ثارة أخرى وأحيانا أسافر ببصري في الأفق مع العصافير. تسألت كيف لهذه الشجرة أن تصمد وسط هذا الزخم من الأسمنت القاتل والتحولات العميقة التي نحياها في كل لحظة وفضاء؟. شجرة رفضت أن تترك موطنها متشبثة بجذورها وهويتها، شاهدة على عصور من التحول والتطور، فجأة قطع حبل أفكاري صوت حزين بائس: تعاون معي !. نزلت بعيني من على أغصان الشجرة الجميلة ووضعتهما على وجه شاحب لصبية في سنتها السادسة، تشير إلي بمنديل ورقي بين أصابعها الرقيقة : أرجوك اشتري مني. أشرت لها بدرهمين من غير أن أخد منها أي منديل تم تتبعت خطواتها وهي تنتقل وسط الحديقة من كرسي إلى أخر مثل الفراشة الجريحة، إلى أن اِنْقَضَّت عليها امرأة شابة ترتدي سروال جينز وقميص قصير الأطراف يكشف بعض مفاتنها. -من تكون تلك المرأة ؟ من تكون يا ترى ؟. - ربما أمها !. انتابني شعور غريب ومحير لما شاهدتها تعاتبها وتتعمد نفث دخان السيجارة على وجهها. سمعتها تقول لما اقتربت منهما : أين الباقي، أيتها السافلة؟. نظرت إلى الصبية وهي تبكي وتدخل يدها في جيب سروالها المرقع، ثم تخرجها خالية بيضاء، فقلت مناجيا نفسي: هل يعقل أن تجعل من طفلتها الضعيفة معيلة لها ؟ -أيتها السافلة هذا المكان يذر أكثر بكثير من هذه الدريهمات ... عنفتها وأخذت منها حقيبة كانت تحملها على كتفها تم أخرجت منها كسرة خبز وبعض الحلوى... -أيتها الساقطة بدَّرتي نقودي كلها على هذه الحلوى ! شتمتها من جديد بأبشع العبارات، تم صفعتها حتى سقطت أرضا. في هذه اللحظة، نفد صبري وقررت أن أتدخل لتني تلك الظالمة عما تفعله بهذه المسكينة. حملت الصبية من على الأرض ودفعت بيدي الأخرى تلك المرأة دفعة قوية وصرخت في وجهها: أليس في قلبك ذرة عطف ورحمة ! فإذا بالكلمات النابية تفوح من فمها بدون انقطاع : وأنت ما شأنك ؟.. ومن تكون ؟ .. اذهب إلى حال سبيلك أيها العفن!.. تمالكت نفسي وحاولت تهديدها باستدعاء الشرطة عما تفعل. لكنها لم تكترث بقولي واقتربت باستهزاء من وجهي وأشارت بيدها إلى مقر الشرطة... وبينما نحن نتجادل، طوقني ثلاثة شبان أقوياء البنية، خشني الصوت، على وجوههم آثار الطعنات. حاولت أن أقاومهم فوجدتني مرميا فوق القمامة بجانب الطريق .. شتموني بأبشع الألفاظ، وأخذوا الصبية و ذهبوا. تطلعت إلى الشجرة من جديد وكأن حال نفسي يقول :لعل صمودها استثناء في امة ذهبت قيمها أو كادت.