يمكن الجزم وبدون كثير نقاش ولا جدال أن مسلسل "صلة رحم" كان من بين أفضل ما عرض في الدراما التلفزيونية هذا الموسم الرمضاني عربيا، ويَكمُن تفوقه في كونه عملا متكاملا في جميع عناصره الفنية والتقنية. وقد استطاع كاتب السيناريو محمد هشام عبية والمخرج تامر نادي تناول موضوع جد حساس من الناحيتين الدينية والقانونية بدون الدخول في مجادلات ولا السقوط في خطاب مباشر ديني بالخصوص رغم الإغراءات التي كان موضوع الإجهاض المحظور دينيا وقانونيا في مصر يغري بها. كتبت شخوص المسلسل بشكل جعلها تبدو على الشاشة من لحم ودم، ابتداء من شخصية طبيب التخدير الذي عاني طيلة حياته اتجاه أمه من عقدة ذنب جعلته يشعر بها وهي تردد له باستمرار أنها قرَّرَت عدم الزواج بعد وفاة أبيه وضحَّت بسنوات شبابها لتربيه ولكي لا تأتي له بزوج أم، هذه العقدة التي جعلته حالما يجد نفسه أمام امتحان آخر قد يشعره الذنب اتجاه زوجته حتى انتفض وقرر أن يفعل المستحيل حتى لا يُكرر نفس ماعاناه طيلة حياته بشكل أكبر. شخصية الطبيب التي أداها بتفوق إياد نصار ستعرف طيلة حلقات المسلسل تغييرات وتحولات نتيجة ما ستتعرض له من مشاكل و ستجعله يُغيِّر قناعاته بالتدريج وبشكل منطقي دراميا، فبعد أن نراه في بداية المسلسل يُبدِي احتجاجه واعتراضه على زميله الذي يُجهض النساء اللواتي وقعت لهن مشاكل وقررن التخلص من أجنتهن في عيادته، نجده في الحلقة الأخيرة يحاول إقناع نفس الزميل بإجراء عملية إجهاض لظروف إنسانية تستدعيها، هذا الزميل الذي كان متيقنا منذ البداية أن ما يفعله عمل إنساني حتى لو كان الدين أو القانون ضده ويحرمه أويمنعه. كل الشخصيات في المسلسل لديها تركيبتها الخاصة وتم الاشتغال عليها في مرحلة الكتابة بشكل جيد، بل إن نقطة قوة " صلة رحم" تكمن بالأساس وفي المقام الأول في جودة السيناريو، وأجدني أقول أن أهم مسلسل تم الاشتغال عليه من هذا الجانب من كل الأعمال التي تابعتها هذا الموسم هو "صلة رحم"، فرجل الدين قُدِّم بشكل مختلف تماما عما نشاهده في أعمال درامية وسينمائية عربية، فرغم الإغراء الذي يمنحه وجوده في سياق الأحداث وتَوَرُّط زوجته في ارتكاب مايمكن أن يعتبر مُحرما في الدين، فإن صانعي المسلسل لم يجعلوا منه واعظا يردد الخُطَبَ العصماء وينهى عن ارتكاب المعاصي ويهدد الناس بنار جهنم، بل نَبَعَت شخصيته من جذور المجتمع وفروكة بضغوطات الحياة وهمومها، فحتى حينما قَّررَت زوجته الرجوع للعمل ليلا بعد منعها من طرفه لأول مرة، تغاضى نزولا عند ضغوط الفاقة والحاجة. وأجدني هنا أمام أهم شخصية دينية شاهدتها في الأعمال الدرامية العربية منذ فترة كبيرة. الإخراج كان منضبطا للنص وبدون زيادات شكلية، وقد كان المشهد النهائي سينمائيا بامتياز، حيث لغة الصورة كانت المعبر بدون أي كلام عن مأزق الخطاب الديني وبنود القانون وتشريعاته معا أمام موضوعين إشكاليين صعب الجزم فيهما بمنعهما، فيما المجتمع قد تشعَّبت فيه العلاقات والمشاكل، ولم يَعُد لارَدعُ الدين ولا تخويف القانون قادرين على ردع ووقف مئات حالات الإجهاض التي تجرى يوميا ولا التَّصَديِّ لتطور الحياة العصرية ومُتغيِّراتها التي من بينها إمكانية استأجار الأرحام لمن لايستطيعون الإنجاب بشكل طبيعي وعادي، هذا المشهد الذي تتواجه فيه الأم البيولوجية بالأم الحاضنة وجها لوجه بنظرات متبادلة تحتمل كثيرا من التأويلات، وبينهما الوليد القادم للتو إلى هذه الحياة القاسية، فيما الأب قد أدَّى دوره ومات قبل لحظات.