ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزّلزال الليبرالي

إن هذه الترجمة المتخصصة التي نقدمها للقارئ الكريم، هدفها أن تكشف الغطاء عن عواقب الأزمة المالية الأخيرة التي هزت أركان العالم، والتي ما زالت تخفي في طياتها، إعصارات "تسونامية" قادمة لا محالة، في المستقبل القريب. إن الأستاذ والخبير الإقتصادي سمير أمين، الكاتب العربي الملتزم والمختص في قضايا العالم المالية وشؤونه السياسية، لما يقرب من نصف قرن، يقدم لنا في مؤلفه الأخير، الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان "الفيروس الأمريكي"، دراسة تحليلية دقيقة لللأخطبوط الأمريكي ونواياه الإمبريالية. وبما أن مجال الدراسة الواسع لا يسمح لنا بعرضه كاملا، فلقد التجأنا إلى حل وسط، أي ترجمة الفصل الهام المتعلق بمكونات المجتمع الأمريكي، والعوامل الطائفية، كما الفرق الدينية والمؤسسات المالية، كما الأحزاب السياسية التي توجه أطماع سيايته التوسعية الإمبريالية.
وننبه القارئ الكريم، بأننا في هذه الترجمة، قد التجأنا بهذه المناسبة، إلى تعزيز وإغناء نص صاحبنا، بالتصرف فيه دونما مس بطرحه الجوهري، وذلك بإضافة توضيحات إضافية من عندنا، حين تضطرنا الضرورة لذلك، وبإضافة مصادر أخرى لم يذكرها المؤلف، ولكنها تصب بالمناسبة في نفس السياق، وتلقي الضوء أحيانا، وتعزز أحيانا أخرى، الأطروحة التي قدمها لنا كاتبنا أحمد أمين. ونذكر بهذا الخصوص الكاتب الأمريكي والباحث اللسني الشهير "ناعوم شاومسكي" في مؤلفاته الأخيرة "الإنتهازية قبل الإنسان" و"السلطة والإرهاب" و"مصنع الرأي العام"و"احتلال وال ستريت". هذا، بالإضافة إلى كتاب الخبير الإقتصادي الفرنسي "بول جوريون" من كتابه الأخير "نحو أزمة اقتصادية أمريكية؟". هذا بالإضافة إلى مؤلفات هامة تتعلق بموضوعنا سنعرضها في خاتمة هذه الترجمة. ومما أثار انتباهنا، أن الكاتبين، ونعني: أحمد أمين و"ناعوم شاومسكي" كثيرا ما يلتقيان، ويتقاسمان الرأي، حول مسألة التدويل الأمريكي لمسألة الإرهاب، وآراء أخرى مشابهة، حول كل من النموذج الإمبريالي الياباني أو الأوربي، في مستهل القرن التاسع عشر. على كل حال، ليست هذه المقدمة المختصرة مجال عرض وتدقيق وتحليل، لكل القضايا الهامة، التي عرض لها المؤلف. الشيء الذي سنبسطه بتوضيح في عرض الترجمة.
كلمة أخيرة، وهو أننا لو اقتصرنا باختصار، على فضح الهيمنة الأمريكية، لكان عرضنا شبيها بخطبة جمعة، قد يمضي كل من بعدها إلى غايته، وكأن الرسالة قد بلغت، وكأن شيئا لم يحدث ولن يحدث. بل إننا نرى من ناحيتنا بأن المسالة هي من الأهمية بمكان، بحيث أنه يتوقف عليها مصير أممنا المتخلفة قاطبة، بل مصير البشرية جمعاء. لهذا قمنا بهذا المجهود بتواضع، من أجل خدمة، بالدرجة الأولى، القارئ العربي والمكتبة العربية.
الفيروس الليبرالي
أو
الحرب الدائمة و"أَمْرَكَة" العالم

سمير أمين
الأيديولوجية الأمريكية:
الليبرالية بلا قسمة
من جهتنا، فيما يتعلق بالمجتمعين: الأوربي والأمريكي، لم نر من متسع للمكان هنا، كيما نفسح المجال لمعالجة الروابط المعقدة، بين الديانات والتفاسير التي قد نقدمها لها من جهة، وبين السيرورات المتعلقة بالحداثة، والديمقراطية، والعلمانية، من جهة أخرى، هذه التي قد سبق لي وعبرت عن رأيي بشأنها في مكان آخر. ولكني في هذه الآثناء، سأقوم بتلخيص محصلاتها الرئيسية، في هذه الفرضيات الأربعة اللاحقة:
-1- إن الحداثة، والديمقراطية، كما العلمانية، ليست نتاج تطور أو "ثورة" لتفسيرات دينية، بل بالعكس، إن هذه الأخيرة، ونقصد الديانة وفضاء تفاسيرها، قد وجدت لها تعديلا ملائما وسعيدا لملاحقة ركب الأولى، ونقصد الحداثة ومكوناتها. وبخصوص هذا التعديل، فإنه لم يكن بامتياز، من حظ مصلحة البروتستانتية. لأنه قد عمل، ولكن بشكل مختلف في العالم الكاثوليكي أيضا، وقد أصاب له هو الأخر نوعا من حظ النجاح. على كل حال، إن هذا التعديل الديني بشكل عام، قد ولد روحا دينية محررة من كل الطقوس العتيقة التي كانت تشوبها.
إن حركة الإصلاح الديني بهذا المعنى، لم تكن "الشرط" الضروري للإزدهار الرأسمالي، بالرغم من سعة انتشار أطروحة الباحث الألماني "ماكس ويپپر" هذه التي لاقت لها صدى الإقبال، في كل الأوساط الأوربية المثقفة، خصوصا "البروتستانية" منها بأوربا البروتستانتية. بل إن حركة الإصلاح الديني هذه، لم تكن بهذا المستوى حتى تدعى بتلك القطيعة الأيديجولية الرادكالية، مع الماضي الأوربي وأيديولجياته " الفيودالية-الإقطاعية"، بما فيها تأويلاتها المسيحية السابقة. بل لقد كانت بالعكس، الشكل البدائي الأكثر تشابكا وضبابية.
بالفعل، لقد كان ثمة إصلاحا لفائدة "الطبقات المهيمنة" والذي انتهى في نهاية المطاف، باستحداث كنائس وطنية ( أنجليكانية، لوثرية)، تأثرت بقيادتها هذه الطبقات العليا، بالإضافة إلى البورجوازية الصاعدة، والملكية الوراثية، وكبار الملاكين للأراضي الفلاحية، مهمشين هكذا، كل من الطبقات الشعبية والمزارعين، وفقراء الريف الذين راحوا ضحية هذه الخدعة الإصلاحية. إن هذا التوافق الرجعي – الذي زكاه "لوثر" ووافق على نعته كذلك، كل من "كارل ماركس وإنجيلز"- قد حمى بورجوازية هذه البلدان السابقة الذكر، مما حدث لفرنسا فيما بعد، ونقصد الثورة الراديكالية. علما بأن العلمانية التي انبثقت عن هذا النموذج الثوري، قد ظلت مع ذلك وليومنا هذا، علمانية محتشمة. إن تراجع الأفكار الكاثوليكية الكونية، لدى مؤسسات الكنائس الوطنية، لم يملأ سوى وظيفة واحدة: تقعيد الملكيات الوراثية، وتقوية دورها كحكم بين قوى نمط الحكم القديم، وتلك التي تمثلها البورجوازية الصاعدة. وتعزيز هذه الأخيرة، ونقصد البورجوازية الصاعدة بتقوية روحها الوطنية، وتأخير ما أمكن ذلك، أشكال الكونية الحديثة ، تلك التي ستقترحا "الأممية الإشتراكية" فيما بعد.
ليس هذا فحسب، بل كانت هنالك حركات إصلاحية استحوذت بالمناسبة على بعض الفئات الشعبية، التي كانت من بؤسها، ضحية للتحولات الإجتماعية الناتجة عن بروز الرأسمالية. إن هذه الحركات التي أنشات من جديد، أشكال الصراع القديم - تلك المتعلقة بألفية القرون الوسطى - لم تكن متقدمة على عصرها، بل جد متأخرة عن متطلباته. لهذا كان يستلزم انتظار الثورة الفرنسية - بتعبآتها الشعبية العلمانية والديموقراطية الراديكالية - ثم الإشتراكية، حتى يصبح في مستطاع الطبقات المُسَيْطَر عليها، أن تتعلم التعبير بجدية عن متطلباتها الإجتماعية، في هذه الظروف الحديثة. إن الطوائف البروتستانتية المتعلقة بموضوعنا، قد تغذت بأوهام من جنس الأصولية المتعصبة. ولقد أنشأت لها أرضية مناسبة، لإعادة إنتاج إلى ما لا نهاية، "نِحَلاً" ذات رؤى خرابية لنهاية العالم، الشيء الذي ما زلنا نراه يزهر في الولايات المتحدة.
إن الثقافة السياسية للولايات المتحدة، ليست تلك التي اتخذت شكلها في فرنسا، انطلاقا من عصر الأنوار، ثم خصوصا بعدئذ، مع ثورة 1789، هذه التي طبعت بدرجة ما أو بأخرى تاريخ جزئ هام من القارة الأوربية. إن الفارق بين هذين الثقافتين واضح وبين، ولا يحتاج لأي دليل إضافي. وكثيرا ما ينفجر هذا الفارق بينهما في أوقات الأزمات بشدة وحدة عنيفة، خصوصا فيما يتعلق بالشرعية الدولية وحقوقياتها. وحرب العراق في هذا السياق، قد تعد مثلا واضحا.
إن الثقافة السياسية، هي نتاج لتاريخ مُتَصَوّر في مدته الطويلة، والتي تعتبر بطبيعة الحال، خاصة بكل بلد. وبهذا الخصوص، فإن تاريخ ثقافة الولايات المتحدة، يظل موسوما بخصوصيات، تتجلى فوارقها بوضوح في مقابل تلك التي تطبع القارة االأوربية. ونذكر من بين هذه الخصوصيات مثلا: تشييد بريطانيا الجديدة (الولايات الأمريكية االمتحدة اليوم)، من قبل الطوائف البروتستانتية المتطرفة، الإجرام العرقي في حق جنس الهنود الحمر، استعباد الأفارقة السود، واستخدام الطائفية كشكل من أشكال التجمع للهجرات الطائفية، في القرن التاسع عشر.
إن الطوائف البروتستانتية التي اضطرت إلى الهجرة من بريطانيا، في القرن السابع عشر، قد طورت لديها بتطرفها، تفسيرا خاصا للديانة المسيحية، لا نجد له مثيلا بهذه الشدة من التطرف، لا عند "الكاثوليك" ولا عند "الأرثودوكس"، بل ولا حتى عند البروتستانتيين الأوربيين، بما فيهم الكثرة "الإنجيلية"، التي كانت مهيمنة على زمام الحكم في بريطانيا. فحركة الإصلاح الديني، كانت في عمومها تعيد الإعتبار "للعهد القديم"، الذي كانت كل من الكاثوليكية والأرثدوكسية بتفسيراتها، قد همشته وفصلته عن اليهودية، باعتباره كمنفصل وليس كمتصل بها. (وأحيل بالمناسبة، القارئ الكريم إلى مراجعة ما كتبته بهذا الخصوص عن كل من اليهودية، والمسيحية والإسلام). إن الإستخدام لصيغة " اليهو – مسيحي" الذي أصبح دارجا ومشهورا، من قبل البروتستانتيين الأمريكيين، يدل فيما يدل عليه، على هذا القلب الإنشائي، في علاقته بما يخص ديانات التوحيد. هذا القلب الذي انخرطت الكاثوليكية في مسلسله، لا عن قناعة بل بما يمكن أن ندعوه ب"نهزة سياسية". ونستثني "الأورثدوكس" الذين لم ينساقوا من وراء هذه الإنتهازية.
إن الإصلاح الديني كما نعرف، قد فسرت الأدبيات السياية معجزته، بعلاقة ارتباطه الحميم بالنهضة الرأسمالية، علاقة سبب بمسبب. ولكن الفكر الإجتماعي المعاصر يفسره بشكل مختلف. ولعل "ماكس ويبر" كان أول من قدم أطروحة، قد أصبحت شهيرة ورائجة في العالم "الأنكلو- سكسوني" والبروتستانتي، تلك القائلة بأن حركة الإصلاح الديني، ونعني ظهور البروتستانتية، قد خولت للرأسمالية بالبروز. أطروحة جاءت بشكل مضاد - ولربما بشكل مقصود – لأطروحة "كارل ماركس" التي كانت تقرأ في حركة الإصلاح الديني، كحدث قد ترتب عن التحولات التي أحدثتها تشكيلة الرأسمالية. وهذا ما يفسر منوعات البروتستانتية التي من خلالها وعبرها، جاءت احتجاجات الطبقات الشعبية المتضررة بالرأسمالية الناشئة، واستراتيجيات الطبقات المهيمنة.
من ناحية أخرى، إن شظايا الأيديولوجيات، ومنظومات القيم التي كانت تعبر عن نفسها، على هذه الأرضية الدينية، قد بقيت محتفظة لنفسها، بكل علامات الأشكال البدائية في ردود فعلها، للتحدي الرأسمالي.
لقد مضت النهضة الأوربية بعيدا في بعض مظاهرها، ونعني ( "ماكيافيل" الذي يمثل فيها، الشاهد الأكثر فصاحة). في حين أن هذه النهضة، كانت تدور على أرض كاثوليكية (إيطاليا). وإدارة لبعض المدن الإيطالية، وكأنها شركات اقتصادية حقيقية كانت تشرف عليها وتقودها نقابة المساهمين والمقاولين الماليين الأكثر ثراء وغِنى. وتعد ("فينيسيا – البندقية" ) النموذج المثال. وكانت علاقة هذه النقابة المالية، قد أنشأت لها علاقات متينة مع الأشكال الأولى للرأسمالية، أكثر واقعية من تلك التي ستعرفها المنظومة البروتستانتية مع الرأسمالية. وفيما بعد، إن عصر الأنوار الذي كان ينتشر في بلدان كاثوليكية (فرنسا)، كما في بلدان بروتستانتية أخرى (بريطانيا، هولاندا وألمانيا)، قد طبع هذه البلدان الأولى أكثر من هذه الأخيرة، التي كانت ما تزال في الواقع، مرتبطة بالتقليد العلماني لعصر النهضة عوضا من حركة الإصلاح الديني. وأخيرا قدمت الثورة الفرنسية بطابع مزاجها الراديكالي لمتنح للعلمانية قواها الحقيقية، مغادرة هكذا وبشكل مقصود أرضية التفاسير الدينية لتنتقل إلى تلك التي تمثل السياسة المعاصرة، هذه التي تفضل نموذجا حيا، من إبداعها الخاص.
بينما نلاحظ بان الشكل الخاص للبروتستانتية التي انزرعت على أراضي "بريطانيا الجديدة"، ستجد نفسها مدعوة لتعلم بخصوصيتها، الأيديولوجية الأمريكية ببصمات قوية ما تزال ليومنا هذا. لأن هذا التطبيع الأيديولوجي، سيكون الوسيلة التي من خلالها سينطلق المجتمع الأمريكي الجديد لغزو هذه القارة واحتلالها، متخذا ذرائعه هذه ومبررا إياها شرعا، بمصطلحات مستقاة من الإنجيل ( الغزو العنيف من قبل إسرائيل للأرض الموعودة، تيمة ما تزال تردد لحد الإشباع في خطابات أمريكا الشمالية). وفيما بعد، ستبسط الولايات المتحدة رؤيتها الأيديولوجية هذه على العالم أجمع، لتحقيق المشروع الإستعماري الذي أمرهم "الله" بإنجازه. لأن الشعب الأمريكي يرى نفسه وكأنه "الشعب المختار" صيغة مرادفة ل" هيرن فولك – الشعب السيد" التي كانت تستخدمها الأيديولوجية النازية. نعم إننا هنا اليوم أمام هذه الإمبريالية الأمريكية و( ليس الإمبراطورية)، التي نرى فيها بأنها مدعوة لتكون أكثر همجية من أسلافها، الذين كانوا يرون في غزوهم الهمجي تزكية إلاهية.
بطبيعة الحال، إن الأيديولوجية الأمريكية التي هي عنوان تساؤلنا هنا، ليست السبب في انتشار المد الإمبريالي الأمريكي. بل إن السبب يخضع في واقع الأمر، لمنطق تراكم رأس المال، الذي يخدم هذه المصالح المادية البحتة. ولكن هذه الأيديولوجية تلائم هذه الأهداف بامتياز، لأنها تخلط الأوراق.
إن الولايات المتحدة، قد طبعت ولغاية يومنا هذا، بهذه الهيمنة للفرق البروتستانتية الأصولية. إن هذا المجتمع، الديني بامتياز، الشيء الذي لاحظه كل المراقبين، وفي بعض الأحيان بسذاجة، لم يتمكن بسبب هذه القيود، إن يرتفع بنفسه إلى مستوى المفهوم القوي للعلمانية، هذه الأخيرة التي تفسر هنا ب"تحمل كل الديانات الأخرى".
إنني لست من أولئك الذين يعتقدون، بأن الماضي يصبح بسبب قوة الأشياء "تحويلا مشوها". إن التاريخ يغير الشعوب، الشيء الذي حصل في أوربا. ولكن، للأسف الشديد، إن مجريات أحداث التاريخ الأمريكي، بعيدة كل البعد عن المساهمة في محو الوحشية الأصلية. فكل ما حصل، وهو أن التعبير قد شُدِّد والأفعال قد أديمت، وسواء تعلق هذا "بالثورة الأمريكية" أو بتعمير البلد بموجات متعاقبة من المهاجرين.
إن "الثورة الأمريكية" التي كانت محل إعجاب كبير، من قبل الثوار الفرنسيين (1789)، لم تعد تحمل من معنى اليوم، سوى أنها لم تكن سوى حرب استقلال المعمرين بدون أي بعد اجتماعي. إن المعمرين الأمريكيين في انتفاضتهم على الملكية البريطانية، لم يسعوا في الواقع، إلى أي تغييرفي العلاقات الإقتصادية والإجتماعية، بل كل ما كانوا يستهدفونه، هو عدم مقاسمة فوائد أرباحهم، مع الطبقة المهيمنة في الوطن الأم. لقد كانوا يريدون السلطة لأنفسهم، ليس من أجل عمل آخر مختلف، بل من أجل متابعة ما كانوا يعملون في الحقبة الإستعمارية، بجدية أكبر وبانتهازية وإصرار لا حد لهما. لقد كانت أهدافهم قبل كل شيء، هو متابعة المد الإستعماري نحو الغرب، هذا الذي كانت من عواقبه الوخيمة، الهلاك الجماعي (التطهير العرقي) لما تبقى من السكان الأصليين، من "الهنود الحمر". وبهذه المناسبة، إن البقاء على العبودية السوداء في هذه الأثناء، لم يثر أي تساؤل يذكر. فمعظم قادة الثورة الأمريكية، كانوا من أكبر الملاكين للعبيد، لذا كانت أحكامهم المسبقة بخصوص هذه القضية العبودية، راسخة لا تزحزح.
إن المذبحة الجماعية للهنود الحمر (التطهير العرقي)، كانت بطبيعة الحال مسجلة في منطق المهمة الإلهية لشعب الله المختار. ولن يدفعنا هذا للإعتقاد بأن هذه المسالة تتعلق بالماضي وبأن الأمر يختلف الآن. فلغاية سنة 1960، كانت قضية مذبحة الهنود الحمر، تلاقي لها رواجا منقطع النظير، عبر الشاشات السينمائية (لشركة هوليود للأفلام)، التي كانت تصور الهنود في زي أشرار متوحشين، في مقابل رعاة البقر الطيبين، (حملة قيم الخير والسلام والحضارة)، الشيء الذي ظل يشكل عنصرا هاما في "تربية" الأجيال اللاحقة. وكذلك الأمر فيما يتعلق بمسألة العبيد السود، فمما يصدق على الهنود الحمر، يصدق عليهم أيضا. فبعد قرن أو يزيد على الإستقلال الأمريكي، حُرّمَت العبودية (شكلا)، لا لأسباب أخلاقية كما كان الحال مع الثورة الفرنسية، بل لأن العبودية لم تعد تستجب لمتطلبات المد الرأسمالي. هكذا إذن ظلت مسألة العبودية عالقة لأزيد من قرن، كيما يتمكن العبيد السود أخيرا، من الحصول على الحد الأدنى من الحقوق المدنية (كذلك الهنود الحمر الذين لم يحصلوا على درجة المواطنة إلا في مستهل القرن العشرين). هذا في حين أن التمييز العنصري، قد ظل من جهته يغذي بلا خجل، الثقافة المهيمنة. فلغاية سنة 1960 كانت ثمة في أماكن عدة من أمريكا، مسارح لنهش "السود" علنا، تحت عيون جمهور أبيض، كان يغتنم هذه الفرصة للتنزه بأماكن الإجرام هذه، والتقاط بالمناسبة بآلات تصويرهم صورا تذكارية. وما زال هذا النوع من الإجرام في حق السود متبعا، ولكن بطرق خفية ومحتشمة، تستهلكها هذه المرة المحاكم ب"عدالتها" لتبعث إلى الموت، بالآلاف من المحكومي عليهم – معظهم من السود، إن لم نقل كلهم – الذين نعرف بأن أغلبيتهم أبرياء، ومتهمين زورا. ومع كل هذا، فإن الرأي العام يبدو وكأنه غير موجود.
إن موجات المهاجرين المستمرة، قد لعبت هي الأخرى دورا هاما في تشديد وتقوية الأيديولوجية الأمريكية. إننا لا نعد هؤلاء المهاجرين، مسؤولين عن البؤس والقهر اللذين كانا من وراء هجرتهم. بل هم بالعكس كانوا ضحاياه. ولكن الظروف - ونعني هجرتهم – قد قادتهم إلى التخلي عن الصراع الجماعي أو الطبقي الذي كان بإمكانه أن يغير من حالتهم، وانخرطوا باستلام في سلك "أيديولوجية النجاح" الفردي، في البلد المستقبل لهم. ويفسر هذا الإنخراط بالتشجيع الذي يلاقيه من قبل المنظومة الأمريكية، التي يخدم مصالحها بامتياز. هذه المنظومة التي من مقوماتها أنها تأخر من الوعي بالإنتماء الطبقي لهؤلاء المهاجرين. وهذا الوعي بمجرد ما يبدأ بالنضج، حتى يلاقي نفسه من جديد، وجها لوجه مع موجات جديدة من المهاجرين الجدد، الذين عن غير قصد يجهضون هذا التبلور السياسي. وبشكل متوازي، فإن "الهجرة" تشجع من هذا الإنتماء "الطائفي" الخاص بالمجتمع الأمريكي. لأن "النجاح الفردي" لا يمنع من الإنخراط في الطائفة الأصلية التي ينتمي إليها المهاجر، ك( الإرلاندييين والإيطاليين ...إلخ)، التي بدونها قد يشعر المهاجر الجديد بعزلة قاتلة. وهنا أيضا، نلاحظ بأن تقوية حجم هذه الهوية - التي يستعيد كسبها المجتمع الأمريكي بمدح كبير – تفتعل على حساب وعي المهاجر بانتمائه الطبقي وتشكيلته المدنية.
بينما كان الشعب في باريس يتهيأ "للإنقضاض على السماء" ( أشير هنا إلى كومونة باريس 1871)، كانت في الولايات المتحدة، حرب العصابات المنحدرة من مختلف الأجيال المتعاقبة للطوائف الفقيرة (إرلانديين، إيطاليين ...إلخ) تتقاتل فيما بينها، مُتلاعَبُ بها باستخفاف مطلق من قبل الطبقات المسيطرة.
إن كل الإختلاف الذي يفصل أيديولوجية "الولايات الأمريكية المتحدة" عن مثيلتها "البريطانية" أو "الكانادية" على سبيل المثال، يجد أصله هنا.
إن أوربا البروتستانتية - بريطانيا، ألمانيا، هولاندا والدول السكاندنافية – كانت في بداية الأمر، تتقاسم فيما بينها بعض الشظايا لأيديولوجية، شبيهة نوعا ما بتلك التي نعاينها في الولايات المتحدة، كانت تسيرها فكرة "العودة إلى الإنجيل"، ولكن بأشكال أخف وأقل حدة، من تلك التي كان تروجها الطوائف "الدينية" المتعصبة والمتطرفة، تلك التي حلت ب" بريطانيا الجديدة". وبخلاف هذه الطوائف الشاذة، فإن الطبقة العاملة في البلدان االأوربية المذكورة أعلاه، قد تمكنت إلى الإرتفاع إلى مستوى عال من الوعي الطبقي، الشيء الذي لم يحصل في "بريطانيا الجديدة" ونعني "أمريكا"، بسبب الهجرات المتعاقبة التي أجهضتها. إن بروز وتطور الأحزاب العمالية، قد كان العامل الفعال في إحداث الفارق الهام بين ما حدث وتطور هنا في أوربا وهنالك في أمريكا. ففي أوربا على سبيل المثال، قد سمح تطور هذه الأحزاب العمالية بمعادلة ما بين الأيديولوجية الليبرالية ومنظومة القيم الإجتماعية، ك(المساواة) من بينها على سبيل المثال. أما في أمريكا، فإن هذه القيم تظل غريبة عن هذه المنظومة، إن لم نقل وبصراحة بأنها معادية لها. إن هذه المعادلات، لها بطبيعة الحال، تاريخها الخاص بها، مختلفة من بلد لآخر ومن لحظة تاريخية لأخرى. ولكنها في الواقع، قد احتفظت بالإستقلال الذاتي لما هو سياسي في مقابل الإقتصادي المهيمن.
وإذا كانت "كانادا" في هذا السياق، كبلد حديث العهد بحركة الهجرة لا تتقاسم (أو ليس بعد) مع "أمريكا" منظومتها الأيديولوجية، فلأنها لم تعرف تلك الموجات المتعاقبة من المهاجرين لدرجة كافية بكبت الوعي الطبقي. ولربما أيضا أن "المواطنين المخلصين" الذين لم يرغبوا بالإنفصال عن الوطن الأم لكونهم لا يتقاسمون ذاك الإنحراف الطائفي الذي عرفته "بريطانيا الجديدة".
ففي الولايات المتحدة مثلا، لا يوجد حزب عمالي، ولم يتواجد بها قط، والنقابات العمالية بالرغم من نفوذها، تفضل مع ذلك "لا سياسية". إنها وبكل ما تحمل الكلمة من معنى، غير فاعلة سياسيا، بحيث أنها لا تمتلك أية مرجعية حزبية طبيعية ترتكز عليها، ولا هي قادرة على الحلول محل الحزب الغائب، من أجل إنشاء أيديولوجية اشتراكية تزكي حركتها. ولأنها بكل بساطة، تتقاسم مع باقي المجتمع الأيديولوجية الليبرالية التي تسيطر على مجمل الساحة بلا منافس. وتظل هذه النقابات في هذا المناخ السائد، تتعارك على أراضي محدودة، بمطالب لا تتهم الليبرالية في شيء. وباختصار إنها " حداثية أمامية" كما كانت في كل الأوقات.
إن الأيديولوجيات الطائفية بما فيها الطائفة "السوداء"، ليس في استطاعتها، أو قدرتها أن تحل محل أيديولوجية اشتراكية للطبقة العاملة. لأن "الطائفية" بالتحديد، تتحرك داخل إطار التمييز العنصري العام والشامل، الذي تحاربه على أرضيتها الخاصة، ولا أقل من هذا ولا أكثر.
والمعادلة الخاصة بهذه التشكيلة التاريخية للمجتمع الأمريكي - أيديولوجية دينية "إنجيلية" مُهَيْمِنَة، وحزب عمالي غائب – قد انتجت في نهاية المطاف وضعية اجتماعية لا مثيل لها من قبل، ونعني حزبا وحيدا ومتفردا، ألا وهو الحزب المالي. إن هذا الحزب الوحيد، (بوجهيه الديموقراطي والجمهوري) بجزأيه اللذين يؤلفانه يتقاسمان معا، الليبرالية الأصولية نفسها. فكل منهما، أي هذا وذاك يتوجه بصفة خاصة إلى الأقلية المُنْتَخِبَة التي تشكل(40 في المائة)، هذه التي تساهم في هذه الحياة الديموقراطية المبتورة والقاصرة التي تمنح لها.

إن الديموقراطية الأمريكية تُكَوّن ما يمكن أن نسميه اليوم بالنموذج المتقدم ل"الديموقراطية المنخفضة الحدّة". وترتكز محركات وظائفها، على التفرقة المطلقة، بين تسيير الحياة السياسية المبنية على تطبيق الديموقراطية الإنتخابية، وتلك التي تتعلق بالحياة الإقتصادية المُسَيَّرَة من قبل قِوى تكديس "الرأسمال". وهذه التفرقة ليست محل تساؤل راديكالي، وإنما تنتمي لما يمكن أن نسميه بالوفاق الجماعي. وهي بهذه المناسبة، تعدم كل المفعول الحيوي الموجود بالقوة، للديموقراطية السياسية. بل إنها تخصي المؤسسات التمثيلية (البرلمانية وغيرها) التي حُوّلَت إلى مؤسسات عقيمة، عديمة القوى أمام "السوق" التي تفرض عليها منطق قوتها. أن تصوت لصالح الحزب الديموقراطي، أو لصالح الحزب الجمهوري، فهذا التصويت يظل عديم القيمة، لأن مستقبل الناخب لا يتوقف على الإختيار الإنتخابي وإنما على اتفاق مزاج السوق.
وأوربا في هذا المضمار، ليست في حمى عن إنحراف جارف، قد يسوقها إلى ظاهرة الفقر والتفقير من الطبيعة نفسها التي ذكرناها أعلاه. فهي الآن، بانضمام أحزابها اليسارية إلى التيار الليبرالي وأزمة عالم الشغل، قد انساقت منخرطة لا محالة إلى هذا التيار الجارف. ولكن والحالة هذه، ما زال بإمكانها أيضا، أن تسل نفسها من هذا الإنحراف.
وبهذه المحصلة، فإن الدولة الأمريكية تفضل من ناحيتها، في خدمة مطلقة للإقتصاد (بمعنى "الرأسمال"، خادمها المطلق والوحيد، بدون أن تشغل بالها بأي هم اجتماعي آخر). وبإمكان هذه الدولة أن تكون كذلك، لأن التشكيلة التاريخية للمجتمع الأمريكي، قد سدّت - في وجه الطبقات الشعبية – كل نضج قد يؤدي بوعي سياسي للطبقة المُسْتَغلّة. وبشكل مضاد، فإن الدولة في أوربا قد كانت ( وقد تصبحه من جديد) نقطة تحول إجباري للإصطدام بين المصالح الإجتماعية. وانطلاقا من هنا، تفضيل صك تراض تاريخي يعطي مدلولا حقيقيا للممارسة الديموقراطية. وإذا كانت الدولة غير مجبورة على ملئ هذه الوظيفة، تحت ضغط الصراع الطبقي، والسياسي الذي يظل محتفظا باستقلاله الذاتي، أمام هذا المنطق الحصري لتكديس رأس المال، فإن الديموقراطية ستصبح حينئذ، مجرد ممارسة روتينية عديمة الجدوى والفائدة، الشيء الذي نلاحظه في الولايات المتحدة.
في هذا الإطار بالذات، يستلزم قراءة وظيفة مؤسسات هذه الديموقراطية " الفضولية ". هذه التي تعد نفسها من " أقدم الديموقراطيات" ومن "أحدثها تقدما". إن الولايات المتحدة قد ابتكرت النظام "الرّآسي ". ومن الممكن أن هذا الإبتكار، في تلك الحقبة، قد كان معطى طبيعيا. ونقصد، فكرة تسييد "عاهل" ولو كان "مُنْتَخَبًا"، تبدو ضرورية لا غنى عنها. نستثني في هذه الحالة، الثورة الفرنسية التي استطاعت أن تتجاوز هذه الضرورة "العاهلية" بلا قلق، في المرحلة الممتدة من سنة 1793 إلى سنة 1798 . ومع كل هذا فإن النظام الرّآسي قد تبين بأنه نظاما مأسويا بجره للديموقراطية نحو التطرف، وكذلك قد تبين اليوم أكثر تطرفا من أي يوم مضى.
إن النظام الرّآسي، يساهم في نقل الجدل السياسي من مكانه، وبتضعيفه أيضا، وذلك بوضع محل اختيار الافكار – البرامج – اختيار الأفراد أو الأفكار الفردية، حتى ولو كانت بدعوى تبني هذه الأفكار أو البرامج. ضف على هذا وضع هذا الإختيار القطبي بين فردين ينازع كل منهما صاحبه الزعامة لا يزيد هذا الجدل إلا تعقيدا. خصوصا وأن كلاهما يبحث لنفسه عن استقطاب الإجماع الأكثر اتساعا، والمقصود ( استهداف وسط الفئة الناخبة، والحائرة في اتخاذ موقفها، أي الفئة التقليدية عموما وغير المُسَيّسَة)، ولو كان هذا الإستقطاب من مفاده أن يجر هذه الأخيرة نحو التطرف. أي منح مكافأة للتيار الرجعي المحافظ.
إن هذا النظام الرآسي - المحافظ بطبعه – قد صُدّر من الولايات المتحدة إلى كل دول أمريكا اللاتينية بلا مشقة. ويرجع السبب، في أن دول هذه القارة لم تعرف – منذ مستهل القرن التاسع عشر – سوى ثورات سياسية محدودة من نفس الطبيعة، والتي كان هذا النظام في هذا السياق يلائمها بامتياز. وفي هذا السياق نفسه، صدر هذا النظام لكل من إفريقيا وقسما من آسيا لأسباب مشابهة، ترتكز على طابع محدود لحركات التحرير الوطنية للأزمنة الحديثة.
وهذا النظام، هو الآن بصدد غزو أوربا، هذه التي لم يترك لدى ديموقراطيّيها سوى ذكرى مرة ومكروهة. ذكرى تلتصق بالشعوبية ال"بونابارتية" الديماغوجية. وفرنسا للأسف الشديد قد مهدت الطريق لهذه الحركة بابتكارها للجمهورية "الڭولية" نسبة للرئيس "شارل دوڭول". التي لم تخطو بالديموقراطية نحو الأمام بل نحو الوراء، حيث يبدو أن المجتمع الفرنسي قد وجد نفسه مقيدا. والحجج المقدمة بخصوص" عدم استقرار الحكومات" تقدم بذريعة أن الأنظمة البرلمانية في هذه الحالة ليست سوى فرص ينتهزها من يقدر عليها.
إن النظام الرئاسي، يرجح بطبيعة الحال، بلورة تحالف مصالح متعددة - تحالف مثالي لا يتعدى عدده تحالفين خلف المتنافسين "للرئاسة" على حساب التشكيلات السياسية الأصيلة الأكثر أهمية بما فيها (الأحزاب الإشتراكية) الحاملة بحق لمشروعات إجتماعية بديلة. وهنا أيضا، يعد النموذج الأمريكي مثلا بامتياز. إذ ليس هنا لا من حزب ديموقراطي ولا جمهوري. ومثلما قال "جوليوس نييير" متهكما، إن المسألة تتعلق "بحزبين وحيدين". تحديد جميل لهذه الديموقراطية المنخفضة القوى. وكذلك تفهم من قبل الجمهور الأمريكي الذي يمتنع عن التصويت أو لا يمنحه كبير أهمية، لأنه يعرف مسبقا بان هذا الواجب الديمقراطي لا ولن يغير من الواقع في شيء.
إن أشكال الديمقراطية الأمريكية، بعيدة كل البعد، في أن تكون أدوات للتغيير الإجتماعي المحتمل والمتوخى، فإنها تمثل بالعكس، الأشكال الممتازة والراقية للقوى الرّجعية المُحافِظَة. ونرى في هذه الظروف بأن الأبعاد الأخرى للديموقراطية الأمريكية، تلك التي نصفها بكونها إجابية، تتحول إلى العكس.
إن "اللامركزية" على سبيل المثال، بإشراكها مع تعددية الهيآت المودعة إلى سلطات مُنْتَخَبَة مَحَلِّية، تصبح منحة لتشديد سلطات الأعيان المحليين، أي بما معناه لروح التضامن "الطائفي". ونلاحظ في فرنسا أيضا، بأن سلطات الأقاليم الجديدة قد تغيرت وبدت أكثر "يمينية" من تلك التي تجري على المستوى الوطني. وكل هذا في نظري، ليس من قبيل الصدفة.
إن غياب البيروقراطية الأمريكية بشكل مستمر، يعد في نظر الليبراليين الأمريكيين مؤهلا إيجابيا، في مقابل انغراس هذه التشكيلة كموروث بيروقراطي أوربي. وهكذا يصبح هذا المؤهل الإيجابي، الوسيلة التي من خلالها، تستأمن السلطة السياسية المحافظة على برامجها، إلى زبناء عابرين، يفتقرون إلى أدنى درجة من المسؤولية. والسبب في هذا يرجع إلى انتقائهم من أوساط رجال الأعمال والمصالح ( معًا كقضاة وأحزاب). هل بإمكاننا فعلا اعتبار هذا نائلة وميزة؟ ومهما قلنا بخصوص "السّلمية" في فرنسا، قابلين كل صور النقد الموجهة إليها، فإن تواجد بيروقراطية منتخبة بطرق ديمقراطية تظل أفضل بكثير من غيرها في انتظار ديمقراطية مستقبلية قد تكون خالصة من كل هذا الموروث الديمقراطي.
إن النقد "البيروقراطي" الطائش والعفوي، هذا الذي أصبح رائجا كمعطى من معطيات الحاضر، هو من يوحي مباشرة وبانتظام كل الحملات الإنتخابية الموجهة ضد الفكرة نفسها للخدمات العامة، التي يراد استبدالها بالخدمات "التجارية الخاصة". إن نظرة موضوعية على الواقع الفعلي، تبين لنا بأن الخدمات العامة ( المزعوم "بيروقراطيتها")، ليست أكثر إفادة مما يُدّعى. ومثلما تمثلها بامتياز، هذه المقارنة التي نسوقها بين الولايات المتحدة وأوربا، فيما يتعلق بميدان الصحة. إن مسألة الصحة في الولايات المتحدة (التي تنتمي إلى القطاع الخاص بشكل عام) تكلف الأمة 14 عشر في المائة من الإنتاج الوطني الخام في مقابل 7 في المائة في أوربا، التي يفضل قطاع الصحة فيها مؤمنا وبشكل عريض من قبل الخدمات العامة. وفيما يتعلق بالنتائج ( جودة خدمات الصحة )، فإن المقارنة تقر بالأفضلية لأوربا في هذا المجال. ولكن، وهذا من البديهيات، حيث أن عوائد الربح تذهب من جهة أخرى إلى إلإحتكار الذي تمارسه مؤسسات التأمين والصيدليات التي تفضل أكثر انتشارا واتساعا مقارنة بتلك التي نصادفها في أوربا. بل وعلاوة عن هذا، إن الخدمات العامة في إطار ديمقراطي، تفضل أكثر وضوحا من حيث شفافيتها. الشيء الذي لا ينطبق على قطاع الخدمات التجارية المحمية ب" سر الأعمال الخاصة "، أي بما معناه أقل شفافية وأكثر تعتيما وضبابية. فاستبدال، والحالة هذه، الخدمات العامة ونعني المصبوغة ب (طابع االمشاركة الديمقراطية) بالخدمات الخاصة ونعني (المطبوعة بالمشاركة التجارية) معناه، أن تجهد نفسك في تقوية إجماع الرأي القابل، باعتبار أن كل من السياسة والإقتصاد يُكَوّن كل منهما، ميدانا منعزلا عن الآخر. بل في واقع الأمر إن هذا الإجماع يعد بالتحديد، مُدمّرا لكل القوى الضمنية العاملة على "ترسيخ" الديمقراطية.
إن القضاء "المستقل" ومبدأ القُضاة المُنتخبين قد بَيّنا، كيف باستطاعة هؤلاء الأخيرين، أن يرسّخوا بدورهم ويجذروا الأحكام المسبقة، المحافظة طبعا، بل الرجعية، والوقوف بالمناسبة في وجه كل محاولة لتدعيم وترسيخ الديمقراطية. وهذا النموذج هو الآن بصدد التصدير، وقد أصبح يُقَلّدُ في أماكن أخرى، كفرنسا مثلا بنتائج وخيمة لا رغبة لي في تبيينها والتعليق عليها الآن.
إن ملف القضاء الأمريكي، هو من هذه الناحية، هنا لبين لنا المزاج الإعتباطي للديمقراطية التي يدعي الدفاع عنها. قضاءً باهظ التكاليف بشكل متطرف، قضاء شبيه بقائمة المطاعم، مترجما حسب مزاجه "القانون الجمعي" الإنجليزي المنبثق عنه، ودائما في خدمة المبادئ المطلقة لليبرالية (أي للأغنياء). قضاء عنصري بشكل منتظم، بحيث أننا نقف على (50 في المائة من السود الأبرياء قد حوكموا ظلما وبهتانا، بدون أن يسبب هذا الخلل قلقا أخلاقيا لأي ضمير !). قضاء في منتهى العنف، بحيث أن الولايات المتحدة تعتبر الدولة الأولى في العالم من حيث ضخامة عدد جمهور المساجين.
إن قضية "دريفوس" قد عبّأت - وقسمت- كل المجتمع والعالم السياسي الفرنسي. أما في الولايات المتحدة، فإن قضية اغتيال كل من "ساكو وفنزيتي" وآخرين، فإنها لم تحرك الرأي العام قط. ولن تكون في المستقبل أية مراجعة للحكم بشأن هذه القضايا. وليس لأي أحد الحق - ولو حتى فكرة- التشكيك في لا عدالة قضاة "الدولة الأحرار". قضاة أحرار ولكن موضوعين تحت رعاية قوة انتخابية مُتلاعب بها. وهؤلاء القضاة، بالإضافة لما بيناه أعلاه، ليسوا مقيدين بأحكام كتابية محددة، كما هو الشأن في أوربا وبقية العالم. بل إن القاضي هنا "يبتكر القانون" اعتمادا على مبدأ "القانون الجمعي"، الذي يظل مظهرا من مظاهر القانون البدائي، هذا الذي تجاوزته القوانين الحالية. في مثل هذه الظروف إن قرارات وأحكام المحاكم تظل في معظم الأحيان، معروفة النتائج بشكل مسبق. وهكذا فيما يتعلق بقضية التزوير الإنتخابي ل "بوش الإبن" في سباقه للإنتخابات الرئاسية، فإننا كنا نعرف سلفا بأن المحكمة العليا سوف تمرر القضية بسلام، مثبتة عدم قضية التزوير، لأن القضاة بكل بساطة كانوا بأغلبيتهم من الحزب الجمهوري، وحكمهم كان بالدرجة الأولى يعتمد على مسألة ضمير... خصوصا في غياب نص قانوني يلزمهم بإلغاء صناديق الأصوات المزورة ... في خضم الحملة الإنتخابية، إذن إن تطبيقات قانونية كهذه والموصوفة ب"المحابية" لا تتواجد إلا في الأنظمة التي لا تدعي الديمقراطية في شيء ولا تنتسب إليها في شيء.
ما هو وجه الإغراء في هذا النموذج؟
إن هذا الخلط المنتظم لأفق ديني طاغ، واستغلاله من قبل خطاب أصولي، وغياب لكل وعي سياسي للطبقات المحكومة، تمنح لمنظومة السلطة الحاكمة في الولايات المتحدة مساحة تأثير لا مثيل لها. وهذه الأخيرة تقوم بدورها بإقصاء المُعطى الجوهري للتطبيقات الديمقراطية، وتقميصها وتحويلها إلى مجرد حالة طقوسية قانونية لا قيمة لها (سياسة-استعراض، وتدشين للحملات الإنتخابية باستعراض لفتيات طبّالة، بأزياء مغرية إلخ ...).
وعلينا أن لا ننخدع من كل هذا. لأنها ليست الأيديولوجية الأصولية ذات الدوافع الدينية، هي من يتواجد في مراكز القيادة، ومن يفرض منطقه على القادة الحقيقيين للسلطة، أي الرأسمال وخدمته في الدولة. إن الرأسمال، هو وحده من يحمل كل القرارات التي تلائمه، ثم بعدئذ تعبئة الأيديولوجية الأمريكية المعنية من أجل توظيف خدماتها. إن الوسائل المستخدمة ك: الأخبار المنحولة بشكل منتظم ومتواصل لا مثيل له، كلها تستخدم بشكل دقيق ورائع، منحية هكذا وبالمناسبة، لروح العقول الناقدة، وإخضاعها باستمرار إلى ابتزاز بذيء، تحت التهديد. فالسلطة تتمكن إذن، بأن تتلاعب وبدون مشقة ب"رأي" مُراعى في غباوته.
إن النخبة المسيرة للولايات المتحدة، قد طوّرت في مثل هذه الظروف، استخفافا وبلاهة مطلقة. بلاهة واستخفافا ملفوفا بنفاق قد بات واضحا لكل المراقبين الأجانب، باستثناء الأمريكيين أنفسهم، الذين لا يرون قط ! أن استخدام العنف، في أشكاله المتطرفة قد أصبح معمولا به، في كل مرة تستدعيه الضرورة. فكل المناضلين الأمريكيين المتشددين، قد باتوا يعرفون خيارهم الوحيد والأخير: "إما أن تبيع نفسك وإما أن تُقتل اغتيالا .. !".
إن الأيديولوجية الأمريكية، كباقي الأيديولوجيات قد أصبحت بدورها تتلقى ضربات " بلى وتلف الزمن". ففي الدورات الزمنية "الهادئة" من تاريخها، تلك الموسومة بنمو اقتصادي مصحوبا بمردودات اجتماعية معتبرة نافعة وكافية، يصبح الضغط، الذي على النخبة الحاكمة أن تمارسه على شعبها، واهيا وضعيفا. فمن وقت لآخر إذن، حسب احتياجات الساعة، تنشط هذه النخبة الحاكمة في "تضخيم" الأيديولوجية الأمريكية بالوسائل نفسها، أي: ثمة عدو خارجي "كالعادة"، قد أصبح يهدد أمنها. ففي مقابل هذه الأمة الخيرة بالفطرة ثمة إمبراطورية الشّرّ التي تتمثل في محور الشّرّ، مما يستدعي تعبئة كل الإمكانيات الممكنة لمحقه وإبادته. فبالأمس كان هذا العدو هو الشيوعية، الذي عبر حملة "الماكارتيزم"، هذه التي نسيها اليوم كل المساندين لأمريكا، قد سمح لأمريكا بتدشين الحرب الباردة، واستخدام أوربا كحليف من الدرجة الثانية. أما اليوم، بعد اختفاء الشيوعية وسقوط سور برلين، قد أصبح "الإرهاب"، بعد أحداث 11 سبتمبر، التي تشير ضمنا إلى حريق "الرايشتاخ" تحت النازية، هو المبرر البديهي بطبيعة الحال لتمرير هدف النخبة الحاكمة، الذي يتمثل علنا، في ضمان التحكم العسكري المطلق لكوكبنا الأرضي.
إن الهدف المعلن عنه لهذه الإستراتيجية الهَيْمَنِيّة للولايات المتحدة، وهو أنها باتت لا تتحمل وجود أي قوة قادرة على الوقوف في وجه أوامر واشنطون (أنظر بهذا الخصوص كتاب عمانويل طود "ما بعد الإمبرالية"). ولهذا السبب، صارت تسعى إلى تفكيك كل الدول التي تزعم فيها أنها "دولا كبيرة"، في مقابل إنشاء دويلات قزمية، قادرة على تسييرها حسب هواها، وزرع محطاتها العسكرية الأمريكية فيها، بادعاء حمايتها من الأخطار الخارجية التي تهددها. في مقابل كل هذا، بقيت دولة واحدة لها الحق في أن تكون "الكبرى"، وهي الولايات المتحدة نفسها، وهذا الكلام نسوقه حسب تصريح الرؤساء الثلاث، الذين مروا مؤخرا، ونقصد كل من : بوش الأب، كلينتون، وبوش الإبن.
ليس من الصعب معرفة أهداف ووسائل مشاريع واشنطون. إنها موضوع عروض كبيرة، تكمن فضيلتها الأساسية في الحصانة والخطاب الصريح، في حين أن التصديق القانوني للأهداف، يمرر عبر خطاب أخلاقي خادع، يعد من خاصيات التقليد الأمريكي. إن الإستراتيجية الأمريكية الإجمالية، تهدف إلى تحقيق خمسة أهداف:
- الهدف الأول: تحييد واستخدام الشركاء الآخرين (اليابان وأوربا)، وتقليل من شأن قدرات هذه الدول على التأثير خارج الحِجر الأمريكي.
- الهدف الثاني: التحكم العسكري في قيادة "الحلف الأطلسي"، و"أمريكا اللاتينية المأمركة" وباقي الأطراف القديمة للعالم السوفياتي.
- الهدف الثالث: السيطرة والتحكم في الشرق الأوسط وأسيا الوسطى، ومواردهما البترولية.
- الهدف الرابع: تفكيك الصين، وضمان تبعية الدول الأخرى ك"الهند والبرازيل"، ومنع إنشاء كثل إقليمية، التي بإمكانها أن تدخل في محادثات عن هذه الإجماليات أي المتعلقة بمجل الكرة الأرضية.
- الهدف الخامس: تهميش مناطق الجنوب التي لا تمثل أي مصلحة أو فائدة استراتيجية.
إن هذا "التَّهَيْمُن" أو هذه الهيمنة للولايات المتحدة، ترتكز إذن في نهاية المطاف، على الحجم الضخم والهائل لنفوذها العسكري، أكثر مما ترتكز على إيجابيات منظومتها الإقتصادية. وسأكتفي إذن بتلخيص المعنى الدقيق الذي طورته بخصوص هذا التساؤل وذلك بوضع العلامة الرئيسية، على هذه الإيجابيات السياسية الواقعية التي تستفيد منها الولايات المتحدة: إنها دولة، في حين أن أوربا ليست بذلك. فبإمكانها إذن، أن تضع نفسها كقائد حقيقي لكل من أوربا واليابان وذلك بجعل قوتها العسكرية والحلف العسكري الأطلسي، الذي تتزعمه "النقطة البارزة" لفرض نظامها الإمبريالي الجديد على من يحيدون عن الطريق، ونعني طريقها.
إن النفوذ العسكري للولايات المتحدة، قد شيد بانتظام وبشكل متواصل، منذ 1945، بتغطية للكوب بجملته، هذا الذي قسم إلى أقاليم قد تم دمجها تحت رعاية المنظومة المسماة ب" القيادة العسكرية للولايات المتحدة". ولغاية سنة 1990 قد قبلت هذه الهيمنة الأمريكية مكرهة، على التعايش السلمي الثنائي مع القوة العسكرية، التي كانت تفرضها عليها الإتحاد السوفياتي. الأمر الذي لم يعد كذلك اليوم. ولا يسعنا هنا إلا أن نلاحظ هذا التضاد بين هذه النزعة الكوكبية للإستراتيجية العسكرية الأمريكية منذ 1945 والمتبوعة بإنشاء الحلف الأطلسي، واستراتيجية الإتحاد السوفياتي الذي لم تكن له قط، هذه الإستراتيجية الهجومية لاحتلال العالم باسم "الشيوعية"، الشيء الذي موهت به كذبا "البروباݣندا" الأوربية. (أنظر بهذا الخصوص المجموعة المسلحة "ستاي بهاند" و "كلافيو" السرية). فهذه المرحلة الزمنية قد ظلت مطبوعة برجوع الديمقراطية إلى الوراء وليس بالتوجه نحو الأمام.
وعلى المستوى العام والشامل، فمنذ 1980، في حين بدت العلامات الأولى لانهيار المنظومة السوفييتية، قد بدت تتجلى فكرة الهيمنة، لدى مجمل الطبقات الحاكمة بالولايات المتحدة. ومحمولين بدوار نفوذهم العسكري، للأسف بدون منازع، اختارت الولايات المتحدة اتخاذ قرار زعامة العالم، معتمدة بالدرجة الأولى على نفوذها العسكري. وفي هذا المناخ، ظهرت استراتيجية المصاحبة السياسية لهذه الخطوة العسكرية، قد تبدت في ما اختلقته تحت ذرائع مزيفة، لمشروع يدعي ويزعم، ضرورة محاربة "الإرهاب" و"مهربي المخدرات" ومحاربة الدول التي هي بصدد تصنيع "أسلحة الدمار الشامل".
إن "الحرب الوقائية" التي صيغ معناها ك"قانون" من قبل واشنطون، قد ألغت هكذا ودفعة واحدة، القانون الدولي بأجمعه. إن الأمم المتحدة بميثاقها، تمنع أي لجوء إلى القوة، إلا في حالة الدفاع عن النفس. بل تخضع مبادرتها العسكرية المحتملة الخاصة بها إلى شروط عصية تلتزم فيها بمراعاة الرد العسكري، الذي يجب أن يظل خاضعا لمقاييس موزونة ومؤقتة. إن كل الخبراء القانونيين يعلمون جيدا، بأن كل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ التسعينات، هي حروب لا شرعية لها البتة، وبأن أولائك من اتخذوا هذه المبادرة يعتبرون كمجرمي حرب. إن الأمم المتحدة اليوم، تُعامَل باحتقار وتجاوز من قبل الولايات المتحدة، مثلما كانت تعامل "عصبة الأمم" التي سبقتها، من قبل الدول الفاشية أنظر بهذا الصدد، والإضافة من عندنا، ما ورد كدعم لهذا الطرح في كتاب ناعوم شومسكي الأخير" الدول الفاشلة " الصادر عن دار النشر، أرتيم فايار، باريس، 2007.
إن إلغاء وإبطال حق الشعوب، الجاري به العمل اليوم، يفرض على استبدال لدى هذه الأخيرة، حق المساواة ب: التمييز القائم على " الشعب المختار" ( شعب الولايات المتحدة وعرضيا شعب إسرائيل) الذي له الحق في توسعه الإستعماري، بموجب متطلبات " فضائه الحيوي" الذي يعتبره ضروريا له على حساب الآخرين، ونقصد هؤلاء المهمشين الذين لا يتحمل وجودهم إلا على مدى استجابتهم لعدم "تهديدهم" لمشاريع من يعتبروا أنفسهم مدعوين ليكونوا سادة العالم. فإننا والحالة هذه، قد أصبحنا كلنا في نظر مؤسسة واشنطن، مجرد " هنود حمر"، أي بمعنى شعوب لا حق لها في الوجود، إلا في حدود عدم تشويشها على الإنتشار للرأسمال الأمريكي العالمي، (والقصد العولمة الإمبريالية، بمستوياتها العسكرية والمالية والتبشيرية) الإضافة التوضيحية من عندنا.
ما هي إذن هذه المصالح "الوطنية" التي ما تفتأ الهيأة المسيرة للولايات المتحدة، تستحضرها وتنادي بها كما يحل لها؟ في الحقيقة إن هذه النخبة المهيمنة لا تتعرف على نفسها إلا في هدف واحد " كسب المال". إن دولة أمريكا الشمالية، قد وظفت نفسها علانية وبصفة أولية في خدمة تلبية رغبات ومتطلبات الجزء المهيمن من الرأسمال المكون من " العابر للدول والقارات" للولايات المتحدة.
إن هذا المشروع، هو حقيقة مشروع إمبريالي قاس بكل ما تحمل كلمة القساوة من معنى، لكن ليس "إمبراطوري" بالمعنى الذي يسوقه المحلل "نيڭري" فيما يتعلق بهذا المصطلح. لأن الأمر في الواقع لا يتعلق بمسألة إدارة مجموع مجتمعات كوكبنا من أجل إدماجها في منظومة رأسمالية منسجمة ولكن فقط، من أجل سلب ثرواتها وتخريب مواردها. إن اختزال الفكر الإجتماعي في مسلمات أساسية للإقتصاد السوقي الفظ، والنية الأحادية البعد المحمولة على التكديس الأقصى للمدخول المالي في أقصر مدة زمنية للرأسمال المهيمن، كل هذا مدعوما ومقويا بالخدمات والوسائل العسكرية التي صرفت في خدمته تلك التي نعرفها، فكل هذا مسؤول عن هذا الإنحراف البربري الذي تحمله الرأسمالية في طياتها. إن هذا المشروع والحالة هذه، قد تخلص من كل منظومة ذات قيم إنسانية مستبدلا إياها بضرورة الخضوع القسري لمتطلبات السوق وقوانينها المزعومة.
إن هذا المشروع، لا علاقة له بتاتا بامتداد الديمقراطية ( ولو في صيغتها الأمريكية) لبقية العالم أجمع، الشيء الذي تريد أن تقنعنا به وسائل الإعلام المسيطرة. إن الأمر لا يتعلق بديمقراطية العراق ولا بأي بلد آخر في المنطقة (الشيء الذي ترفضه إسرائيل بشكل مطلق)، ولكن الأمر يتعلق فقط بنهب ثرواتهم والبترول العراقي بالخصوص. وفيما يتعلق بهذا الشأن يسوق "شومسكي" من كتابه المذكور أعلاه، بأن حرب أمريكا على العراق، غزوها له واعتدائها عليه لم يكن له ما يبرره قانونيا، ولكن حين تورطت أمريكا في هذا العدوان السافر، أخرجت ورقة الديمقراطية كيما تبرر للرأي العالمي وتموهه بحسن نواياها. ويضيف معلقا وساخرا من هذا المبرر في آن، موضحا بأن الدستور الجديد الذي فرضته أمريكا على الحكومة العراقية التي صنعتها، يعد بحق جد متخلف إذا ما قيس بدستور العراق قبل الغزو الأمريكي (إضافة توضيحية من عندنا). إن الولايات المتحدة تحتل الكويت لأكثر من اثنا عشر سنة، فهل يا ترى قد ساهمت في أية ديمقراطية تذكر؟ المبادرة الوحيدة التي سعت إليها، تتلخص في تقليص حريات الرأي العام، وذلك بمنع أي انتقاد للولايات المتحدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.