إن هذه الترجمة المتخصصة التي نقدمها للقارئ الكريم، هدفها أن تكشف الغطاء عن عواقب الأزمة المالية الأخيرة التي هزت أركان العالم، والتي ما زالت تخفي في طياتها، إعصارات "تسونامية" قادمة لا محالة، في المستقبل القريب. إن الأستاذ والخبير الإقتصادي سمير أمين، الكاتب العربي الملتزم والمختص في قضايا العالم المالية وشؤونه السياسية، لما يقرب من نصف قرن، يقدم لنا في مؤلفه الأخير، الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان "الفيروس الأمريكي"، دراسة تحليلية دقيقة لللأخطبوط الأمريكي ونواياه الإمبريالية. وبما أن مجال الدراسة الواسع لا يسمح لنا بعرضه كاملا، فلقد التجأنا إلى حل وسط، أي ترجمة الفصل الهام المتعلق بمكونات المجتمع الأمريكي، والعوامل الطائفية، كما الفرق الدينية والمؤسسات المالية، كما الأحزاب السياسية التي توجه أطماع سيايته التوسعية الإمبريالية. وننبه القارئ الكريم، بأننا في هذه الترجمة، قد التجأنا بهذه المناسبة، إلى تعزيز وإغناء نص صاحبنا، بالتصرف فيه دونما مس بطرحه الجوهري، وذلك بإضافة توضيحات إضافية من عندنا، حين تضطرنا الضرورة لذلك، وبإضافة مصادر أخرى لم يذكرها المؤلف، ولكنها تصب بالمناسبة في نفس السياق، وتلقي الضوء أحيانا، وتعزز أحيانا أإخرى، الأطروحة التي قدمها لنا كاتبنا أحمد أمين. ونذكر بهذا الخصوص الكاتب الأمريكي والباحث اللسني الشهير "ناعوم شاومسكي" في مؤلفاته الأخيرة "الإنتهازية قبل الإنسان" و"السلطة والإرهاب" و"مصنع الرأي العام"و"احتلال وال ستريت". هذا، بالإضافة إلى كتاب الخبير الإقتصادي الفرنسي "بول جوريون" من كتابه الأخير "نحو أزمة اقتصادية أمريكية؟". هذا بالإضافة إلى مؤلفات هامة تتعلق بموضوعنا سنعرضها في خاتمة هذه الترجمة. ومما أثار انتباهنا، أن الكاتبين، ونعني: أحمد أمين و"ناعوم شاومسكي" كثيرا ما يلتقيان، ويتقاسمان الرأي، حول مسألة التدويل الأمريكي لمسألة الإرهاب، وآراء أخرى مشابهة، حول كل من النموذج الإمبريالي الياباني أوالأوربي، في مستهل القرن التاسع عشر. على كل حال، ليست هذه المقدمة المختصرة مجال عرض وتدقيق وتحليل، لكل القضايا الهامة، التي عرض لها المؤلف. الشيء الذي سنبسطه بتوضيح في عرض الترجمة. كلمة أخيرة، وهو أننا لو اقتصرنا باختصار، على فضح الهيمنة الأمريكية، لكان عرضنا شبيها بخطبة جمعة، قد يمضي كل من بعدها إلى غايته، وكأن الرسالة قد بلغت، وكأن شيئا لم يحدث ولن يحدث. بل إننا نرى من ناحيتنا بأن المسالة هي من الأهمية بمكان، بحيث أنه يتوقف عليها مصيرأممنا المتخلفة قاطبة، بل مصير البشرية جمعاء. لهذا قمنا بهذا المجهود بتواضع، من أجل خدمة، بالدرجة الأولى، القارئ العربي والمكتبة العربية. الفيروس الليبرالي أو الحرب الدائمة و"أَمْرَكَة" العالم الأيديولوجية الأمريكية: الليبرالية بلا قسمة من جهتنا، فيما يتعلق بالمجتمعين: الأوربي والأمريكي، لم نر من متسع للمكان هنا، كيما نفسح المجال لمعالجة الروابط المعقدة، بين الديانات والتفاسير التي قد نقدمها لها من جهة، وبين السيرورات المتعلقة بالحداثة، والديمقراطية، والعلمانية، من جهة أخرى، هذه التي قد سبق لي وعبرت عن رأيي بشأنها في مكان آخر. ولكني في هذه الآثناء، سأقوم بتلخيص محصلاتها الرئيسية، في هذه الفرضيات الأربعة اللاحقة: -1- إن الحداثة، والديمقراطية، كما العلمانية، ليست نتاج تطور أو "ثورة" لتفسيرات دينية، بل بالعكس، إن هذه الأخيرة، ونقصد الديانة وفضاء تفاسيرها، قد وجدت لها تعديلا ملائما وسعيدا لملاحقة ركب الأولى، ونقصد الحداثة ومكوناتها. وبخصوص هذا التعديل، فإنه لم يكن بامتياز، من حظ مصلحة البروتستانتية. لأنه قد عمل، ولكن بشكل مختلف، في العالم الكاثوليكي أيضا، وقد أصاب له هو الآخر، نوعا من حظ النجاح. على كل حال، إن هذا التعديل الديني، بشكل عام، قد ولد روحا دينية محررة من كل الطقوس العتيقة التي كانت تشوبها. إن حركة الإصلاح الديني بهذا المعنى، لم تكن "الشرط" الضروري للإزدهار الرأسمالي، بالرغم من سعة انتشار أطروحة الباحث الألماني "ماكس ويپپر" هذه التي لاقت لها صدى الإقبال، في كل الأوساط الأوربية المثقفة، خصوصا "البروتستانية" منها بأوربا البروتستانتية. بل إن حركة الإصلاح الديني هذه، لم تكن بهذا المستوى، حتى تدعى بتلك القطيعة الأيديجولية الرادكالية، مع الماضي الأوربي وأيديولجياته " الفيودالية-الإقطاعية"، بما فيها تأويلاتها المسيحية السابقة. بل لقد كانت بالعكس، الشكل البدائي الأكثر تشابكا وضبابية. بالفعل، لقد كان ثمة إصلاحا لفائدة "الطبقات المهيمنة" والذي انتهى في نهاية المطاف، باستحداث كنائس وطنية ( أنجليكانية، لوثرية)، تأثرت بقيادتها هذه الطبقات العليا، بالإضافة إلى البورجوازية الصاعدة، والملكية الوراثية، وكبار الملاكين للأراضي الفلاحية، مهمشين هكذا، كل من الطبقات الشعبية والمزارعين، وفقراء الريف، الذين راحوا ضحية هذه الخدعة الإصلاحية. إن هذا التوافق الرجعي – الذي زكاه "لوثر" ووافق على نعته كذلك، كل من "كارل ماركس وإنجيلز"- قد حمى بورجوازية هذه البلدان السابقة الذكر، مما حدث لفرنسا فيما بعد، ونقصد الثورة الراديكالية. علما بأن العلمانية التي انبثقت عن هذا النموذج الثوري، قد ظلت مع ذلك، وليومنا هذا، علمانية محتشمة. إن تراجع الأفكار الكاثوليكية الكونية، لدى مؤسسات الكنائس الوطنية، لم يملأ سوى وظيفة واحدة: تقعيد الملكيات الوراثية، وتقوية دورها كحكم بين قوى نمط الحكم القديم، وتلك التي تمثلها البورجوازية الصاعدة. وتعزيز هذه الأخيرة، ونقصد البورجوازية الصاعدة، بتقوية روحها الوطنية، وتأخير ما أمكن ذلك، أشكال الكونية الحديثة ، تلك التي ستقترحا "الأممية الإشتراكية" فيما بعد. ليس هذا فحسب، بل كانت هنالك حركات إصلاحية استحوذت بالمناسبة، على بعض الفئات الشعبية، التي كانت من بؤسها، ضحية للتحولات الإجتماعية الناتجة عن بروز الرأسمالية. إن هذه الحركات، التي أنشات من جديد، أشكال الصراع القديم - تلك المتعلقة بألفية القرون الوسطى - لم تكن متقدمة على عصرها، بل جد متأخرة عن متطلباته. لهذا كان يستلزم انتظار الثورة الفرنسية - بتعبآتها الشعبية العلمانية والديموقراطية الراديكالية - ثم الإشتراكية، حتى يصبح في مستطاع الطبقات المُسَيْطَر عليها، أن تتعلم التعبير بجدية، عن متطلباتها الإجتماعية، في هذه الظروف الحديثة. إن الطوائف البروتستانتية المتعلقة بموضوعنا، قد تغذت بأوهام من جنس الأصولية المتعصبة. ولقد أنشأت لها أرضية مناسبة، لإعادة إنتاج إلى ما لا نهاية، "نِحَلاً" ذات رؤى خرابية لنهاية العالم، الشيء الذي ما زلنا نراه يزهر في الولاياتالمتحدة. إن الثقافة السياسية للولايات المتحدة، ليست تلك التي اتخذت شكلها في فرنسا، انطلاقا من عصر الأنوار، ثم خصوصا بعدئذ، مع ثورة 1789، هذه التي طبعت بدرجة ما أو بأخرى تاريخ جزئ هام من القارة الأوربية. إن الفارق بين هذين الثقافتين واضح وبيّن، ولا يحتاج لأي دليل إضافي. وكثيرا ما ينفجر هذا الفارق بينهما في أوقات الأزمات بشدة وحدة عنفية، خصوصا فيما يتعلق بالشرعية الدولية وحقوقياتها. وحرب العراق في هذا السياق، قد تعد مثلا واضحا. إن الثقافة السياسية، هي نتاج لتاريخ مُتَصَوّر في مدته الطويلة، والتي تعتبر بطبيعة الحال، خاصة بكل بلد. وبهذا الخصوص، فإن تاريخ ثقافة الولاياتالمتحدة، يظل موسوما بخصوصيات، تتجلى فوارقها بوضوح، في مقابل تلك التي تطبع القارة االأوربية. ونذكر من بين هذه الخصوصيات مثلا: تشييد بريطانيا الجديدة (الولاياتالأمريكيةاالمتحدة اليوم)، من قبل الطوائف البروتستانتية المتطرفة، الإجرام العرقي في حق جنس الهنود، استعباد الأفارقة السود، واستخدام الطائفية كشكل من أشكال التجمع للهجرات الطائفية، في القرن التاسع عشر. إن الطوائف البروتستانتية التي اضطرت إلى الهجرة من بريطانيا، في القرن السابع عشر، قد طورت لديها بتطرفها، تفسيرا خاصا للديانة المسيحية، لا نجد له مثيلا، بهذه الشدة من التطرف، لا عند "الكاثوليك"، ولا عند "الأرثودوكس"، بل ولا حتى عند البروتستانتيين الأوربيين، بما فيهم الكثرة "الإنجيلية"، التي كانت مهيمنة على زمام الحكم في بريطانيا. فحركة الإصلاح الديني، كانت في عمومها، تعيد الإعتبار "للعهد القديم"، الذي كانت كل من الكاثوليكية والأرثدوكسية بتفسيراتها، قد همشته وفصلته عن اليهودية، باعتباره كمنفصل وليس كمتصل بها. (وأحيل بالمناسبة، القارئ الكريم، إلى مراجعة ما كتبته بهذا الخصوص عن كل من اليهودية، والمسيحية والإسلام). إن الإستخدام لصيغة " اليهو – مسيحي" الذي أصبح دارجا ومشهورا، من قبل البروتستانتيين الأمريكيين، يدل فيما يدل عليه، على هذا القلب الإنشائي، في علاقته بما يخص ديانات التوحيد. هذا القلب الذي انخرطت الكاثوليكية في مسلسله، لا عن قناعة، بل بما يمكن أن ندعوه ب"نهزة سياسية". ونستثني "الأورثدوكس" الذين لم ينساقوا من وراء هذه الإنتهازية. إن الإصلاح الديني، كما نعرف، قد فسرت الأدبيات السياية معجزته، بعلاقة ارتباطه الحميم بالنهضة الرأسمالية، علاقة سبب بمسبب. ولكن الفكر الإجتماعي المعاصر يفسره بشكل مختلف. ولعل "ماكس ويبر" كان أول من قدم أطروحة، قد أصبحت شهيرة ورائجة في العالم "الأنكلو- سكسوني" والبروتستانتي، تلك القائلة بأن حركة الإصلاح الديني، ونعني ظهور البروتستانتية، قد خولت للرأسمالية بالبروز. أطروحة جاءت بشكل مضاد - ولربما بشكل مقصود – لأطروحة "كارل ماركس" التي كانت تقرأ في حركة الإصلاح الديني، كحدث قد ترتب عن التحولات، التي أحدثتها تشكيلة الرأسمالية. وهذا ما يفسر منوعات البروتستانتية، التي من خلالها وعبرها، جاءت احتجاجات الطبقات الشعبية المتضررة بالرأسمالية الناشئة، واستراتيجيات الطبقات المهيمنة. من ناحية أخرى، إن شظايا الأيديولوجيات، ومنظومات القيم، التي كانت تعبر عن نفسها، على هذه الأرضية الدينية، قد بقيت محتفظة لنفسها، بكل علامات الأشكال البدائية في ردود فعلها، للتحدي الرأسمالي. لقد مضت النهضة الأوربية بعيدا في بعض مظاهرها، ونعني ( "ماكيافيل" الذي يمثل فيها، الشاهد الأكثر فصاحة). في حين أن هذه النهضة، كانت تدور على أرض كاثوليكية (إيطاليا). وإدارة لبعض المدن الإيطالية، وكأنها شركات اقتصادية حقيقية كانت تشرف عليها وتقودها نقابة المساهمين والمقاولين الماليين الأكثر ثراء وغِنى. وتعد ("فينيسيا – البندقية" ) النموذج المثال. وكانت علاقة هذه النقابة المالية، قد أنشأت لها علاقات متينة مع الأشكال الأولى للرأسمالية، أكثر واقعية من تلك التي ستعرفها المنظومة البروتستانتية مع الرأسمالية. وفيما بعد، إن عصر الأنوار الذي كان ينتشر في بلدان كاثوليكية (فرنسا)، كما في بلدان بروتستانتية أخرى (بريطانيا، هولاندا وألمانيا)، قد طبع هذه البلدان الأولى، أكثر من هذه الأخيرة، التي كانت ما تزال في الواقع، مرتبطة بالتقليد العلماني لعصر النهضة عوضا من حركة الإصلاح الديني. وأخيرا قدمت الثورة الفرنسية بطابع مزاجها الراديكالي، لمتنح للعلمانية قواها الحقيقية، مغادرة هكذا وبشكل مقصود أرضية التفاسير الدينية لتنتقل إلى تلك التي تمثل السياسة المعاصرة، هذه التي تفضل نموذجا حيا، من إبداعها الخاص. بينما نلاحظ، بأن الشكل الخاص للبروتستانتية التي انزرعت على أراضي "بريطانيا الجديدة"، ستجد نفسها مدعوة لتعلم بخصوصيتها، الأيديولوجية الأمريكية ببصمات قوية ما تزال ليومنا هذا. لأن هذا التطبيع الأيديولوجي، سيكون الوسيلة التي من خلالها، سينطلق المجتمع الأمريكي الجديد لغزو هذه القارة واحتلالها، متخذا ذرائعه هذه ومبررا إياها شرعا، بمصطلحات مستقاة من الإنجيل ( الغزو العنيف من قبل إسرائيل للأرض الموعودة، تيمة ما تزال تردد لحد الإشباع في خطابات أمريكا الشمالية). وفيما بعد، ستبسط الولاياتالمتحدة رؤيتها الأيديولوجية هذه على العالم أجمع، لتحقيق المشروع الإستعماري الذي أمرهم "الله" بإنجازه. لأن الشعب الأمريكي يرى نفسه وكأنه "الشعب المختار" صيغة مرادفة ل" هيرن فولك – الشعب السيد" التي كانت تستخدمها الأيديولوجية النازية. نعم إننا هنا اليوم، أمام هذه الإمبريالية الأمريكية و( ليس الإمبراطورية)، التي نرى فيها، بأنها مدعوة لتكون أكثر همجية من أسلافها، الذين كانوا يرون في غزوهم الهمجي تزكية إلاهية. بطبيعة الحال، إن الأيديولوجية الأمريكية التي هي عنوان تساؤلنا هنا، ليست السبب في انتشار المد الإمبريالي الأمريكي. بل إن السبب يخضع في واقع الأمر، لمنطق تراكم رأس المال، الذي يخدم هذه المصالح المادية البحتة. ولكن هذه الأيديولوجية تلائم هذه الأهداف بامتياز، لأنها تخلط الأوراق. إن الولاياتالمتحدة، قد طبعت ولغاية يومنا هذا، بهذه الهيمنة للفرق البروتستانتية الأصولية. إن هذا المجتمع، الديني بامتياز، الشيء الذي لاحظه كل المراقبين، وفي بعض الأحيان بسذاجة، لم يتمكن بسبب هذه القيود، إن يرتفع بنفسه إلى مستوى المفهوم القوي للعلمانية، هذه الأخيرة التي تفسر هنا ب"تحمل كل الديانات الأخرى". إنني لست من أولئك الذين يعتقدون، بأن الماضي يصبح بسبب قوة الأشياء "تحويلا مشوها". إن التاريخ يغير الشعوب، الشيء الذي حصل في أوربا. ولكن، للأسف الشديد، إن مجريات أحداث التاريخ الأمريكي، بعيدة كل البعد عن المساهمة في محو الوحشية الأصلية. فكل ما حصل، وهو أن التعبير قد شُدِّد والأفعال قد أديمت، وسواء تعلق هذا "بالثورة الأمريكية" أو بتعمير البلد بموجات متعاقبة من المهاجرين. إن "الثورة الأمريكية" التي كانت محل إعجاب كبير، من قبل الثوار الفرنسيين (1789)، لم تعد تحمل من معنى اليوم، سوى أنها لم تكن سوى حرب استقلال المعمرين بدون أي بعد اجتماعي. إن المعمرين الأمريكيين، في انتفاضتهم على الملكية البريطانية، لم يسعوا في الواقع، إلى أي تغييرفي العلاقات الإقتصادية والإجتماعية، بل كل ما كانوا يستهدفونه، هو عدم مقاسمة فوائد أرباحهم، مع الطبقة المهيمنة في الوطن الأم. لقد كانوا يريدون السلطة لأنفسهم، ليس من أجل عمل آخر مختلف، بل من أجل متابعة ما كانوا يعملون في الحقبة الإستعمارية، بجدية أكبر، وبانتهازية وإصرار لا حد لهما. لقد كانت أهدافهم، قبل كل شيء، هو متابعة المد الإستعماري نحو الغرب، هذا الذي كانت من عواقبه الوخيمة، الهلاك الجماعي (التطهير العرقي) لما تبقى من السكان الأصليين، من "الهنود الحمر". وبهذه المناسبة، إن البقاء على العبودية السوداء، في هذه الأثناء، لم يثر أي تساؤل يذكر. فمعظم قادة الثورة الأمريكية، كانوا من أكبر الملاكين للعبيد، لذا كانت أحكامهم المسبقة بخصوص هذه القضية العبودية، راسخة لا تزحزح. إن المذبحة الجماعية للهنود الحمر (التطهير العرقي)، كانت بطبيعة الحال مسجلة في منطق المهمة الإلهية لشعب الله المختار. ولن يدفعنا هذا للإعتقاد بأن هذه المسالة تتعلق بالماضي وبأن الأمر يختلف الآن. فلغاية سنة 1960، كانت قضية مذبحة الهنود الحمر، تلاقي لها رواجا منقطع النظير، عبر الشاشات السينمائية (لشركة هوليود للأفلام)، التي كانت تصور الهنود في زي أشرار متوحشين، في مقابل رعاة البقر الطيبين، (حملة قيم الخير والسلام والحضارة)، الشيء الذي ظل يشكل عنصرا هاما في "تربية" الأجيال اللاحقة. وكذلك الأمر فيما يتعلق بمسألة العبيد السود، فمما يصدق على الهنود الحمر، يصدق عليهم أيضا. فبعد قرن أو يزيد على الإستقلال الأمريكي، حُرّمَت العبودية (شكلا)، لا لأسباب أخلاقية كما كان الحال مع الثورة الفرنسية، بل لأن العبودية لم تعد تستجب لمتطلبات المد الرأسمالي. هكذا إذن ظلت مسألة العبودية عالقة لأزيد من قرن، كيما يتمكن العبيد السود أخيرا، من الحصول على الحد الأدنى من الحقوق المدنية (كذلك الهنود الحمر الذين لم يحصلوا على درجة المواطنة إلا في مستهل القرن العشرين). هذا في حين أن التمييز العنصري، قد ظل من جهته يغذي بلا خجل، الثقافة المهيمنة. فلغاية سنة 1960 كانت ثمة في أماكن عدة من أمريكا، مسارح لنهش "السود" علنا، تحت عيون جمهور أبيض، كان يغتنم هذه الفرص، للتنزه بأماكن الإجرام هذه، والتقاط بالمناسبة بآلات تصويرهم صورا تذكارية. وما زال هذا النوع من الإجرام في حق السود متبعا، ولكن بطرق خفية ومحتشمة، تستهلكها هذه المرة، المحاكم ب"عدالتها" لتبعث إلى الموت، بالآلاف من المحكومي عليهم – معظهم من السود، إن لم نقل كلهم – الذين نعرف بأن أغلبيتهم أبرياء، ومتهمين زورا. ومع كل هذا، فإن الرأي العام يبدو وكأنه غير موجود. إن موجات المهاجرين المستمرة، قد لعبت هي الأخرى دورا هاما، في تشديد وتقوية الأيديولوجية الأمريكية. إننا لا نعد هؤلاء المهاجرين، مسؤولين عن البؤس والقهر اللذين كانا من وراء هجرتهم. بل هم بالعكس، كانوا ضحاياه. ولكن الظروف - ونعني هجرتهم – قد قادتهم إلى التخلي عن الصراع الجماعي أو الطبقي الذي كان بإمكانه أن يغير من حالتهم، وانخرطوا باستلام في سلك "أيديولوجية النجاح" الفردي، في البلد المستقبل لهم. ويفسر هذا الإنخراط، بالتشجيع الذي يلاقيه من قبل المنظومة الأمريكية، التي يخدم مصالحها بامتياز. هذه المنظومة التي من مقوماتها أنها تأخر من الوعي بالإنتماء الطبقي، لهؤلاء المهاجرين. وهذا الوعي، بمجرد ما يبدأ بالنضج، حتى يلاقي نفسه من جديد، وجها لوجه مع موجات جديدة من المهاجرين الجدد، الذين عن غير قصد، يجهضون هذا التبلور السياسي. وبشكل متوازي، فإن "الهجرة" تشجع من هذا الإنتماء "الطائفي" الخاص بالمجتمع الأمريكي. لأن "النجاح الفردي" لا يمنع من الإنخراط في الطائفة الأصلية التي ينتمي إليها المهاجر، ك( الإرلندييين والإيطاليين ...إلخ)، التي بدونها قد يشعر المهاجر الجديدي بعزلة قاتلة. وهنا أيضا، نلاحظ بأن تقوية حجم هذه الهوية - التي يستعيد كسبها المجتمع الأمريكي بمدح كبير – تفتعل على حساب وعي المهاجر بانتمائه الطبقي وتشكيلته المدنية. بينما كان الشعب في باريس يتهيأ "لللإنقضاض على السماء" ( أشير هنا إلى كومونة باريس 1871)، كانت في الولاياتالمتحدة، حرب العصابات المنحدرة من مختلف الأجيال المتعاقبة للطوائف الفقيرة (إرلنديين، إيطاليين ...إلخ) تتقاتل فيما بينها، مُتلاعَبُ بها باستخفاف مطلق، من قبل الطبقات المسيطرة. إن كل الإختلاف الذي يفصل أيديولوجية "الولاياتالأمريكيةالمتحدة" عن مثيلتها "البريطانية" أو "الكانادية" على سبيل المثال، يجد أصله هنا. إن أوربا البروتستانتية - بريطانيا، ألمانيا، هولاندا والدول السكاندنافية – كانت في بداية الأمر، تتقاسم فيما بينها بعض الشظايا لأيديولوجية، شبيهة نوعا ما بتلك التي نعاينها في الولاياتالمتحدة، كانت تسيرها فكرة "العودة إلى الإنجيل"، ولكن بأشكال أخف وأقل حدة، من تلك التي كان تروجها الطوائف "الدينية" المتعصبة والمتطرفة، تلك التي حلت ب" بريطانيا الجديدة". وبخلاف هذه الطوائف الشاذة، فإن الطبقة العاملة في البلدان االأوربية المذكورة أعلاه، قد تمكنت إلى الإرتفاع إلى مستوى عال من الوعي الطبقي، الشيء الذي لم يحصل في "بريطانيا الجديدة" ونعني "أمريكا"، بسبب الهجرات المتعاقبة التي أجهضتها. إن بروز وتطور الأحزاب العمالية، قد كان العامل الفعال في إحداث الفارق الهام بين ما حدث وتطور هنا في أوربا وهنالك في أمريكا. ففي أوربا على سبيل المثال، قد سمح تطور هذه الأحزاب العمالية بمعادلة ما بين الأيديولوجية الليبرالية ومنظومة القيم الإجتماعية، ك(المساواة) من بينها، على سبيل المثال. أما في أمريكا، فإن هذه القيم تظل غريبة عن هذه المنظومة، إن لم نقل وبصراحة، بأنها معادية لها. إن هذه المعادلات، لها بطبيعة الحال، تاريخها الخاص بها، مختلفة من بلد لآخر ومن لحظة تاريخية لأخرى. ولكنها في الواقع، قد احتفظت بالإستقلال الذاتي لما هو سياسي في مقابل الإقتصادي المهيمن. وإذا كانت "كانادا" في هذا السياق، كبلد حديث العهد بحركة الهجرة لا تتقاسم (أو ليس بعد) مع "أمريكا" منظومتها الأيديولوجية، فلأنها لم تعرف تلك الموجات المتعاقبة من المهاجرين لدرجة كافية بكبت الوعي الطبقي. ولربما أيضا أن "المواطنين المخلصين" الذين لم يرغبوا بالإنفصال عن الوطن الأم لكونهم لا يتقاسمون ذاك الإنحراف الطائفي الذي عرفته "بريطانيا الجديدة". ففي الولاياتالمتحدة مثلا، لا يوجد حزب عمالي، ولم يتواجد بها قط، والنقابات العمالية بالرغم من نفوذها، تفضل مع ذلك "لا سياسية". إنها وبكل ما تحمل الكلمة من معنى، غير فاعلة سياسيا، بحيث أنها لا تمتلك أية مرجعية حزبية طبيعية ترتكز عليها، ولا هي قادرة على الحلول محل الحزب الغائب، من أجل إنشاء أيديولوجية اشتراكية تزكي حركتها. ولأنها بكل بساطة، تتقاسم مع باقي المجتمع الأيديولوجية الليبرالية، التي تسيطر على مجمل الساحة بلا منافس. وتظل هذه النقابات في هذا المناخ السائد، تتعارك على أراضي محدودة، بمطالب لا تتهم الليبرالية في شيء. وباختصار إنها " حداثية أمامية" كما كانت في كل الأوقات. إن الأيديولوجيات الطائفية بما فيها الطائفة "السوداء"، ليس في استطاعتها، أو قدرتها أن تحل محل أيديولوجية اشتراكية للطبقة العاملة. لأن "الطائفية" بالتحديد، تتحرك داخل إطار التمييز العنصري العام والشامل، الذي تحاربه على أرضيتها الخاصة، ولا أقل من هذا ولا أكثر. والمعادلة الخاصة بهذه التشكيلة التاريخية للمجتمع الأمريكي - أيديولوجية دينية "إنجيلية" مُهَيْمِنَة، وحزب عمالي غائب – قد انتجت في نهاية المطاف وضعية اجتماعية لا مثيل لها من قبل، ونعني حزبا وحيدا ومتفردا، ألا وهو الحزب المالي. إن هذا الحزب الوحيد، (بوجهيه الديموقراطي والجمهوري) بجزأيه اللذين يؤلفانه يتقاسمان معا، الليبرالية الأصولية نفسها. فكل منهما، أي هذا وذاك، يتوجه بصفة خاصة إلى الأقلية المُنْتَخِبَة التي تشكل(40 في المائة)، هذه التي تساهم في هذه الحياة الديموقراطية المبتورة والقاصرة التي تمنح لها.