في تربة مدينة الدارالبيضاء الخصبة، بالضبط في الحي المحمدي، حيث نشأ وكبُر وذاعَ الكثيرُ من كبار رموز ظاهرة أغاني المجموعات مثل ناس الغيوان، جيل جيلالة، لمشاهب، مسناوة، وقائمةُ الإبداع والعطاء طويلة، في هذا المناخ الفني والموسيقي نشأ ونَمَا الفنانُ يوسف أيت الراعي. شاب بقامَةٍ مُعتَدلة نَحيفة، أسمر الملامح، وقسماتِ وجهٍ واضحة يَطبعُها الخجلُ الطفولي البريء، بصوتٍ ذي قرارٍ عميق رَخيم. وأنتَ تسمعُه يَشدو، فإنه حتماً يَرفَعُك إلى زمنٍ مضى، زمنِ كبار الظاهر الذين يَتدَاعَوْنَ تِباعاً، تارِكين خلفَهم انحدارا للأغنية المغربية الهادفة، مُقابل صعودٍ مُريبٍ للأغنية الرديئة الحاطّة من شأن القيم الرفيعة. يوسف نسيمٌ فنّي وعَبَقٌ جمالي يُضَوِّعُ الذاكرةَ ويَصُونُ آخِرَ ما تبقى من نمطٍ موسيقي كان له جميلُ الفضل على الوجدان الجماعي للمغاربة وعلى الذائقة العامة. يوسف ذُو الخامسة والثلاثين ربيعاً الآن، وُلد لأسرةٍ كان الفنُ يُشكل علامةً من حياتِها الاجتماعية اليومية، أسرةٌ طرَبية بامتياز، خصوصا وأن الأخَ الأكبر كان مُغنّيَ مُوشَّحات وأفانين الطرب الأصيل، كما أن الفتى يوسف صَقَلَ تجربَتَه عبر المشاركة في فعاليات المُخيمات الصيفية، والتحق، مثلَ خيرةِ الأجيال السابقة، بدار الشباب الحي المحمدي التي شكّلت مدرسةً وطنية كُبرى، قدمت أسماء فنية وإبداعية كثيرة، هناك نَشِطَ مع جمعية البُذور والشعلة وأطيطي والانفتاح. سَيْراً على مسار التكوين والتمرُّس، لعبتِ المدرسةُ كذلك دورا عميقا في بَيانِ وإبراز هذه الموهبة الفَتِيّة، فقد تألّق يوسف في المُناسبات والاحتفالات، وكان صوتُه مِعْرَاجاً رَخِيماً نحو الفَرادَة والتميُّز، فاستطاعَ التقرُّبَ من دَوائر وحلقات كِبار علامات ظاهرة أغاني المجموعات من عِيار العربي باطمة، محمد باطمة، ومحمد السوسدي هذا الذي تطوّرت معه العلاقةُ والصداقةُ، وآمن بمُؤهلات الفنان الواعد يوسف، فأصبح عنصرا وركيزةً صلبة في مجموعة محمد السوسدي لفترةٍ حافِلة بالعطاء والحضور، فقد كان الفتى أكثر من يُذَكِّرُ السوسدي بصديقه الراحل محمد باطمة، إبداعا وخُلقا، وإنها لَشهادةٌ أثيرةٌ ومَهَمّة جسيمة أن يُمَثِّلَ يوسفُ امتداداً لعبقريةٍ فنية مثل البديع محمد باطمة عميد مجموعة لمشاهب. نال هذا الشابُ تقديرَ واعترافَ الرُّواد واستأهلَ محبةَ جمهور الظاهرة الفنية، ليؤسِّسَ مجموعةَ جمرة سنة 2005، وقد ضَمّتْ الفنان مهدي، خليفة والده محمد السوسدي، والفنان عبد الرحمان نقطان، وازْدَانَتْ بالتحاق طه حنين، ابن حنين عضو مجموعة السهام، فشكَّل هؤلاء الشُّبان قوةً فنية مائِزَةً، وكَتبوا ولَحّنوا قطعاً فنية خاصة بهم، نَستحضرُ منها " قلبي ما بقا يساعفني " / " نحكي ليك "، مُتجاوِزِينَ مَنْزِلَةَ التقليد، حيث ارتقى يوسف منصةَ الأداء إلى جوار مختلف المجموعات الموسيقية بعناصرها البارِزة والتاريخية، وشارك في رُوزْنامَةٍ من المهرجانات والفعاليات الفنية الوطنية، لكن في سنة 2008 انطفأت الجمرةُ تحت ضغطِ الإكراهات. حرصاً على الاستمرارية والثبات في معركة الكلمة المُلتَزمة، اسْتَمْسَكَ يوسفُ بالعُرْوَةِ الفنية الوُثْقَى، والتحق بمجموعةِ أهل الخلود التي فتحتْ له أبوابَ الحضور على مِصْرَاعَيْها، وبعدها عاد يوسف أيت الراعي، لِيُخْرِجَ إلى الساحة الفنية مجموعةً حملتْ اسمَ جورة سنة 2016، وقد خَبَلَتِ الألبابَ واستحقَّتْ نَيشانَ الاعتراف بسينما هوليود خلال المهرجان الوطني لأغنية المجموعات بمدينة سلا، غير أن رياح العازف هَبَّتْ بما لا تشتهي أًصوات المجموعة، لأن إقامَتَه خارج البلاد صعّبتْ أمكانية الاستمرار والبقاء. في الآوِنة الأخيرة مع انفجار الجائحة وآثارها العالقة، اختارَ يوسف أيت الراعي شبكةَ التواصُل الاجتماعي، كمنَصَّةٍ بديلة للتواصُل مع عُشّاق هذا الفن الموسيقي الذي يُقاوِمُ الامّحاءَ، وظَلَّ يُرْسِلُ باقاته الفنّية من بحرِ العالم الأزرق، يَرْفَعُ السامِعين إلى مَصَافِّ القيم عبر صوته الشجي الطَّرُوبِ وَلَثْغَةِ حُنجُرَتِه الساحرة، كأنه مُغنّي الرَّبَابة وحارسُ القلاع الأخيرة.