غيب الموت إثر أزمة قلبية واحدا من أشهر الكتاب والمفكرين العرب في العصر الحديث الكاتب المصري (سيد القمني – ولد في 1947 – وكانت وفاة المفكر في السادس من شباط 2022) واسمه الكامل (سيد محمود القمني) الذي عرف بالكتابات والأفكار الجريئة باحثا ومحللا وناقدا تجاوزت مؤلفاته عن ثلاثين كتابا ومئات الأبحاث والمقالات؛ متخصصا بالكتابة عن بواكير التاريخِ الإسلامي وفي ميدان تاريخ الأديان المقارن ونقد الفكر الديني والتراث الديني وفي الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاجتماع الديني، وقد وظف علومه الفكرية بعد إن نال شهادة بكالوريوس من كلية الآداب قسم الفلسفة جامعة (عين الشمس القاهرة) وشهادة الدكتوراه في فلسفة العلوم الإنسانية من (جامعة جنوب كاليفورنيا) – لم يتم التأكد من صحتها – ليركز في بحوثه عن دراسة بواكير التاريخ الإسلامي وفي مفاهيم (التراث الديني) عبر مناهج البحث التاريخي والاجتماعي والتحليل الاقتصادي، ليكتب بلغة جريئة يقدم ويطرح مقدمات ليصل إلى نتائج منطقية والأطروحات التي تنسف جذريا ما يعتبره البعض مسلمات غير قابلة للمراجعة والنقد، وهذه الرؤية المعرفية التي نستشفها من خلال بحوث ل(سيد القمني) هي التي وضعته مباشرة في مواجهات عنيفة وصراع مرير مع أنصار التيارات الإسلام السياسي المتشدد التي هددته بالاغتيال عام 2005 متهمين إياه بالآحاد والكفر لدرجة التي أراد اعتزال الكتابة ولكن تراجع عن قراره؛ لتعد مسيرة حياته حافلة بالجدل والصخب والمعارك بسبب انتقاداته ومطالبته بالتجديد (التراث الديني)؛ وهو ما اثر حفيظة (الأزهر) و(مجمع البحوث الإسلامية) لترتفع بينهم حدة المواجهات من جهة وبين (تيارات الإسلام السياسي) من جهة أخرى ومن ضمنهم (الإخوان والسلفيون) الذين انتقد ممارساتهم التي تميزت بالعنف والتشديد بعد سعيهم إلى تديين كل أنشطة الإنسان والحياة ليس فحسب في (مصر) بل في كل الدول العربية والعالم الإسلامي طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وتزايدت وتيرتها بشكل محموم منذ منتصف السبعينيات والى يومنا هذا، في وقت الذي اعتبرته التيارات العلمانية والمدنية ضمن مفكري الفكر العقلاني ومن تيار الاستنارة العقلانية التي تواجه وتجاهد لمواجهة المد الديني والأصولي من اجل تأسيس دولة مدنية حديثة في (مصر) وفي جميع الأقطار العربية تبنى بمفاهيم العلم والمعرفة . وقد عرف (سيد القمني) واشتهر من خلال كتبه ونذكر منها: كتاب (رب الثورة.. أوزويريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة – صدر عام 1988) وكتاب (الحزب الهاشمى وتأسيس الدولة الإسلامية – صدر عام 1996) وكتاب (رب الزمان – صدر عام 1996) وكتاب (حروب دولة الرسول – صدر عام 1996) وكتاب (النبي إبراهيم والتاريخ المجهول – صدر عام 1996) وكتاب (السؤال الآخر – صدر عام 1998) وكتاب (قصة الخلق – صدر عام 1999) وكتاب (الأسطورة والتراث – صدر عام 1999) وكتاب (الفاشيون والوطن – صدر عام 1999) وكتاب (النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة – صدر عام 1999) وكتاب (إسرائيل، الثورة التاريخ التضليل – صدر عام 2000) وكتاب (النسخ في الوحي – صدر عام 2000) وكتاب (الإسلاميات – صدر عام 2001 ) وكتاب (شكرا بن لادن – صدر عام 2001) وكتاب (الإسرائيليات – صدر عام 2002) وكتاب (الجماعات الإسلامية رؤية من الداخل – صدر عام 2004 ) وكتاب (مدخل إلى فهم دور الميثولوجيا التوراتية صدر عام 2005) وكتاب (أهل الدين والديمقراطية – صدر 2005) وكتاب (صحوتنا لا بارك الله فيها – صدر عام 2007) وكتاب (الدولة الإسلامية والخراب العاجل – صدر عام 2007) وكتاب (الدولة الإسلامية للخلف در – صدر عام 2007) وكتاب (الحجاب وقمة ال 17 – صدر عام 2007) وكتاب (انتكاسة المسلمين إلى الوثنية؛ التشخيص قبل الإصلاح – صدر عام 2010) . ومن خلال هذه المؤلفات وغيرها؛ عرف (سيد القمني) بما أظهره في كتابته عن منحى فكري ومعرفي في غاية الجراءة في الاستقصاء الإحداث بتوغله العميق في المناطق الأكثر إثارة وحساسية في التاريخ الإسلامي والتراث الديني، فهو يؤكد بأكثر من مناسبة بأنه (لا ينقد الدين) بل (التراث الديني)؛ مؤكدا بان (التراث الإسلامي) هو محل النقد والتفنيد والدرس وليس (الإسلام كدين)، واعتبر أن انتقاده من قبل المؤسسات الدينية الرسمية يأتي بسبب أن كتاباته تسحب عنهم القدسية وتسقط عنهم الوجاهة الاجتماعية والسيادة، ولذلك يريدون اغتيال الكلام المختلف والبعيد عن توجهاتهم حتى لا نعود نميز بين الصواب والخطأ.. وقال (( لو كان كلامي خطأ فلماذا لا يتركونه ليثبت صوابهم وسلامة موقفهم أمام الناس…..؟ أم أنهم يعلمون صوابه وأنه يكشفهم أمام المسلمين المخدوعين فيهم، لذلك يحرمونه ويكفرونه حتى يصرفوا الناس عن معرفته…….؟..)). ولهذا حاول (القمني) بكل جراءة نقد هذا التراث وغربلته؛ منتقدا الكثير مما ضنه بأنه ورد خارج نطاق العقل في التاريخِ الإسلامي؛ فطالب بنسخِ آيات العبيد.. والإماء.. وملك اليمين؛ مؤكدا بان المسلمين آنذاك تجمدوا ولم يتمكنوا من تحليل الأوضاع فكريا عند وفاة الرسول معتبرين – حسب ما يعتقد (سيد القمني) – بأن النص القرآني يواكب عصر الرسول آنذاك، في وقت الذي كان (الله) ينسخ بعض آياته لتساير التطور المجتمعي في تلك المرحلة فحسب؛ قائلا ((.. بأن الرسول بشر قد يصيب وقد يخطئ، ولا قَداسةَ لشخصٍ في الإسلام سواء أكان الرسول أم صحابته من بعده، وأن التاريخ الإسلامي هو سلسلة متصلة من الدماء المهدرة في سبيل بناء الدولة الإسلامية..))، ولم يكتفي على هذا النحو بل واصل الدراسة وطرح أفكاره وتوالت أبحاثه من اجل إن يصل الإنسان المسلم إلى فهم جديد( للتراث الإسلامي وليس للدين الإسلامي) حتى لا يكون فهم هذا (التراث) جامدا ومتوقفا دون تجديد أكثر من ألف عام مضت؛ وذلك ليتمكن المسلمون من اللحاق بالعالم المتقدم عبر تجديد الأفكار لفهم ذلك فهما معاصرا لما ورد سابقا من نصوص؛ لأن هناك حاجة ملحة لظهور مذهب جديد يتلاءم مع ظروف الواقع اليوم بعد مضى نحو ألف عام على ظهور آخر مذهب من المذاهب الإسلامية، وهذا الطرح الجريء لآرائه دون مواربة جعل من (سيد القمني) عرضة للمساءلة سواء من أجهزة الدولة أو من الأزهر الشريف أو من مجمع البحوث الإسلامية أو من التيارات الإسلام السياسي. لأن (سيد القمني) في إطار بحوثه الفكرية الأكاديمية أصدر مجموعة من إعمال هامة وكمحاولة منه لإصلاح حركة الواقع المصري والعربي على سواء ومن الداخل وفضح التيارات الإسلام السياسي المتطرفة التي تحاول استغلال البسطاء والطيبين من اجل الاسترزاق على حسابهم ومن اجل استنارة عقول أبناء الشعب، وكانت جل توجهاته تنصب من اجل دعم الحركة العلمانية في (مصر) لتفرض حضورها ولتمتد إلى العالم العربي؛ وان كانت في طور التكوين؛ ولكن الأمل في تطورها ظل مسعى للمفكرين لتحقيق هذا الحلم على ارض الواقع؛ وهذا ما أثار حفيظة التيارات الإسلام الراديكالية المتشددة – كما قلنا سابقا – التي شارك في بيانات التكفير والارتداد والإلحاد بحق (القمني) ليصدروا فتاوى ليصبح الرجل مهدور الدم يمكن لأي مواطن قتله ويكافئه الله بدخول الجنة؛ وقد شاركت الكثير من الجهات في اتخذا هذا القرار ومنهم علماء الأزهر والجماعة الإسلامية ومنهم (الأخوان المسلمون) و(الجماعة السلفية)؛ كما وأعلنت هيئة الفتوى والتشريع التابعة للدولة فتوى أصدرها رئيسها بتجريمه وهدر دمه بتهمة أهانه نبي الإسلام؛ وهو الأمر الذي أدى إلي هياج المواطنين ضده وضد إفراد عائلته؛ مما جعل (سيد القمني) يصدر نداء استغاثة لكل الهيئات الدولة المصرية والأفراد ولكل ضمير حر في العالم لتحمل مسؤولياتهم أزاد هذا التهديد . ومثل هكذا أوضاع التي أحيطت بحياة (سيد القمني) وأطروحاته الفكرية الجريئة؛ وشدة الهجمات من التيارات الإسلام السياسي ضده – مما لا شك – تزيد من إقبال القراء إلى قراءة كتبه مع تصاعد منع ومصادرة مؤلفاته من قبل المؤسسات الدينية وحملات التحريض التي مارستها هذه المؤسسات ضده بكل ضراوة والتي استغلت إعلامها لشن هجوم قاسي على شخص (القمني) ومؤلفاته وأفكاره، وهذه الحملة ساهمت في رواج كتبه أكثر لدرجة التي بيعت قبل عقدين أية نسخة من كتبه ككتاب (رب الزمان) وكتاب (حروب دولة الرسول) إلى ما زاد عن أربعين إلف نسخة في وقت الذي كانت أقصى ما يباع من كتب قيمة لا تتجاوز عن ألاف نسخة فحسب. ولم يقتصر نقد (سيد القمني) في (التاريخ الإسلامي والتراث الديني) بل إن دراساته ونشاطه في التأليف والنقد أخذت إبعادها بما كان يفرزه الواقع من معطيات سلبية لإحداث عصفت المجتمعات العربية و(مصر) للفترة ما بين الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فكانت جل كتاباته في هذه المرحلة تتصدى لأفكار تيارات العنف والإرهاب الإسلام السياسي المتطرف التي أخذت مدها تنتشر في (مصر) وفي جميع الدول العربية والإسلامية؛ فنبه ومنذ وقت مبكر إلى الخطورة المتنامية ومن تغلغل هذه التيارات الإسلامية المتطرفة في أوساط المجتمعات العربية والإسلامية وتحديدا بين شرائح عريضة من الطبقات الدنيا والوسطى؛ وطالب دولة (مصر) و(الدول العربية) اخذ الحيطة والحذر مما ينمو في الأوساط المجتمعات العربية من ظواهر غير طبيعية من التطرف؛ وحذر من ذلك؛ وطالب بضرورة عدم إهمال التعليم والتربية وتنقيح المناهج الدراسية وخاصة في المدارس والجامعات الدينية؛ لان إذ ترك الأمر على ما يحدث في الساحة العربية فان النتائج ستؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وفعلا أثبتت الأيام صحة ما حذر منه وصواب استشرافه وصدق مناداته ودعواته؛ فكانت تفجيرات (طابا – المصرية) في (تشرين الأول عام 2004 ) حين هاجمت قيادات من التيار الإسلام السياسي على المدينة وحدثت مجاز رهيبة فيها؛ وكذلك حين تم بما يسمى ( الدولة الإسلامية الداعشية) احتلال مدينة (موصل العراقية) عام 2014 وتهديد أكثر من ثلاث محافظات أخرى (عراقية) وحدث ما حدث من نزوح وتشرد قسري لملايين السكان في هذه المدن؛ وكذلك نجد كيف امتد التيار الأصولي السلفي الداعشي في دولة (سوريا) واسقط محافظات كثيرة لدرجة التي هدد الدولة بأكملها عام 2015 ؛ وكذلك ما حدث في15 شباط 2015 بذبح المصريين الأقباط في (ليبيا) وانتشار (الدواعش) في كافة أنحاء البلاد آنذاك؛ في وقت الذي انهالت إلى (سيد القمني) رسائل التهديد، التي تطالبه بالعودة عن أفكاره تحت طائلة التهديد بالقتل، فتعرض ( سيد القمني) إلى مزيد من النقد السلبي والعنف اللفظي من التيارات الإسلام السياسي المتطرف، ربما كان الأعنف بين من تعرضوا لذلك من أقرانه من دعاة نقد الفكر الديني والدعوة إلى علمانية الدولة من أمثال المفكر العلماني المصري (فرج فودة) – على سبيل المثال وليس الحصر – والذي تم اغتياله عام 1992 من قبل المتطرفين من الإسلام السياسي إمام منزله، وظلت هذه الجماعات المتطرفة من المتطرفين الإسلام السياسي تلاحق (سيد القمني) طوال ما يزيد عن أربعين سنة لحين وفاته، وهو من وقف أمام النيابة العامة وأمام محكمة الدولة بتهمة التكفير والإلحاد؛ بعد إن خضع لاستجواب في نيابة أمن الدولة العليا في (مصر) حول معاني الارتداد المتضمنة في كتبه؛ بدعوة أقيمت ضده من قبل (الأزهر وجماعات الإسلام السياسي المتطرف)؛ فضلا على تهديد حياته ذاتها بفتوى شهيرة صدر من قبل هذه الجماعات من الإسلام السياسي المتطرف أجبرته على اعتزال الكتابة والحياة العامة لسنوات طويلة ومع ذلك لم يرضخ لتهديد هؤلاء المتطرفين وواصل الكتابة – كما قلنا سابقا – بطرح أفكاره ودراساته النقدية من اجل توعية إفراد المجتمع وإنقاذهم من مهالك ألضلاله؛ فكتب خلال هذه الفترة كتب مهمة في نقد الفكر الإرهابي والإسلام السياسي المتطرف ليستحق تكريمه من قبل الدولة المصرية عام 2009 بمنحه جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية؛ مما أثار احتجاج واعتراض أنصار التيارات الدينية المتطرفة وخاصة من (الإخوان) و(السلفيين) ومارسوا ضغوطهم بكل السبل وشتى الوسائل حتى اضطر وزير الثقافة المصري آنذاك (فاروق حسني) سحب الجائزة من (القمني) ليعد هذا التصرف سابقة هزت أوساط الثقافة المصرية الرسمية باعتبار ذلك تراجع وانكسار في مواجهاتها مع التيارات العنف والتطرف والإرهاب للإسلام السياسي المتطرفة التي لطالما مارست هذا الإرهاب وظلت باستمرار مع مواجهة الدولة المصرية ومع المثقفين المصريين اللذين ينتقون التيارات الإسلام السياسي المتطرفة؛ لكن محكمة القضاء الإداري في عام 2012 رفضت كل الدعاوي التي أقيمت ضد (القمني) ليبقى حاملا للجائزة حتى وفاته . وقد كتب (سيد القمني) على مقبرة العائلة المشيدة بمحافظة (بني سويف) عام 2015 عبارة ( إن الذين ماتوا قد نجوا من الحياة بأعجوبة) وهي منسوبة للشاعر الفلسطيني الكبير (محمود درويش)، رغم إن أسرة الراحل رفضوا دفنه فيها وذلك لبعد المسافة بين مسكن أبنائه والمدافن ولكي لا يتم العبث بجثته من قبل المتطرفين .