تلك مقارنةٌ طالما راودتني وأقلقتني، فتهجم عليّ أفكارها من وقتٍ لآخر، فأحاول دفعها ما استطعتُ سبيلاً، وها أنا أكتبها اليوم في صورة رجلين؛ لتكون ملماً بكنهها، أحدهما يكتب في صميم الأدب بلسان الأخلاق، فيتخذ من الأسماء الرائجة في هذا الباب زاداً وطريقاً، لكنّه يكتبها على الأوراق دون تحقيق معانيها، فلا يمتثل بها في سلوكه أو عمله. وفي المقابل هناك شخص آخر لا يتعمق في كتابة مقالات عن الأخلاق الفاضلة، ولا يسطّر مؤلفات خاصة عنها، لكن تجد أن روح الإسلام فيما يكتبه ناطقة بها، فتتجسد الأخلاق الحسنة في أفعاله قبل أقواله، وتشعر بصدق كلامه حين تتأمل كلماته، حتى لو وزنتَ أفعاله بقانون الأخلاق ستجدها لا تخرج عنه. ليست الكتابة المناط بها تهذيب النفوس محصورة في سرد الأشعار الدينية، أو حكاية القصص المؤثرة، أو الاستشهاد بالأخلاق الظاهرة، فكل ما يسير في التمسك بالأخلاق الفاضلة، والارتقاء بالقارئ، وزيادة علو إحساسه إنّما يمثل خلقاً حسناً، ويتماشى مع الاتجاه الصحيح له؛ لأنّ الخلق الهادف هو ذو الخطة الموجهة أياً كانت مادتها وموضوعها. إنّ حال هذين الشخصين السابقين كحال بعض المسميات الكائنة التي تلتصق بالإسلام، وهي أبعد عن روح الإسلام، فتنتشر فيها شتى أنواع الأخلاق المذمومة، وفي نفس الوقت قد تجد كائنات أخرى أقلّ منها شهرة لا تتخذ الأسماء البرّاقة شعاراً لها، لكنّها تدثر بروح الإسلام وتعاليمه في أعمالها، وأحبّ إلى قلبي أن يكون الشخص مع الفريق الثاني. رحم الله أستاذ البيان مصطفى المنفلوطي، فقد كان يقرر في كلامه قاعدة مهمة، فحواها أنه ليس كلّ مَن رفع شعار الفضيلة وحدّث بها الناس صار من جملة أهلها، فهناك من لم يكتب عنها حديثاً خاصاً إلّا أنه من أشدّ المحافظين عليها الذابين عنها المدثرين بها، وبالتالي فلا تغرنّك الأسماء، ولا تعبأنّ بشعارٍ ما لم تتحقق من فحواه، فأغلبها مخادعٌ. لا أكونُ مبالغاً حينما أخبرك أنّ بعضها لا يكون إلا لأجل تحصيل رغدٍ من العيش، ليس إلّا. وكنتُ -كغيري- نتأثر بالأسماء المرفوعة إلى أن عرفتُ أنّها أسماء لا تدلّ في حقيقتها على مسماها، وسرعان ما تتساقط الأقنعة عن أهلها عند أولّ تصادم أخلاقي، ولهم عباراتٌ واحدة يحفظونها، يشبّ عليها صغيرهم، ويهرم عليها كبيرهم؛ لتعرف أن الأمر ليس عشوائياً، فهم ينطلقون من منطلق واحدٍ، يستترون وراء الأقنعة ويروجون لأنفسهم بشعارات لامعة، فكن عنهم في منأى، وهم العدو فاحذرهم.