ترجمة: د طارق غرماوي** من بين الموسيقيين المرموقين في سنوات 1960، أنت الأكثر عزفا، والأكثر إحياء للحفلات الغنائية. ما الذي يدفعك إلى ذالك حتى يومنا هذا؟ الأغاني! لا أحد اليوم يعزف صنف الأغنية التي أعزف. هذا كل ما في الأمر. يحدث، هذا بلا شك، مع رولين ستونز (Rolling Stones) كذلك . إحياء الحفلات الغنائية هو مهنتي المفضلة، و تجارتي الأثيرة. هل تتابع ما يجري خارج عالم الموسيقى؟ هل ما تزال تهتم، لنَقُل، بحالة العالم؟ لا. سيكون تلفيقا إذا ادعيت العكس. لكن خلال سنوات الستينيات كنت كذلك، لقد ألفت بعض الأغاني الملتزمة سياسياً. ربما. لكنني أعتقد، فيما يتعلق بي، أن اهتمامي يقتصر على أعمالي بصفتي موسيقيا ومغنيا. ما يعنيني هو اللون الموسيقي الذي أحبه، و لا يخرج الأمر عن هذا النطاق. هل تعتقد اليوم أن الموسيقى الشعبية لم تعد وسيطا جيدا لتمرير أخبار عن حالة العالم أو حال المجتمع؟ لا: لقد وُجدت الصحف والمجلات لهذا الغرض. ولكنه موقف سلبي جدا. دون أدنى شك. ولكن طبيعة العالم تقتضي أن تكون سلبيا. عندما تذهب لمشاهدة مقابلة في كرة القدم لست أنت من يلعب فوق أرضيته المعشوشبة. أولاً، أنت شخصيًا تؤدي الأغاني على المنصّة، وثانيًا أنت تنتمي إلى جيل يعتقد أنه بالإمكان تغيير مجرى الأمور وبالفعل غير نسبيا الأشياء. قد يحصل ذلك… لا أدري لم أفكر يوما أن شريطا لي سيغير مجرى الأمور. إذا كانت لي النية في إحداث تغيير في المجتمع لكنت فعلت شيئا آخر لكنت قد التحقت ب هارفارد (Harvard) أو يال (Yale) لأصبح سياسيا أو شيئا آخر من هذا القبيل. إذن لماذا كتبت أغاني مثل (Masters of War)؟ لم يخطر ببالي أن (Master of War) أغنية سياسية. لكي أبوح لك بطويتي أنا لا أفقه شيئا في السياسة أنا أعجز عن التمييز بين ما هو يمين وما هو يسار… لا أفكر بهذه الاصطلاحات يمكن في يوم ما أن أدافع عن فكرة يمكن وصفها بالمحافظة، وفي اليوم التالي عندما يتعلق الأمر بموضوع آخر يمكن أن أدافع عن موقف يمكن وصفه باليساري! أفهمت؟ عندما تكون لدي فكرة لا أبالي إذا كانت من اليمين أو اليسار. يمكن أن أحتفظ بالفكرة ذاتها عن الموضوع ذاته لكن من زوايا مختلفة. يعتقد كروزبي (Crozby) وستيلز (Stills)، وناش (Nash) أنهم أسهموا في وقف حرب الفيتنام… أجل، لقد أوقفوا الحرب (يضحك)… في اعتقادهم، دون أدنى شك، لقد كانوا هذا الصنف من العازفين. هل ما تزال تحتفظ بعلاقات الود مع زملائك من رعيل الستينيات مثل بيتلز (Beatles)، ولستونز(les Stones)، وجوان بايز (Joan Baes)؟ نعم، مازلنا نترآى… كل من بقي هنا يتلاقى عادة. أعرف كل الفنانين الذين بدؤوا الغناء في عهدي الأول، لستونز، وكروزبي، وستيلز، وناش، وآخرين بلْه فناني سنوات الستينيات أو السبعينيات، يا لها من فكرة! أعتقد أن هذا كله مهم جدا بالنسبة للجمهور كما هو مهم بالنسبة إلينا. هل يذكر الشباب هذا العهد، و يهتمون بما جرى منذ ثلاثين سنة خلت؟ يداخلني الشك في ذلك. الشباب مولعون بفناني الستينيات لأنها فترة كان بالإمكان تغير الأشياء فيها. إلا أننا اليوم نشعر أنه ليس لنا القدرة على ذلك. أعتقد أنه في الستينيات كانت فكرة القدرة على تغيير العالم قائمة. هذه الفكرة كانت أكثر أهمية من تجسيد فعل التغيير. هذا الشعور بالقدرة على التغيير كان أكثر أهمية من التغيير الفعلي. أما اليوم، هذه الفكرة غائبة بالأساس، الأفكار تملك قوة هائلة، ولا يمكن بأي حال اغتيال الأفكار. ما هي الألوان الموسيقية التي أثرت فيك؟ إنها بسيطة جدا، وأساسية للغاية: موسيقى سنوات العشرينيات، والثلاثينيات، والأربعينيات، وحتى الخمسينيات. إنه متن محدد للغاية وواضح جدا: إجمالا هو ما يسمى موسيقى الفولك الأمريكية، وكذلك شيء من الروكبيلي (Rockbilly)… ولم أتأثر بالروكنرول (Rock n roll).لا أعتقد أنني تأثرت ب الروك (rock) على طريقة لاري وليامز (Larry Williams) أو ليتيل ريشارد (Little Richard). في ألبومك (Time Out Of Mind) تقول: «أتمنى أن شخصاً سيأتي ويرجع لي عقارب الساعة إلى الوراء» هل يراودك الحنين إلى شبابك؟ ألا نتقاسم نحن كلنا هذا الإحساس؟ هل تكون الرغبة في استعادة الشباب أمنية شاذة أو شيئا غريبا يخصني أنا فقط؟ هل تتملك أحدا غيري الرغبة في إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء؟ أنا أشعر بهذه الرغبة. وددت لو أني أبدأ حياتي من جديد. لو كان يمُكني ذلك لعدت إلى البداية من هذه اللحظة. وماذا تصنع بمسارك الفني؟ تبا. لا أعرف شيئاً عمّا سأفعله. إذا بدأت حياةً جديدة أتصور أنك ستكون شخصًا مختلفًا: سأعيش أنا في مكان مختلف، وسأَتعلم مهنة أخرى، وسأتزوج بامرأة أخرى. ولكن خلال مشوارك الفني انتقلت من الفولك إلى الكهرباء ومن الكهرباء إلى الكونتري (Country) الخ لقد أعيد اكتشافك مرات عديدة. لكنّها الطبيعة البشريةَ! في كل حياة إنسانية تجري أحداث وتقع منعطفات هذا ليس متعمدا. تمضي الأمور، وتتوالى الأيام هذا كل ما في الأمر. يمكن أن تكون هناك حكمة إلهية وراء كل هذا… في الواقع أنا مؤمن بذلك. هذا يعني أنك لم تقم بكتابة أغانيك، إنما كانت تسبح في الكون ثم وضعت يدك عليها؟ هذا ما كان يقوله وودي كوثري، هو صاحب هذا التصور في مضمار الإبداع. وأعتقد أنه مُحِقٌ على نحو ما. إن مغنيا ملتزما شأن كوثري يعتقد أن الأغاني مستوحاة من الذات الإلهية. وودي كان كاتب أغاني غزير الإنتاج نعثر في بعض المكتبات على كتيبات أغان لم يقم بتسجيلها في أسطوانات ونصوص قصيرة وأغان غير ملحنة حتى اللحظة، وقصائد… إنه صاحب صنعة خلاّق. لقد أضحت نصوصك بسيطة أكثر ومباشرة. أسلوب مفارق لأسلوبك المعقد في الستينيات. لقد تطورت نصوصي منذ مدة. وهذا ليس جديداً. تقول إن الروك هو شيء صعب، يمضي بسرعة… ما هو تعريفك للبلوز؟ للبلوز دائما بنية بسيطة جداً. شكل نموذجي لكي تقول كل ما تود قوله لا أعرف من يملك الاستعداد الغريزي لفن البلوز ومن لا يملكه. لست متأكدا حتى من وجود من يتماهى في عالمنا الحديث مع البلوز بشكل قوي. أتصور أن البلوز هو فن بدوي خشن و حتى عندما أُخذ إلى المدينة حافظ على شكله البدوي الأصلي رغم إدخال الآلات الكهربائية. المشكلة تكمن في كون الموسيقى التي نستمع إليها اليوم ما هي إلا أدوات كهربائية أو إلكترونية، لم نعد نشعر مطلقا بأنفاس المغني خلف الجدار الكهربائي، ولا نسمع نبض قلبه. كلما التجأنا أكثر إلى التكنولوجيا و الآلة نبتعد عن البلوز كما في الغناء البدوي القديم. البلوز شكل فني أصيل بسيط و مكشوف. كيف حصل تعلق رجل أبيض من ولاية مينيسوتا (Minnestota) مثلك بالبلوز؟ عند نشأتي الأولى: كانت مختلف المناطق الأمريكية تتصل في ما بينها عن طريق المذياع. في ذلك العهد كان منشطو البرامج الغنائية أكثر حرية في اختيار المواد الغنائية التي يشاؤون. شبكات البث كانت قوية، كان بالإمكان التقاط المحطات الإذاعية البعيدة. إليك مثلا هيندريكس (Hendrix) لقد نشأ في سيتل (Seattle) وهي ليست معقلاً للبلوز. ولكن دون شك عاش تجربتي ذاتها: اكتشاف البلوز عبر المذياع. المذياع كان همزة وصل بين الناس وهذا لم يعد موجودا اليوم. لا أدري متى تغيرت الأشياء على وجه الدقة، اليوم أصبح المذياع في وضع مختلف. هل تذكر تجربتك الأولى مع المذياع، والمرة الأولى التي أنشددت فيها إلى البلوز؟ عندما اكتشفت البلوز كان ذلك بمثابة إلهام. ولكن لا أذكر بالتحديد متى حصل ذلك لا أذكر من كان شعبياً في ذلك العهد. إذا كنت أذكر المغني جوني راي (Johnny Ray) فلأنه كان مختلفاً، وحيويا يملك قلباً وروحاً. كان مغنياً خارجاً عن المألوف من بين المغنيين الناجحين يفتقد إلى الطعم قليلا شأن بيري كومو (Perry Como) وباتي باج (Patty Page)… أذكر أني كنت أظنه من القلائل الذين يجعلونك تصغي إلى أعماقك. بعد ذلك جعلت أستمع إلى الغناء البدوي لمغنيين من صنف هانك ويليامز (Hank Williams). كما تعلم كان بالإمكان التقاط أثير إذاعة (le Grand Ole Opry) في ولاية مينسوتا (Minnesota). المذياع جمع الأمريكيين فيما بينهم. كان الإسمنت الذي يجمع البلد خاصة في سنوات الخمسينيات. وأنت تستمع إلى المذياع في هذه الفترة هل كنت تروض حنجرتك لتغني على طريقة المغنيين البلوز؟ ليس تماماً. لقد طفقت أستمع إلى الكثير من الفولك البدوي وأظن أني صغت أسلوبي الخاص وأنا أستمع إلى وودي كوثري. ولكن كان ذلك مساراً لا شعورياً وغير مقصود. هل تذكر متى ولماذا وكيف قررت أن تصبح مغنيا، و موسيقيا، وكاتب شعر غنائي؟ لا أذكر ذلك. ذكرياتي ليست دقيقة بما فيه الكفاية. لا أذكر أني امتهنت شيئا آخر غير الغناء وكتابة الشعر الغنائي (يضحك)… ماذا يعني لك موسيقي مثل جيمي رو جرز (Jimmie Rodgers)؟ لقد تماهيت معه إلى حد بعيد، وحتى وودي كوثري تأثر بجيمي روجرز. كانت حنجرته من الحناجر المتميزة التي حلقت بعيدا وطبعت حقبة زمنية. أحب كثيرا أن أغني دائما مثل جيمي روجرز، ولكن الناس يتعرفون إليّ من خلال أغانيّ الخاصة بي، وليس من خلال عزفي لأغان مكتوبة مقدماً. لم أمهر جيدا في مجال إعادة أداء أغاني الآخرين لأن الناس ينتظرون مني أن أسجل أغاني خاَصة بي. هذا هو مأزقي. مع ذلك لقد سجلت ألبومين غنائيين لقيا الكثير من الإقبال أعدت فيهما غناء الفولك: (Good As Been to you) و (World Gone Wrong) ألبومان غنائيان من موسيقى الفولك مؤلفان من أغان تعتبر جزءا من الأملاك العامة. هنا أيضا لا يعتبر الأمر جديدا بالنسبة لي هذا ما كنت أفعله في بداية مشواري: ألبومي الغنائي الأول كان إعادة أداء أغان من موسيقى الفولك. أخرجت ألبوم «Good As Been to you» ثم ألبوم: «World Gone Wrong» كي أذكر الناس في حال إذا نسوا، منبع موسيقاي وجذور أغاني. ألا تستمع إلى أغانيك القديمة على قرص مدمج؟ لا أستمع مطلقاً إلى أغانيّ القديمة. لم لا؟ لا أحب أن أتأثر بأغانيّ … لا أحب أن ألتفت إلى أيامي الماضية، أحب أن أمضي قدماً. شاب على مدى الزمن (Forever Young). مع ذلك تعود دائما إلى الأغاني القديمة لغيرك من الموسيقيين. دائماً. بكل بساطة لأنني أعتقد أنه لا يؤتى بأفضل منها. هذه فكرة تتعارض مع مضمون عبارة «الأزمنة تتغير» (The times they are a changin). «لكن هي تتغير نحو الخلف»… أما تزال ترسم؟ أجرب. إن الرسم هو نشاط وعر. صعب للغاية لأنني أرسم أشياء من الحياة الحقيقية. هذا يقتضي مني استعداداً شاقاً. ما هي طبيعة علاقتك بالأدب؟ لقد تم ترشيحك لجائزة نوبل؟ للأسف لم أحصل عليها! أعرف أن جائزة نوبل هي إحدى المفاخر ذات الشأن. أليس نوبل هو الشخص الذي اخترع الديناميت؟ (يضحك)… لقد كان صديقك ألين جينسبورك (Allen Ginsberg) شاعرا كبيرا. أنت لا تعتبر نفسك شاعرا. ما الفرق بين الشاعر وكاتب الأغاني؟ إن الأغنية يمكن أن تنطوي على عناصر شعرية، لكن الفرق، على ما أظن، أن القصيدة في غنى عن أن يتم تعريفها، أو وضع تخوم لها، أو تصنيفها، فيما الأغنية ينبغي أن تخضع لبعض القواعد. شكل الأغنية ضيق ومحصور جدًا. أود أن أذكر أمرا ذا بال عن بداية سنوات الستينيات: لقد وصلنا حينئذ إلى أفول عصر موسيقى الفولك وربما سمح هذا بإبرام العلاقة مع الشعر لأن التلفزيون لم يكن شائعا جدا. كان الناس لحظتئذ ما يزالون يهتمون بكلمات الأغنية كمرويات تقوم مقام نشرات الأخبار. لقد كان وودي كوثري من أشرس المدافعين عن هذا الأسلوب الغنائي: سردت أغانيه ما يجري في البلد حيث كان يغني… قبل أن يستأثر التلفزيون ومعه وسائل الإعلام بالأخبار، كان الناس يحصلون عليها عن طريق الأغاني، كانوا يصغون إليها جيدا فتُطلعهم على ما يجري بعيدا عنهم. إذا استمعت إلى التراث العريق ل الفولك سيبدو لك أنه يمكن التأكد من ذلك: يظهر التاريخ الحديث للولايات المتحدة في طيات أغاني الفولك. اليوم، انتهى هذا لم يعد للأغنية هذا التأثير أو هذه الوظيفة لأن الناس يعرفون التطورات في الآن واللحظة. وقد شهد الشعر خفوتا مماثلا. وأعتقد أنه مازالت إمكانية كتابة شعر عظيم قائمة في وقتنا الحالي، ومن زوايا مختلفة، وأن الشعر العظيم ما يزال قادرا على حمل معنى أجل من نشرات الأخبار. لكن بالمقابل تعجز الأغاني اليوم عن ذلك. هل أفسد عصر الإعلام الجماهيري جوهر الموسيقى الشعبية؟ على أي حال لقد أفسد جوهر أغنية الفولك. لا أزعم أن كل الأنواع الموسيقية طالها التبدل أتحدث هنا عن صنف خاص. إذا استمعت إلى أغانيّ بداية القرن والتي كانت شعرا مترعا بالمرارة ستعثر على عشرين أغنية عن غرق سفينة تيتنيك (Titanic) على سبيل المثال. كل واحدة منها تمثل وجهة نظر مختلفة. كل واحدة منها تتغلغل إلى أعماق القلب. وهذا لا يقف عند تيتانيك ستعثر على أغنيات حول مصرع جيمس. أ.جارفيلد (James .A. Garfield) حول فاجعة في مناجم الفحم… هناك العديد من الأغاني حول الكثير من القضايا وبحسب زوايا مختلفة. وسائل الإعلام أفسدت كل هذا. هل تود أن يذكر عنك التاريخ انك من أدخل الشعر إلى فن الروك؟ لا تشغلني مثل هذه الهواجس. إذا لم أقم أنا بذلك لكان قد قام به شخص آخر في مكاني على أي حال. ما أضفته إلى الروك هو تحديدا موسيقى الفولك. لقد ساعدت على التعريف بموسيقى بسيطة. في الفترة التي بدأت فيها مشواري كانت موسيقى مغمورة. لم يكن الناس يعرفون من يكون ليد بيلي (Lead Belly). ولم يسمعوا قط ب بليند ويلي ماك تيل(Blind Willie Mc tell). ولم يكونوا يتابعون وودي كوثري… كان الأمر كما هو الحال اليوم. موسيقى البوب هي تقريبا في الوضع ذاته منذ بدأت مشواري في الغناء. الموسيقيون المعاصرون لا يستمعون كثيرا إلى وودي كوثري. أنا أستمع إلى مغنيين من أضراب ليدبيلي لأني أعي أنه يروي الحقيقة. مازلت إلى اليوم لا أستمع إلى الموسيقى بالكيفية التي ينصت بها المستمعون العاديون. بالنسبة إليّ الموسيقى ليست مجرد تسلية. أتذكر أول مرة استمعت فيها إلى «أنطولوجيا موسيقى الفولك الأمريكي» لهاري سميت (Harry Smithe)؟ استمعت إليها في وقت مبكر لمّا كان العثور على هذا النمط من الأغاني أمرا في غاية الصعوبة. في ذلك الوقت لم تكن تعرض للبيع. لم تتوفر في المحلات التجارية كانت في المكتبات فقط. استمعت إليها في بيت شخص آخر يكبرني سنا كانت بحوزته. كل روائع موسيقى الفولك موجودة في هذه الأسطوانة. عندما استمعت إليها قلت في قرارة نفسي أن بين يدي أغنيات عديدة علي أن أحفظها. لقد صعقتني اللغة كذلك، كل أغنية من هذه الأغاني كانت شعرا محضا دون أدنى ريب. هذه اللغة المختلفة عن اللغة اليومية المتحدث بها هي التي استهوتني في المقام الأول. هل يمكن أن تحدث أسطوانة مماثلة التأثير ذاته في أيامنا هذه؟ إذا كنت تفهم هذه الأغاني جيدا، وتقدر على عزفها عزفا رائعا يمكنك أن تذهب حينئذ إلى أبعد مدى بوصفك كاتب أغاني. مهما يكن مجال اهتمامك ينبغي أن تبدأ بما هو أساسي إذا تمكنت من التولّج في هذه الأساسيات. الجمهور يرغب في سماعك تعزف على النحو الذي كنت تعزف عليه منذ ثلاثين سنة. ولكنك لم تفعل ذلك أبدا. بالنسبة إليّ الأغاني كائنات حية. لا أضجر أبداً من عزف هذه الأغاني لأنها تنطوي على حقيقة، وحياة قائمة بذاتها. طرق الأداء ليست هي ذاتها في كل حفل غنائي. التسجيلات الأصلية بمثابة نماذج. ليس في مقدوري إعادة إنتاج النماذج نفسها. وليس في إمكاني أن أعزف دائما بالطريقة ذاتها لأن كل أسطوانة تم تسجيلها رفقة عازفين مختلفين وجوقات موسيقية مختلفة، وبتوضيب مختلف… ينبغي أن أقوم باستدعاء مئات الموسيقيين كل مساء لإعادة إنتاج أغانيّ بالطريقة ذاتها! لا أتجول لأمارس الدعاية لشريط غنائي أنا أتجول لأمارس العزف. وأسطواناتي متوفرة في محلات البيع بمثابة ذاكرة لحفلاتي الغنائية. في الواقع أنا لا أعتبر نفسي في جولة فنية: أنشّط عددا من الحفلات الموسيقية كل عام . هذا كل ما في الأمر. هذا ليس جولةً فنية. بإمكاني أن أتوقف عن ذلك في أي لحظة. تارةً تحدثني نفسي بالاستمرار وتارةً أخرى بالتوقف إلى الأبد. لو كان وودي كوثري حيا بيننا هل تتصور أنه كان سيتصرف على هذا النحو: تنشيط حفلات موسيقية باستمرار تقريبا مثل محترف منصات؟ لقد عاش وعزف في عهد مختلف كثيراً عن وقتنا الحالي. لم يكن الإعلام مسلّطاً عليه. ولم يكن معروفاً في العالم بأسره في زمنه كما هو اليوم. إنك تعزف على القيثارة أكثر فأكثر في أسلوب يجمع بين لينك راي (Link Wray) وجانكو رينهارن (Django Reinhardt). (ينفجر ضاحكا) إنه تعريف طريف، ومثير للاهتمام. طيب، فيما يخص طريقتي في العزف على القيثارة لا أدري إن كان ذلك يسمى عزفا على القيثارة. إنه ينتسب إلى مدرسة الفولك من ناحية الإيقاع خاصة. لكن خارج هذا النطاق تقتصر طريقة عزفي على القيثار على مسايرة إيقاع الضارب. إننا نستند إلى البنية الإيقاعية ذاتها. هذا كل ما في الأمر. على أي حال لا أريد أن أشتهر بين الناس كعازف قيثار لأني سأكون غير جدير بهذه السمعة. لا أحد أراد أن يؤدي هذه التوزيعة الإيقاعية بالقيثار التي أتشبث بسماعها. منذ سنوات حاولت أن أضم إليّ هذا الصنف من الموسيقيين، ولكن لا أحد رغب في أن يلتزم معي. ربما لأن ما يقتضيه هذا الدور يعتبر بسيطا جداً، وسهلاً للغاية. هل يعتبر من المهم بالنسبة لك استمالة جيل الشباب؟ لا. الشباب هم من جيل ومن ثقافة تختلف عن ثقافتي. أبنائي الصغار يتابعون فرقاً موسيقية ومغنيين لا أعرفهم أبدا، إنها فرقهم. أنا أعزف لأناس يتفهمون عواطفي وعقليتي. هل تستمع إلى المذياع في أيامنا هذه؟ في أحيان قليلة. أنا شخصيا أحب الاستماع إلى البرامج الإذاعية الكلاسيكية. يبدو أن هذا الصنف من الفقرات الإذاعية يعود قليلا. إنه الصنف ذاته من البرامج الذي كنت أتابع وأنا طفل صغير: برامج من صنف الفرق المسرحية التي تعزف الموسيقى وتروي الحكايات. ذات يوم سئلت عن مغنيك المفضل فأجبت شارلز أزنفور (Charles Aznavour). لقد كنت جاداً. أعشق أزنفور حدث ذلك عندما شاهدت فيلم «أطلق النار على عازف البيانو» لقد أعدت مشاهدته عدة مرات لأني أعجبت بمقطعه الأخير على وجه الخصوص الذي يعرض مشهد الثلج. لقد ذكٌرني ذلك بمربع طفولتي. لقد راقني كثيرا أسلوبه كذلك. هذا بسيط. لقد اندمجت في كل مشاهد الفيلم. شهورا إثر ذلك قدم شارلز أزنفور إلى نيويورك للعزف. فوجدتني في أول الطابور لأحجز تذكرتي. هلا تحدثنا عن تجربة بولجنيز (Bolognaise). لقد كان عرضا رائعا. أظن أني عزفت أغنية Forever Young (يضحك)… ألم يكن مستغربا أن تصافح البابا بينما كنت في سنوات الستينيات رمزا لتيار ضد الثقافة؟ في ذلك العهد، كان البابا شخصا مختلفا دون شك. هل تعتقد أن العقل البشري يمكن أن يستوعب فكرة الماضي والمستقبل؟ أم أن هذه التصورات هي مجرد أوهام يمكن أن تكون مصطنعة؟ هذه مسألة عميقة الأغوار. من بعض النواحي كل ما نعرفه اليوم وُجد منذ عهد دانتي (Dante) وموسى. ثمة أشياء خالدة في هذا العالم. حاضرة دائما تنتمي إلى العالم اللاّمرئي الخفي عن الأعين. نحن لا نشاهد إلا ما يمُكننا رؤيته، ولكننا لا نرى العالم الخفي. أنا لا أفاجأ من أشياء وجدت منذ قرون ماتزال موجودة اليوم. في الأصل الناس دائما هم أنفسهم، أليس كذلك؟ هم يعيشون في أزمنة مختلفة، وفي ثقافات مختلفة لكن المشاعر الإنسانية العميقة لا تتبدل في حقيقتها. في السنة الماضية استعملت (The Times they are A-changin) في ومضة إشهارية لفائدة مصرف كندي. هل هذه مشكلة؟ آه ليس بالنسبة لي ( يضحك)… لا تكمن هنا مشاكلي. أين هي مشاكلك إذن؟ في مكان ما، في الجانب الآخر. * أصدرت المجلة الثقافية الفرنسية Les in Rocks2 خلال شهر نونبر 2016 عددا خاصا عن مغني الروك الأمريكي بوب ديلان بمناسبة منحه جائزة نوبل للأداب، تضمن حوارا كانت قد أجرته معه عام 1997. نقدم فيما يأتي ترجمته الكاملة. ** مترجم من المغرب.