دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسن غنجة: ثريا جبران كانت مهووسة بشخصية "تامغارت" في فيلم "أركانة".
نشر في طنجة الأدبية يوم 07 - 11 - 2020

حسن غنجة مخرج سينمائي وتلفزيوني، راكم تجربة تلفزيونية معتبرة بقناة دوزيم منذ انطلاقتها سنة 1989، حيث كتب وأخرج ووضع تصورات للعديد من الروبورتاجات والأفلام الوثائقية والمسرحيات المصورة والبرامج السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها (وقائع، رجل الساعة، مباشرة معكم، وجه وحدث، صورة…) والأعمال الدرامية (أفلام وسلسلات وسيتكومات)، بالإضافة إلى أفلام سينمائية قصيرة وفيلم روائي طويل بعنوان "أركانة" (2007) وبعض السيناريوهات…
هو خريج المعهد الوطني العالي للسينما ببروكسيل والمعهد الوطني للسمعي البصري بباريس، استفاد من تداريب عدة بالإذاعة والتلفزة البلجيكية وبالقناة التلفزيونية الفرنسية الأولى بباريس ومؤسسات أخرى فرنسية وبلجيكية.
وبمناسبة عرض فيلمه "أركانة" على منصة إلكترونية من طرف المركز السينمائي المغربي، في إطار دورة أفلام الراحلة ثريا جبران (1952- 2020)، أجرينا معه حوارا حول جوانب من هذا الفيلم وحول علاقته كمبدع بالسينما والتلفزيون.
نص الحوار:
أسندت دور تامغارت للممثلة القديرة ثريا جبران التي كانت جد مقنعة بقسمات وجهها ونظراتها وحركاتها وغير ذلك من أدوات التعبير، كيف جاء اختيارك لها؟
أول لقاء لي مع الراحلة ثريا جبران كان سنة 1989 بالمركب الثقافي المعاريف بالدار البيضاء (يحمل حاليا إسم مركب محمد زفزاف)، حيث كانت تعرض به مسرحيتها الشهيرة "بوغابة". وبما أنني كنت ولا زلت من عشاق المسرح، قمت بتغطية تلفزيونية لهذا الحدث الثقافي بمعية الصحافية سمية المغراوي.
قمنا بعرض لقطات من هذه المسرحية في برنامج 18/21، وهو البرنامج الوحيد الذي كان يبث آنذاك بالواضح، لأن القناة الثانية كان بثها يتم بالمرموز، وكنت حينها متشبعا بالمسرح الأوربي ومدمنا على قاعات المسارح ببروكسيل. إلا أنني هذه المرة تواجدت أمام عرض مسرحية مغربية من نوع آخر. رفع الستار، وإذا بالمرحومة تظهر أمامنا شامخة، لقد بهرتني بقوة أدائها وبمهارة تحركاتها فوق الخشبة، بحيث لا زلت أتذكر حتى يومنا هذا حركاتها وطريقة أدائها وصوتها القوي الذي زاد من حضورها على الخشبة.
مع مرور الأيام أصبحنا أصدقاء واشتغلنا سويا في مجموعة من الأعمال الفنية، وكنت أتردد على بيتها من حين لآخر فوجدت فيها الإنسانة الطيبة المعطاء، بحيث كان كل ما لديها ملك للجميع وكان بيتها ملتقى للفنانين والمثقفين و قبل أن تصل إلى شقتها كانت رائحة القهوة تستقبلك في باب العمارة التي كانت تقطن بها.
قبل إسناد دور البطولة لها في فيلمي السينمائي "أركانة"، سبق لها أن شخصت دور البطولة في فيلمي التلفزيوني "الفراشة السوداء". كما اشتغلنا سويا بعد ذلك في إنجاز مسلسلين للقناة الثانية هما: "المعنى عليك" و"لاباس والو باس". لقد مكنني تعاملي هذا معها من أن أقترب منها أكثر فأكثر، الشيء الذي جعلني ألمس فيها حبها الكبير للفنانين والمسرحيين منهم بالخصوص بحيث شارك معها في هذين العملين جل الممثلين والممثلات. لم تقتصر ثريا على مشاركة ثلاثة أو أربعة ممثلين حتى يمكنها التوفير من ميزانية هذين العملين التلفزيونيين، بل كان همها الأساسي هو مشاركة أكبر عدد منهم. لقد كنت شاهدا على سخائها وتعاملها الطيب مع جل الفنانين.
بعد هذين العملين أخرجت للتلفزيون مسرحيتها الرائعة: "ياك غير أنا" حيث تم تصويرها مباشرة من مسرح محمد الخامس بالرباط.
بناء على ما سبق وأشياء أخرى تم اختياري لها لتشخيص دور "تامغارت" في فيلمي السينمائي"أركانة"، وكان اختيارا موفقا، لأن المخرج لا يتعامل مع الممثل كفنان فحسب بل يتعامل معه قبل كل شيء بناء على صدقه في الأداء وعمقه الإنساني أيضا.
أحداث الفيلم تجري بمنطقة قروية وبفضاءات طبيعية جميلة نواحي تارودانت، هل لشجرة أركانة التي يحمل الفيلم إسمها كعنوان دور في اختيار هذه الفضاءات؟ ولماذا بالضبط هذا العنوان؟
أنا عاشق للطبيعة، ولست من محبيها فحسب بل من الناس الذين يدافعون عنها.. وكسائر المغاربة أنا أعشق بلادي المغرب وأحبها بتمعن خصوصا وأن الله حبانا بفضاءات طبيعية متنوعة.. أنظر مثلا إلى شواطئنا الساحرة الممتدة إلى الصحراء، أنظر إلى هذه الأرض المعطاء بلا حدود وتضاريسها المتنوعة وجبالها العالية وتربتها الخصبة ومناخها المعتدل طوال السنة وأوديتها الكثيرة التي تنبع منها الحياة.. المغرب أرض الخير بنباتاته المتنوعة وأشجاره الباسقة المثمرة و غير المثمرة.. هل تعلم أن المغرب كان منذ الثمانين سنة الماضية يتوفر على أكبر غابة في إفريقيا؟ وأن الماء الذي نستهلكه اليوم كان مخبئا منذ ملايين السنين؟ فمن حافظ على هذا الماء؟ إنها الغابة بأشجارها ورجالها الأوفياء.
المغرب ولله الحمد يزخر بأنواع فريدة من الأشجار، من ضمنها شجرة "الأركان"، وهذه الشجرة الطيبة المباركة أعتبرها بمثابة رمز للمغرب، ولهذا كان اختيار المكان ضروريا لهذا النوع من الأفلام.. وما دام عنوان الفيلم يحمل إسم هذه الشجرة الشامخة، كان من اللازم أن نقترب من الحقيقة وأن يحمل الفضاء في طياته العديد من الرموز من بينها شجرة أركان وكل ما يتعلق بها.
كنت أثناء الإعداد لتصوير اللقطات والمشاهد أجلس تحت شجرة الأركان ولاحظت أن التراب لم يعد يغطي جذعها ورغم ذلك ظلت واقفة بكل كبرياء تصارع الزمان بجذورها المنغرسة داخل الصخر.. إنها شجرة معمّرة، تحدت الصعوبات وقهرت الزمان وبقيت شامخة حتى اليوم لتحكي لنا عن ماضي زاخر بالبطولات.. إنها المغرب بتاريخه وحضارته الممتدة عبر العصور.. إنه فيلم "أركانة".
من هنا ولهذه الأسباب أردت أن أتحدث عن بلدي بعشق وحب وأحكي للمشاهد، عبر هذه الشجرة المباركة، عن عزيمة أجدادنا وكفاحهم ضد الاستبداد والظلم والاستعمار، ولأذكره بما تزخر به بلدنا من نعم علينا الحفاظ عليها.
لم تستسلم تامغارت لجبروت حمو واستغلاله لخيرات المنطقة وسكانها فقتلته ببندقية ظلت تحتفظ بها منذ استشهاد زوجها أمغار وهو يحارب المستعمر الفرنسي، وبذلك خلصت سكان القرية من هذا المستبد الذي يعوق تنميتها، هل في هذا احتفاء بدور المرأة في مناهضة الظلم والاستغلال، خصوصا وأن الراحلة فاطمة شبشوب هي كاتبة السيناريو بمشاركتكم؟
المرأة نصف المجتمع، هي الأم والأخت والزوجة والإبنة.. إذن كان من الإنصاف لهذه المرأة أن نشاركها في كل شيء، فعندما وضعت الخطوط العريضة للسيناريو لاحظت بأن شخصية تامغارت ستأخذ حيزا كبيرا في مشروع هذا الفيلم، وبما أنني أومن بالاختصاص وبالرأي الآخر كان من البديهي أن يكون العنصر النسوي طرفا في الكتابة.
قبل هذا المشروع السينمائي سبق لي أن تعرفت على المرحومة فاطمة شبشوب عندما اقترحت عليها تصوير إحدى مسرحياتها لفائدة القناة الثانية، حينها كنت مسؤولا على خلية الدراما بهذه القناة البيضاوية.. رحبت فاطمة بالفكرة شريطة أن أكون أنا من يقوم بإخراجها التلفزيوني. وجدت في فاطمة آنذاك المرأة الثائرة والهادئة والمثقفة فاقترحت عليها فكرة الفيلم وبدأنا في الاشتغال. لم يكن من السهل ولا من الصعب الاشتغال مع امرأة ذات شخصية قوية، إلا أنني كنت متيقنا من أن كل هذا سيكون في صالح الفيلم. وفعلا لم يخب ظني إذ كانت فاطمة رحمها الله تدافع عن المرأة بكل قوة وعزيمة وكان المنطق حاضرا ليفصل بيننا في حالة الاختلاف.. انتهت مرحلة كتابة السيناريو وكان كل واحد منا راض على ما أنجزناه معا.. اتصلت بالمرحومة ثريا جبران وعرضت عليها السيناريو.. أمهلتني يومين قبل أن ترد علي، وعندما اتصلت بي لاحظت من خلال كلامها بأنها وجدت نفسها في شخصية تامغارت، فلم أتردد ولو لحظة واحدة في منحها هذا الدور.. بل مما زاد إعجابي بها أثناء التصوير هو الأشياء التي أضافتها من عندياتها كالوشم الذي في يديها والحلي القديمة التي كانت تتزين بها، وهي أشياء ربما لم ينتبه إليها المشاهد.
وحتى أكون صريحا في إجابتي عن سؤالك أقول أن المرأة في نظري تناهض الظلم والاستبداد، لكن بطريقتها الخاصة. إنها تعمل في صمت وبهدوء وغالبا ما تكون النتيجة أحسن بكثير مما لو تعاملنا بطريقة أخرى مع هذه الجائحة.
لقد لا حظت هذا مرارا أثناء زياراتي المتتالية لمنطقة إميلشيل بالأطلس المتوسط، حيث شاهدت هناك امرأة مغربية من طينة أخرى، هي المرأة الصبور التي استطاعت بذكائها ومهارتها الحرفية وتفانيها في خدمة أسرتها أن تفرض وجودها داخل المجتمع وأن تثور ضد الظلم بكل أنواعه وأشكاله، وذلك لأنها استطاعت بمهارتها أن تكون مستقلة ماديا ومعنويا عن كل شيء من شأنه أن يكبل يديها ويجعلها عاجزة عن قول كلمة الحق.
ثلة من المشاركين في فيلم "أركانة" يتوسطهم مخرج الفيلم.
لاحظت تفاوتا في أداء الممثلين، فبعضهم كان تشخيصه تلقائيا ومقنعا مثل فاطمة تحيحيت ومحمد مروازي وأسماء الحضرمي وعبد الرحيم المنياري والراحلون ثريا جبران وعمر شنبوط وعبد القادر لطفي، والبعض الآخر كان أداؤهم إما نمطيا (حالة بنعيسى الجيراري) أو لم تكن الأدوار المسندة إليهم مناسبة لشكلهم وطريقة تشخيصهم، كيف تفسرون هذا التفاوت؟
يتكون المجتمع من أشخاص لكل واحد منهم شخصية معينة بمحاسنها وسلبياتها.. ما أردت قوله هنا هو أن الإنسان يمكنه أن يغير الكثير من الأشياء في حياته ومساره المهني وغيره، فالعمل بتفاني وحب وأخذ الأمور بجدية غالبا ما يعطي النتيجة المطلوبة، وعكس ذلك يؤدي إلى الفشل وعدم تحقيق الرقي والازدهار.. هناك من يكد ويجتهد ليصل إلى مبتغاه، وهناك من لا يبالي ويترك الأمور تسير سيرها العادي..
في فيلم "أركانة" كانت الأدوار متنوعة بتنوع الشخصيات، وهذا مقصود لكي نسلط الضوء على عينة كبيرة من مجتمعنا، فشخصية تامغارت مثلا لها وزنها في القرية واختيارها كان من المفروض أن يكون اختيارا سليما لأنها تعتبر ركيزة الفيلم، لذلك لم يكن اختيار المرحومة ثريا جبران لمجرد كونها إسما معروفا بل لكونها ممثلة مقتدرة تجر وراءها تاريخا زاخرا بالعطاءات والتفاني في العمل. فاختيار الممثل الرمز يعطي الشرعية للفيلم ويجعل مشاركة باقي الممثلين مشاركة مبنية على الثقة والتفاني.
عندما كنت أدرس السينما تعرفت على شخص بلجيكي كان عمره آنذاك 40 سنة، كان حينها يدرس الطب وهو حاصل على دكتوراه في الفيزياء، قال لي ذات يوم وبالحرف: ليس هناك معجزة للنجاح في الحياة إلا العمل. وهذا الأخير نراه هنا جليا في دور تامغارت.
لقد كانت ثريا رحمها الله مهووسة بدورها، حيث اشتغلت على شخصية تامغارت وأكملت تركيبتها النفسية والاجتماعية باجتهادها الخاص. ولكي يكون التوازن سليما كان من الضروري إضافة دور آخر في مستوى شخصية تامغارت، من هنا جاء دور حمو الذي شخصه المرحوم حميدو بن مسعود. فهذا الاختيار لم يكن عفويا بل كان مدروسا وذلك لأن حميدو يعتبر من الممثلين الكبار الذين اشتغلوا في أوروبا وأمريكا وبإمكانه أن يرفع من قيمة الفيلم، بحكم تجربته الطويلة، ويخلق في نفس الوقت توازنا جيدا بين شخصية المستبد حمو والمناضلة تامغارت.
أما الأدوار الأخرى فهي تختلف باختلاف الشخصيات، إذ لكل شخصية خصوصيتها. فيونس ميكري، على سبيل المثال، شخص دور الثائر الذي لم يستطع مواجهة الواقع ففضل الهروب منه، أما محمود ميكري فتقمص دور شخصية بسيطة ومسالمة غادرت المدينة وفضلت العيش في القرية للتمتع بسكونها ولهذا لم يتطلب أداؤها حوارا قويا أو تعاملا خاصا مع الكاميرا. لكل دور من الأدوار، في نظري، معنى خاص. فحسن فلان وبنعيسى الجيراري قاما بدورين أساسيين جدا لأنهما كانا يمثلان شريحة من المجتمع تعيش على الفتات وتمارس التملق، لهذا كان من البديهي أن تتسم شخصيتهما في الفيلم بالسذاجة وأن يتعاملان بعنف وصلابة مع الآخرين وبتفان وخوف مع حمو.
وأخيرا يبقى المجهود الفردي للممثل أكبر بكثير من إدارة المخرج له، لأن الممثل ليس من المفروض عليه أن يتكلم مباشرة بعد إشارة المخرج، لكن عليه أن يشخص دوره أولا بصمت، وهذا الصمت إذا كان معبرا وصادقا فمعنى هذا أن وراءه مجهود جبار وتفاني في العمل سيكون لهما تأثير إيجابي على المتلقي.
تقنيا أمتعنا الفيلم بلقطات جميلة كانت وراءها كاميرا مدير التصوير لوكا لوباريني، كما استمتعنا بمقاطع موسيقية من وضع الفنان يونس ميكري، الذي حضر أيضا في الفيلم كممثل رفقة أخيه محمود ميكري، وبأغاني أمازيغية بصوت الفنانة فاطمة تيحيحيت وغيرها، كيف تم اختيار هذه الأغاني والمقاطع الموسيقية؟
الموسيقى أداة تكميلية، فإذا كانت الصورة المتحركة بلقطاتها المختلفة الأنواع والأحجام وبجمالياتها المتنوعة تشكل لغة متكاملة تمكننا من فهم مضامين الأفلام السينمائية، فالموسيقى تأتي في الأخير لتحسين شروط التلقي.
إذن الموسيقى هي أداة من أدوات التعبير السينمائي، ولهذا نجد معظم كتاب السيناريو يدمجون كيفية استعمالها في نصوصهم، بحيث نطلع بوضوح على الأحداث التي يتضمنها المشهد إلى جانب النوع أو الأسلوب الموسيقي الذي يمكن توظيفه. فهذه التوضيحات تساعد المخرج في طريقة تعامله مع كل مشهد وفي نفس الوقت تعطينا فكرة عن تسلسل لقطاته التي نقوم بتصويرها.
أما عن فيلم" أركانة " فقد لعبت مشاركة الفنان الموسيقي يونس ميكري فيه دورا إيجابيا، بحيث شكلت الحفلات والأعراس التي احتفت بقدومنا إلى المنطقة فرصة إلهام لنا جميعا، إذ قام الصديق يونس بتسجيل مجموعة من المقاطع الموسيقية بالموازاة مع تصوير الفيلم.
إن حضور الفنان يونس ميكري أثناء تصوير لقطات ومشاهد الفيلم ونقاشنا الطويل حول كيفية استعمال هذا النوع من الموسيقى ساهما في إغناء مخيلة هذا الفنان المبدع، الشيء الذي أعطانا موسيقى مغربية تزخر بالشاعرية والإحساس. وإلى جانب هذا ساهمت الفنانة الأمازيغية فاطمة تيحيحيت، وهي إبنة المنطقة، بغناء من نوع خاص نذكر منه الأغاني الشعبية حبيسة جدران البيوت. وبهذا أضاف صوتها بصمة خاصة لبعض المشاهد وتحقق انسجام بين الغناء والموسيقى والديكورات داخل الفيلم.
الموسيقى في نظري هي لصيقة بكتابة السيناريو، فلا يمكن لنا أن نكتب سيناريو دون أن نفكر في استعمال أدوات اللغة السينمائية كاملة.
شاركت إبنتك ماجدولين وإبنك ياسر، وهما طفلان، في تشخيص دورين في الفيلم، وكان أداؤهما أكثر تلقائية من بعض الممثلين المحترفين، هل إشراكهما في التشخيص هو نوع من التوثيق لهما بالصورة والصوت أم لهما ميولات فنية؟
لقد ذكرت من قبل بأنني أومن بالاختصاص ولا أتطفل على المهن رغم أنني وبكل تواضع أتقن بعضها جيدا، لهذا تراني في بعض الأحيان قاسيا في قراراتي وخاصة أثناء التصوير.
لم يسبق لي يوما أن منحت ممثلا دورا لا يستحقه، فقط لأنه تربطني به صداقة أو غاية أخرى. فالكاستينغ هو نصف نجاح العمل وهو فرصة فريدة لاختيار أجود الممثلين والممثلات، وذلك لأن المغامرة مع ممثلين غير أكفاء هي بمثابة انتحار وفشل مسبق للمشروع السينمائي. لهذا، فأنا حريص على أن يكون تعاملي مع ممثلين محترفين.
لم يكن هذا هو أول ظهور لماجدولين وياسر على الشاشة، لقد سبق لهما أن شاركا في مجموعة من أفلامي التلفزيونية وعمرهما لا يتجاوز ثلاث سنوات، وفي سن السابعة أصبحا متمكنان من بعض الأدوات التي تخول لهما تشخيص بعض الأدوار الثانوية في أعمال درامية، بحيث أصبحا يعرفان ما معنى الكاميرات المتعددة الزوايا في تصوير السيتكوم، وما هي المونو كاميرا أثناء تصوير فيلم، وكيفية التعامل مع زاوية واحدة أو زوايا متعددة، وأين توجد زوايا الإضاءة والممر الذي يجب أن يسلكانه حتى تكون الصورة واضحة، وأين يقفان حتي يمكن لملتقط الصوت (البرشمان) أن يلتقط صوتهما بسهولة… وإلى جانب هذا فهما يعرفان جيدا ما معنى "راكور" الملابس أو الماكياج… إلى غير ذلك من ألأمور التقنية.
لم يكن اختياري لهما عبثا، مرة أخرى، بل كان اختيارا صائبا، لأنني كنت واثقا من كونهما سيؤديان دوريهما بكل تفان، بحيث لا أرى فيهما أبنائي. لم أقم بإقحامهما في الفيلم بشكل مجاني، بل كنت أشد قسوة في تعاملي معهما كمخرج لأنهما أبنائي، زيادة على هذا لم يكن بالإمكان التعامل مع أطفال آخرين لسنا متيقنين من مستوى أدائهم رغم إجراء الكاستينغ، ففي أغلب الأحيان نجد أنفسنا أمام مفاجآت غير سارة تجعلنا نادمين على ما اتخذناه من قرار.
ليس بالضرورة أن يكون ابن البط عوام، لكن المخرج عليه أن يكون صادقا مع نفسه ومتيقنا من اختياره.
اشتغلت في التلفزيون لمدة ليست بالقصيرة قبل إقدامك على إخراج "أركانة"، وهو أول فيلم سينمائي روائي طويل لك، ما هي دواعي هذا الإنتقال من التلفزيون إلى السينما؟
الكثيرون من الناس لا يعرفون بأنني انتقلت من السينما إلى التلفزيون وليس العكس، حيث أن دراستي الأكاديمية كانت سينمائية في البداية، فأنا خريج المدرسة العليا للسينما ببروكسيل، عاصمة بلجيكا.
أما التحاقي بالقناة الثانية (2M) غداة انطلاقتها سنة 1989 فقد أضاف الكثير إلى تجربتي، بحيث انتقلت من العمل بالمونو كاميرا (الكاميرا الواحدة) إلى العمل بمجموعة من الكاميرات ومن زوايا مختلفة في نفس الوقت. وهذه التقنية الجديدة مخالفة لما تعودت عليه في السينما. فالبرامج التلفزيونية المباشرة أو المسجلة لها طرق إخراجية مغايرة، وذلك لأن السينما تحتاج إلى وقت وتأمل أكثر في حين أن العبارة المتداولة في التلفزيون هي:"لا وقت للضياع"، بسبب أن التلفزيون هو أكبر مستهلك للصور، لدى علينا أن ننتج في وقت وجيز أكبر عدد من الصور.
المخرج، عند إنجاز البرامج التلفزيونية، هو الذي يمرر الصور أو اللقطات التي سيشاهدها المتلقي على شاشة التلفزيون، لهذا ينبغي أن تكون لديه القدرة اللازمة على استيعاب مجموعة من اللقطات الآتية من مختلف الكاميرات وتمريرها بسرعة فائقة إلى المتلقي. فاختيار الصور أو اللقطات واحدة تلو الأخرى لم يكن عبثيا أبدا وذلك لأن هذا الترتيب يحمل في طياته لغة سينمائية يتمكن المتلقي من فك شفراتها. لقد جعلتني هذه التقنيات الجديدة أفكر جيدا، خصوصا وأني لاحظت بأن زوايا الكاميرات في برامجنا تكاد تكون واحدة، وبأن كل اللقطات تتشابه فيما بينها وليس لها تأثير سيميولوجي على اللغة السينمائية. وعليه، استغرق تفكيري في الأمر عدة أسابيع إلى أن اختمرت في ذهني فكرة إدخال بعض التعديلات من بينها إبعاد زوايا الكاميرات ومنح كل كاميرا خصوصيتها، هذا زيادة على إدخال تقنيات الكادراج السينمائي في إنجاز هذه البرامج.
لقد كانت القناة الثانية في بدايتها آنذاك، وكان الطموح كبيرا، الشيء الذي فرض علي العودة إلى صفوف الدراسة لكي أتمكن من فهم خصوصيات المتلقي لبرامج الشاشة الصغيرة وتملك الأدوات اللازمة للقيام بالتغييرات المشار إليها أعلاه. وفعلا، التحقت بالمعهد الوطني للسمعي البصري بباريس وحصلت على دبلوم في الإخراج التلفزي.
كل هذه الأمور والتجارب المتواضعة جعلتني مؤهلا لإدخال مجموعة من التقنيات السيميولوجية على البرامج المباشرة التي كنت أقوم بإخراجها، وهي اليوم في ملك الجميع، وبعودة إلى الوراء أي إلى لحظة بداية القناة الثانية سنلاحظ هذا التغيير الجذري الذي حصل، وسنرى كذلك بأن البرامج الحوارية التي كنت أضطلع بإخراجها فيها لمسة سينمائية تتمثل في وجود لامورس والكاميرا المتحركة وغنى اللقطات وديناميكيتها وأسلوب التسلسل الدرامي… لم يكن إذن إخراجي لتلك البرامج تلفزيا بل سينمائيا، ولعل هذا الأسلوب في التعامل مع زوايا التصوير ومع الحدث أو الموضوع المناقش في البرامج المباشرة وغيرها هو الذي دفعني إلى التفكير جيدا في إدخال الدراما إلى القناة الثانية.
ورغم قلة الإمكانيات في ذلك الوقت استطعنا أن ننجز أول عمل درامي وهو برنامج "وقائع"، الذي يعتبر مزيجا بين الدراما والوثائقي، وحسب علمي لم يكن هناك برنامج مماثل له في القنوات التليفزيونية الغربية، بل كان هناك برنامج قضائي يشبهه عنوانه "أدخلوا المتهم" كان يبث على القناة الفرنسية "تي في 1″، وهو برنامج يرتكز على الحكي فقط من تنشيط الصحفي الكبير "بيير بالمار". إلا أن الجديد في برنامجنا هذا يتمثل في التركيز على التشخيص وإعادة بناء الأحداث. لقد لقي برنامج "وقائع" إقبالا كبيرا لدى الجمهور، لأنه كان شيقا ومثيرا، ومن نتائج هذا النجاح اتصال الصديقين عبد الإله الحمدوشي (الروائي والسيناريست المعروف) والراحل ميلود حمدوشي (الملقب بكولومبو) هاتفيا بي، حيث تبادلنا أطراف الحديث حول البرنامج وفي النهاية اقترحا علي الدخول معهما في مشروع سلسلة من الأفلام البوليسية. رحبت بالفكرة، بحكم أن الراحل ميلود كاتب وضابط شرطة معروف بتفانيه في عمله وحاصل على شهادة دكتوراه في علم الإجرام، وبحكم أن عبد الإله في رصيده مجموعة من الروايات البوليسية وغيرها. تمخض عن اللقاء بيننا الإشتغال على رواية بوليسية أثمر فيما بعد إنجاز أول فيلم بوليسي مغربي بعنوان "الحوت الأعمى"، الذي يعد أول فيلم بوليسي بمعايير دولية في العالم العربي، حسب الكاتب الأمريكي الدكتور جوناتن سمولن.
بعد كل هذه التجارب التلفزيونية المتواضعة كان لابد من العودة إلى السينما، مجال دراستي الأكاديمية الأولى، لأن حنيني إليها كان حاضرا بقوة في وجداني.

أجرى الحوار وقدم له: أحمد سيجلماسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.