تعدّ تجربة الفنان التشكيلي عبد الله لغزار من التجارب الأصيلة في تاريخ التشكيل بالمغرب على اعتبار نهله من حقول معرفية متنوعة أولها الشعر. عبد الله لغزار فنان شاب ينحدر من مدينة بني ملال. بدأ مشواره الفني أواخر ثمانينيات القرن الماضي.شارك في معارض كثيرة، جماعية وفردية، بلور خلالها وعيا تشكيليا خاصّا به سمته المميزة التداخل بين الأشكال والحروف. أن تكون رساما شاعرا يعني أن الخطوط تحدد مسبقا معالم الألوان. يعرض الفناّن آخر أعماله بالمركب الثقافي “الأشجار العالية ” ببني ملال. هذا المعرض الذي اختار له صاحبه كعنوان: “لوحات الحلم” سيكون موضوع هذا المقال وسيتطرّق أساسا لعلاقة الكتابة بالصورة. يتقاسم الحرف عند لغزار حيز اللوحة مع الأشكال والأجسام الأخرى في انسجام تام. هكذا تنتظم الحروف في مصفوفات حينا، وتخترق دوائر الأجسام أحيانا أخرى وكأنها مسودّات كاتب أو تعاليق ناقد على الصور. ثنائية المقدس والمدنس في اللوحات تعبر اللوحات بشكل لافت ثنائية المقدس والمدنس، فمن الوهلة الأولى تلحظ تحرّش الفنان بالمقدس بداية باستعمال الألواح الخشبية كحيز للوحة عبر تصوير أجساد عارية في رقعة تخصّص بالأساس للكتابة. لا يمكن للرسم على الألواح أن يترك المتلقي محايدا خصوصا إذا كان مشفوعا بالكتابة في ثقافة يكون فيها المكتوب نصّا وأحيانا قضاء وقدرا. تكتسي الكتابة قدسيتها من اللوح أيضا “اللوح المحفوظ” ويذكي هاته القداسة اختيار الحرف المغربي لكتابة طلاسم لا يفهمها إلا العارفون بخبايا الإسطار. حروف منتظمة من حيث الشّكل تحمل معانيها فيها ، دون أن تحتاج إلى تشفير. تجتاح الحروف فضاء اللوحات بطرق شتى وكأنها تحكي تاريخ الإنسانية في عريها الأول وكأن الفنان يكتب تاريخا بديلا للإنسان مادته الأولى الحروف والأجساد العارية. يحضر الجسد “المدنس” ككتل متراصة حينا، وأحيانا يلجأ الفنان إلى تقنية التبئير فيعزل الجسد عن باقي مكونات اللوحة ليسلط عليه ما يكفي من الضوء. لا يمكن للجسد/ الجثة إلا أن يرمز للموت. يتجاذب الموت، كتيمة فلسفية ووجودية، فضاء الألواح٬ إذ يتطرّق الفنّان للموت بأشكال مختلفة تتنازعها الاحتفالية والتراجيديا. علاقة حميمية تلك التي تربط الإنسان بالأرض. هكذا تبدو شعرية الوعاء في لوحات لغزار جليّة واضحة في كل الأعمال. يمكن تقسيم الاشتغال على الجسد العاري في التشكيل إلى نوعين.. الأول ذاك الذي يحتفي بالجسد كجغرافيا للجمال، أو يستعرض الجسد كموطن للألم والمعاناة. في كلتا الحالتين، يكون الجسد وعاء.. بعيدا عن هذا الوعاء لا يمكن لأي تاريخ أن يكتب.. الجسد كتمظهر للبذح، كما هو الحال في جماليات العري الإغريقية أو عند المستشرقين، خصوصا إينغر، أو كرمز لمعاناة الإنسان بصفة عامة.. وهنا نجد تصادي لافت بين أجساد لغزار والكتل الإنسانية للفنان التشكيلي ماحي بنبين. يستنفر استعمال الجسد الحواس، ويخلق هواجس وجودية كما هو الحال عند لغزار، أي الجسد كموطن للذة أو كوعاء للألم. في كل اللوحات توسم الأجساد بالألم والبتر، أو توجد ملفوفة بضمادات على شكل مومياء بفارق بسيط أن الضمادات طرية عند لغزار، أي أن الألم حديث الوقوع. أجساد متعددة وقبر مفرد.. حقيقة تحتمل قراءتين: مصير الإنسانية برمتها هو القبر، أو إحالة على المقابر الجماعية في سياقها التاريخي المعروف، وهو سنوات الرصاص. هنا تكون اللوحات جزء من ذاكرة جماعية وبالتالي صرخة ضد النسيان. الألوان في لوحات الحلم تتدرج الألوان عند الفنان بين لون الصلصال كخلفية وجميع تدرجات ألوان الأرض بالإضافة إلى الرمادي. الصلصال وحده يستحق قراءة لما يحمله من إحالات على أصل الإنسان في الشرائع السماوية. ينسجم هذا الصلصال مع باقي ألوان التراب لتكون بذلك الأرض هي الملاذ الأول والأخير للإنسان. لكن، أحيانا يخترق الأحمر فضاء اللوحة على شكل تفاحة بكل الدلالات الدينية المعروفة للخطيئة الأولى، أو على شكل زهر “شقائق النعمان” ليكون بذلك الأحمر رمزا للثورة. بذلك يفتح لغزار قوسا يختصر فيه تاريخ الإنسانية من البداية إلى الوقت الراهن، وكأن الطلاسم سجلّ الإنسانية مدونا في اللوح، يحكي نكباتها منذ البدء. منذ غواية الشيطان والسقوط الأول، اللعنة تحملها الأجساد العارية المبتورة كقدر، والمعاناة ترتسم في كل ثناياها، رغم ذلك يرنو الفنان أحيانا إلى زرع بذور الأمل حين تورق في الأجساد المبتورة الأغصان كناية على حياة أخرى بعد الموت، كطرح ديني، أو على مقاومة الإنسان المستمرة في الزمان رغم كل أشكال القمع والتقتيل. يحيل الرمادي على الموت وبذلك يكون له بعدا تراجيديا. يستطرد الفنان مفسرا رمزية الرمادي فيقول: الرمادي لون فضاء موبوء الصمت الرمادي ساكن في أعماق الخوف يذكّر أن لا أبعاد للنظر إلا بما شاء نفر من البشر الجسد رمادي، لوح صامت، عاجلا أم آجلا سيلفظ حروفه. النبش في الذاكرة. من الواضح أن الفنان عبد الله لغزار عمد إلى النبش في الذاكرة منددا بكل الانتهاكات التي عرفها التاريخ القريب للبلد. لا يخفى على أحد أن الكثير من المعتقلين وقع عليهم فعل التعذيب الذي وصل أحيانا حدّ الموت. من هنا يمكننا اعتبار لغزار فنانا ملتزما بقضايا وطنه، وأعماله صرخة ضدّ النسيان. لكن هاته المقاربة لا تعدو أن تكون قراءة سياقية للوحات مرتبطة بالزمان والمكان. مما يدفعنا إلى طرح سؤال يفرض نفسه بقوة على كل متلقي للأعمال التشكيلية. والسؤال هو: هل وجود سياق خاص أمر ضروري لقراءة اللوحة؟ أليست لغة الألوان تتعدى الثقافات وبالتالي وجب فك شفرتها انطلاقا من اللوحة نفسها دون ارتباط بظروف وملابسات الإنتاج الفني؟ في كتاب “نقد الحكم” يُعرف “إيمانويل كانط” الجميل ك”غرض جميل متنزه عن أي هدف” ويجادل بأن “الجميل” هو ذلك الذي يُسعد من دون أن يقوم بوظيفة محددة، أو يروق لاهتمام ما، أو يُرضي رغبات حسية رئيسية. إن تقدير الجميل يتطلب نظرة جمالية مُنقاة من مثل هذه الغرائز والأغراض الشخصية”. من هنا يمكن القول بأن الالتزام في الفن يتعدّى المضمون إلى الشكل. أي أنه التزام جمالي أساسا. انطلاقا مما سبق يمكننا قراءة اللوحات في سياق إنساني أوسع، أي كتنديد بكل أشكال القمع التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان في الأرض. موضوعة السقوط أو العقاب تأخذ بعدين في اللوحات. البعد الأول المرتبط بخروج آدم من الجنة وعقابه بإنزاله للأرض، الذي يزكيه رمز التفاحة. والبعد الثاني الذي هو العقاب الأرضي أي عقاب الإنسان للإنسان، وهنا نستحضر النظرة التحقيرية للعوالم السفلية كما هوا لحال عند أفلاطون. العقاب الإلهي والعقاب الإنساني وتستمر ملحمة الموت ويستمر التنكيل بالجسد فالخطوط حادّة والموتيفات الهندسية تأخذ شكل تعرجات كتلك الموجودة في البنايات القديمة، مثلثات صغيرة وزخرف زاهد، حدّ التقشف، أجساد خارج التقسيم (ذكر/أنثى). عبد الله لغزار يشتغل على الجسد كخامة إنسانية دون تضاريس أو جغرافيا واضحة. جسد في “الدرجة الصفر” من التشكيل. وتبقى الأرض موطن الأسرار والآلام، تستبطن في أغوارها ما لا حصر له من الجرائم البشعة للإنسان ضد الإنسان. الفنان لا يقتصر على تعرية الجسد الإنساني، بل يتعدّاه إلى تعرية جسد الأرض نفسها في عملية سبر لأغوارها واستكناه لمكنوناتها. الأرض تتكلم في أعمال لغزار. تفضح القتلة وتندد بفداحة الجريمة الإنسانية. الأرض تحتفظ بالدم مختلطا بالتراب في طبقاتها السفلى. الأرض تبرّئ نفسها من كل الجرائم المقترفة، فلا شيء يبرّر كل هاته الهمجية الإنسانية. يقول عبدالله لغزار معلّقا على تجربته الفنية: ما معنى أن تكون رساما في الخلاء ثم أنت لست ريحا أو رعدا أو سيلا من السماء! أرسم كما أمشي، وأمشي كما أ رسم نحو نهاية لا أتحكّم بها. الحلم وحده يتمثلها، لكن الواقع يسير بما لا يشتهي الحلم، وتبقى اللوحة مفتوحة على كل الاحتمالات. مفتوحة على إمكانية تلمس الغامض، وتنظيم الحواس التي تستفهم حوله، بما يضمن الوصول إلى عين الطمأنينة. العين التي قد تمكّن من أنسنة الندوب والجراح وكدمات الزمن. الريح ترسم الخلاء على صورتها والإنسان يرسم عريه فقط يلحم بياضات الذاكرة. كخلاصة، يمكننا القول بأن اللوحات تطرح هواجس الفنان/الشاعر حروفا وأشكالا وكأن الحرف لا يكفي والشكل وحده لا يفي. وكأن الأعمال تنشد استنفادا للممكنات التي تمنحها اللغة والتعبير التشكيلي بغية سرد تاريخ، والنبش في الذاكرة. البحث في الجسد /الجثة هو بحث في المصير الإنساني بشكل عام هو طرح سؤال النهايات التي تقول فيها الأرض كلمتها الأخيرة على اعتبارها أما للإنسان في حياته وحاضنة لجثته بعد موته. أمينة الصيباري