لا شك أن التغيير الحقيقي لأي مجتمع يبدأ من تطوير العقل من خلال تغيير طرق التفكير للدخول في عصر نهضة جديدة والنهضة الحقيقية هي نهضة تطوير العقل نحو التفكير العلمي والأخذ بأخلاقيات التقدم ومسألة تطوير العقل مسألة بالغة الأهمية في بناء المجتمع وتحقيق التنمية المستدامة علي أسس من الجدية والعمق والإنتماء للوطن والرقي بمنظومة القيم واحترام القانون وذلك يتطلب تغيير طريقة التفكير نحو أنفسنا والعالم الخارجي وبلدنا. وذلك من خلال أن نميز بين عواطفنا ورغباتنا ، كما يجب أن نحكم علي الأشخاص بما يحققونه من نتائج علي أرض الواقع. وإعمال العقل على مستوى الفرد هو منبع ثقافته ونمو قدراته وإنتاجه. والفكر دائماً ما يرتبط بالمستقبل حتى لو كان فى أمور الحاضر. ويمثل توقف إعمال العقل ارتدادا حضاريا وتخلفا والتاريخ شاهد على كل ذلك. . كما يمثل توقف إعمال العقل كلياً أو جزئياً عرقله لتقدم هذه المجتمعات. والبحث العلمى هو أهم صور الفكر وإعمال العقل لأنه عمل موجه ببرامج محددة تفتح أبواب الإستكشاف على مصراعيها. وبدون البحث العلمى يستحيل تحقيق قوة الدفع اللازمة لتقدم وحضارة الشعوب وتنمية اقتصادها. وللفكر ذاته مقومات تتفاعل مع بعضها بعضا فلا إعمال للعقل الجمعى للشعوب بدون ثقافة تضمن لها الاستمرارية والنمو. وبهذه الاستمرارية تتأصل أيضاً ثقافة الفكر لهذه الشعوب والإبتكارات والاختراعات هى نواتج البحث العلمى القائم على إعمال العقل فتتجدد وتتطور الوسائل الحياتية اللازمة لجودة الحياة و التى نراها كل يوم من الآخرين، وبما يؤكد أن مجال عمل العقل واسع وعميق ودائم. ولأن الإنسان فى حاجة دائمة لإعمال العقل على كل المستويات فعلى الدولة تنمية هذه الثقافة بكل الطرق الممكنة من خلال التركيز على إكساب شعبها ثقافة إعمال العقل على المستويات التعليمية المختلفة. وبلا شك إن تنمية العقل تقود الإنسان إلي تحقيق قوة الفكر الذي يساعده في حياته ويؤثر علي ذاته وصحته التفسية وسلوكياته ، فأي شيء يفكر فيه الانسان يصبح لإتجاها للعقل مما يؤثر علي الإدراك والوعي فيقوم بفعل الآتي: * الإنتباه للمعلومة والفكرة والتعرف عليها * تحليل الفكرة ومقارنتها بأفكار أخري مشابهة * إلغاء اي افكار أخري لا تمت للفكرة بصلة والمعلومات الصحيحة توجه العقل إلى المعرفة الصحيحة. وبالتالى إلى القول الصحيح والفعل الصحيح، كما تؤدى إلى اتساق بين الفكر والقول والفعل، ذلك الإتساق الذى هو أساس الصحة النفسية. تتحول المعرفة إلى القيام بفعل أو الامتناع عنه حسب ما يأمر به الفكر،، هذه هى المرحلة التى تفرق بين إنسان وآخر وبين فعل وآخر. ولتحقيق عجلة التقدم لا بد من تحقيق السلام ، ولن يتحقق السلام الا بنشر التسامح ومعرفة قيمته والعمل علي نشر ثقافته وثقافة التسامح هي التي تضبط علاقة الانسان بعقائده وافكاره ، بحيث لا تصل الي مستوي التعصب الأعمي الذي يقود صاحبه الي القتل وممارسة التدمير باسم القيم. والدعوة الي التحلي بالسلوك الحسن هي دعوة قرآنية في كل مجال من مجالات الصراع في الحياة وتتصل بكل علاقة من علاقات الانسان بأخيه الانسان: قال تعالي: “ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإن الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(سورة فصلت 34) وبالتالي فإن التسامح اليوم ليس محورا من محاور المدينة الفاضلة ، ولكنه اصبح ضرورة انسانية واجتماعية وسياسية وثقافية، حتي يستطيع الفرد أن يقف أمام اي عدو يستهدف الفرد أو حضارته أو ثقافته أو بلده. ويشير مفهوم التسامح الي الإعتراف والقبول بحقوق كل الأفراد والجماعات التي لديها أفكار وآراء ومواقف وسلوك. حيث انه هو الطريق الي الشعور بالسلام الداخلي. لذا لا بد من الإهتمام بدور العقل والفكر للاتجاه لتحقيق السلام العادل من خلال ابراز قيم التسامح والحوار البناء والعدل وأثر ذلك في مختلف الأصعدة (الأسرة ، والمدرسة، والمجتمع ، والدولة) وقد مارست اليونسكو دوراً بارزاً في هذا المجال، عندما أكدت في تصحيح المبادئ حول التسامح الصادر عام (1995) في مادته الأولى المخصصة لتحديد المفهوم “أن التسامح هو شرط ضروري للسلام وللتقدم الاقتصادي وإشاعة روح التضامن بين الشعوب, وبينت أن المقصود بقيمة التسامح احترام وقبول وتثمين غنى الثقافات وتنوعها في عالمنا, وأنماط التبليغ وأساليب التعبير عن نوعية كينونتنا الإنسانية, أما عن آلية تعزيز هذه القيمة فأشارت اليونسكو إلى أهمية المعرفة وتفتح العقل والنزوع إلى التواصل، والاعتراف للآخر بحق التفكير والشعور والاعتقاد” ، فالتسامح بذلك قيمة تتأسس على التناغم داخل الاختلاف, فهو ليس تنازلاً ولا مجاملة بل موقف فعال يحركه الإقرار بالحقوق العالمية للشخص وبالحريات الأساسية.لأجل ذلك كله يعتبر التسامح مفتاح الدخول إلى حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية ودولة الحق والقانون. من جهة أخرى يتسم التسامح بالعديد من المميزات الخلقية من بينها إيجابيته بحيث لا يقف الأمر عند حد قبول الآخر, ولكن الاستفادة منه لاكتساب مشاعر الغيرية وزرع روح الأمل, إنه يتيح لنا أن نتعلم العيش مع الجماعة ومع الآخرين المختلفين عنا, والأهم من ذلك هو أن نمنح الآخر حق التعبير عن أفكار وقناعات قد تتناقض مع ما لدينا من أفكار وقناعات, بل واحترام الحق في التعبير عن مقاصد قد تبدو لنا غير ذات قيمة أخلاقية, وتجنب فرض تصوراتنا الخاصة لما هو ليس كذلك مما يبرر منع الآخر من الكلام. وعليه فإن الخطورة التي تكتسبها النظريات القائلة بصراع الحضارات والثقافات والديانات هي أنها تؤدي إلى سقوط الأفراد والجماعات في مزالق التطرف والتعصب, وأن السبيل الوحيد للوقوف أمام تلك النظريات التشاؤمية هو تعزيز قيمة التسامح بتعقل وقناعة، لتعزيز القواسم المشتركة وإقصاء الفروق والانفتاح على الآخر المختلف، وهذه دعوة تنسجم مع ثقافتنا الإسلامية شكلاً ومضموناً، بدليل قول الرسول “إنني أُرسلت بحنفَّية سمحة” أي ليس فيها ضيق ولا شدّة, تؤمن بالحوار بديلاً، وتؤكد أن التعددية الثقافية ثراء للفكر, وإن الإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم ، لأن حرية الاعتقاد مصانة بدليل قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256). ولقد أثبتت الدراسات الحديثة الي أهمية السلام الداخلى والتسامح مع النفس والآخرين فى تنمية الذكاء العاطفى، والتعلم من أخطاء الماضى دون الوقوف على أعتابه، وكذلك التحكم بالعواطف من خلال تعاليم الدين أو الردود الحكيمة، فضلاً عن التحليل الاجتماعى للأحداث المحيطة والتأمل فى قصص نجاح وفشل الآخرين ومن هنا تنطلق الدعوة للعقل للقيام والاتجاه للفكر البناء الذي يعطي للحقائق الصورة المثلي لمعرفة الصورة المثلي لثقافة التسامح ونشر القدوة الحسنة التي تنير للنفس طريقها وتفتح أبواب التامل والعمل للعقل الإنساني ولقد أفرد الإسلام جانبا كبيرا من إهتمامه بحمايته للأمن الفكري فقدم الوسائل الوقائية والعلاجية ومن أهم الوسائل الوقائية: 1-إظهار وسطية الإسلام وإعتداله وتوازنه، وترسيخ الإنتماء والإعتزاز بالوسطية 2-معرفة الأفكار المنحرفة وتحصين الشباب ضدها 3-إتاحة الفرصة الكاملة للحوار الحر الرشيد داخل المجتمع الواحد، وتقويم الإنحراف الفكري بالحجة والإقناع. أما الوسائل العلاجية فترتكز علي: * دعوة المخطيء الي الرجوع عن خطئه * تجنب الأساليب غير المجدية * النهي عن مجالسة أهل الإنحراف الفكري ونحن في أشد الحاجة لتحقيق الأمن الفكري الذي يقود الإنسان للابداع والتألق والتميز ليصبح أداة وقناة هامة للتطوير. دعوة للثقافة ويستمر طريق الدعوة سائرا بنا من العقل الي الثقافة لا شك أن الثقافة منبع هام لأي إنسان يريد التطور حيث تساعده علي بناء الشخصية والتواصل الإجتماعي وتحقق له التقدم الفكري والمهني. فالثقافة نبع هام ترده الأمة علي الدوام في مراحل تطورها الخاص وقد كانت هناك دائما علاقة وثيقة بين تلائم حياة الأمة واتجاه واستقامة سيرها ، وبين صفاء نبع ثقافتها. والثقافة تنتقل من مجتمع لآخر نتيجة احتكاك الأمم بعضها مع بعض , وتتشكل الثقافة الحقيقية من خلال التفاعل بين الدين الحقيقي والأخلاق والفضيلة ووصول هذا المزيج إلي المستوي المطلوب من النضج , لذا لا يمكن الحديث عن الثقافة الحقيقية في أي مناخ من اللادينية والهبوط الأخلاقي. تحتل الثقافة محلا متميزا في حياة كل أمة ، وكل ثقافة امتزجت مع ماضي الأمة وارتبطت بجذور روحها تستطيع إنارة طريق الحياة والتقدم أمامها. والثقافة إشراقة تضيء للإنسان أبواب الحياة وأسرارها وتفتح مداخل ذاته مما ينعكس علي سلوكه ويؤثر في مجتمعه ، والمجتمع الذي لا يتأثر بالثقافة ويسعي إليها يقود نفسه وأهله ومجتمعه إلي الإنحدار ، والإنحدار يبدأ من ضعف القيم والأخلاق. وبنظرة تأملية نحو الإنسان نجد أنه لا يسع الفرد للثقافة ويكتف بما أخذه من التعليم وهنا يجمد أبواب التطور ويسد الطريق أمام حياته, ففي كل لحظة العالم في تطور وتحرك وإذا لم يسع الإنسان للثقافة لينهل من منابعها فلن يتقدم ويتطور.
وترتكز خصائص الثقافة علي : * أنها من صنع الإنسان وحده * أنها متغيرة * لها خاصية تكاملية حيث لديها القدرة علي القيام بإشباع حاجات الفرد مما يشعره بالطمأنينة * ومن أهم خصائصها القابلية للانتشار والانتقال وذلك من خلال التعليم واللغة ووسائل الاتصال الحديثة * كما أن لها خاصية التنبؤ حيث تعمل علي تحديد أسلوب وسلوك الإنسان وبالتالي تمتلك القدرة علي التنبؤ بما يقوم به الإنسان في المستقبل وترتبط الثقافة بالمعرفة وأهم أدوات المعرفة هي القراءة والندوات والندريب، لذا إقامة المعارض من أهم الوسائل التي تساعد الإنسان علي زيادة مساحة المعرفة لديه مما يصقله بالمهارات التي تساعده في تحقيق النهضة الثقافية علي المستوي الشخصي والمجتمعي , ولا تتحقق نهضة ثقافية دون التمسك بالنهضة الأخلاقية التي تبرز أهم القيم والمباديء الإنسانية والروحية وللثقافة دور كبير وحيوي في حياتنا إذ تساعدنا علي تنمية الشخصية وتحقيق التواصل الإجتماعي وتشدنا للتعارف مع غيرنا من الشعوب لتحقيق السلام وإقرار العدل ، وإشاعة الرحمة بين الناس. دعوة لمستقبل آمن لا شك أن المجتمع الذي يعيش في سلام هو مجتمع يسير في خطي ثابته نحو التقدم والرقي والازدهار في كل مجال من مجالات الحياة المختلفة ويكون انسانا سويا علي قدر كبير من الاحساس بالراحة والقدرة علي العطاء بالعمل والانتاج. والسلام يعني الأمن النفسي والطمأنينة القلبية للانسان ،وأن يكون الانسان متصالحا مع نفسه اولا ومن حوله وعندما يستشعر الانسان الأمان فهو بالضرورة سوف يشعر بالسلام وينشره بصورة آمنة لمن حوله ، صورة متقدمة وبناءة لوطنه ومجتمعه. إن السلام منظومة أخلاقية كليه جعلها الله قانونا في الوجود لخير البشرية ، واذا تصادمت هذه المنظومة مع الذاتية والمصلحة الشخصية حدث الخلل الذي يوجب علي مواطن التصدي له وردعه لرجوع الحق. فلم يجعل الله السلام من أجل فرد أو مؤسسة وانما جعله لخير مجتمع بل دولة بأكملها بكل مؤسساتها وسنحاسب اذا فرطنا في حقنا في حفظ هذا السلام الذي جعله الله لخير الأمة. ليست القوة والضعف هو الذي يحدد ماهية السلام وانما الذي يحدد ماهية السلام ويجعله حقيقة واقعية هو مدي الالتزام بالمباديء الانسانية وبحقوق الناس .. كل الناس فهم سواسية لا فرق بينهم. ان لكل انسان الحق في أن يعبر عن نفسه وأن يدافع عن كرامته وسيادته بالمقدار الذي يستطيع فيه ومعه أن يحقق لنفسه القوة والكرامة والحرية. وأساس السلام العدل الإجتماعي والتسامح القائم علي التخلص من أي رغبة في الإنتقام والتصالح مع النفس والآخرين ولا يمكن أن يتحقق السلام دون أن يكون تسامح وعفو والإرتفاع فوق الصغائر لذا هناك الدعوة الملحة والمتكرة لتحقيق مستقبل آمن يرتكز علي: * الحوار البناء * اقامة العدل الاجتماعي * نشر ثقافة التسامح * ترسيخ مفهوم القيم الانسانية بعيدا عن التعصب والكراهية والانتماءات السياسية * نبذ العنف والتطرف من خلال المحاورات النقاشية البناءة * دعوة الشباب لنشر ثقافة التسامح من خلال منابرهم الثقافية * إقامة الندوات والمعارض التي تتيح للجميع التعارف والتعاون الفكري الآمن. ونوصي بتحقيق الآتي من أجل مستقبل آمن…. * تحقيق الأمن الفكري من خلال تنمية وتطوير العقل والتفكير ، وفتح نوافذ التطوير والإبداع وحفظ الحريات * إقامة الحوار البتاء بعيدا عن التعصب * نشر ثقافة التسامح * تشجيع وتدعيم المرأة لإحياء ثقافة التسامح * تنمية الحوار بين جميع دول العالم حتي يتحقق النعايش السلمي * الإنفتاح والتفاعل مع الآخر * احترام وقبول الآخروالتعايش معه علي مبدأ نبذ العنف
وختاما إن التسامح قوة للإنسان ليحيا حياة الأمن النفسي والسلام الروحي وتحقيق أهدافه ليصبح انسانا ايجابيا فعالا في الحياة وقدوة لنفسه وغيره وقيمة أخلاقية يحتذي بها.
د. ناهد الخراشي – مصر الكاتبة والمحاضرة في العلوم السلوكية والإنسانية