إحدى أبرز إشكاليات العقل العربي تكمن في وضعية الانسداد التام والاستعصاء التي لم تمكنه من التطور وإدراك المعاصرة والحداثة، نتيجة عجزه المزمن عن إجراء تغيير في ثقافته الموروثة منذ قرون خلت. ثقافة تجعل معتنقيها مؤمنين أنهم أخير الناس، أصحاب الرُشد والأخلاق والحق، لذلك فإن الثواب والخير يعود لهم، وإن الرذيلة والضلالة والبؤس للأخرين الأقل مكانة. إن هذا القصور الاستدلالي حول التنوع الفكري والتعدد الثقافي، جعل العقل العربي غير فطن للتطور الهائل الذي قطعته العلوم وأنهت معه عصور التقسيم جيو-ثقافي للأمم بسبب الجغرافيا، ولم يلاحظ النتائج الكارثية التي أحدثتها الصراعات والحروب والكراهية بين البشر لأسباب ترتبط بالاختلافات الثقافية، ولهذا فإن العقل العربي ظل مكبلاً غير طليق ولم يدرك منظومة القيم الإنسانية التي شكلت أساس قيام العالم الحديث. التطور التقني الذي حققته العلوم في قطاع الاتصالات قد أسقط الجدران الجغرافية والدينية والعرقية، فبدأت تتأسس ثقافة جديدة مكونة من قيم العدالة والمساواة والحريات العامة، تحترم الفردية والخصوصية، ثقافة بلا هويات دينية أو مذهبية أو قومية، وتتجنب كافة مفاعيلها وإفرازاتها الاجتماعية والفكرية، بل تعتمد التفاعل الإنساني والهوية الأممية. علاقة العقل العربي بالعلم مركبة وشائكة وطفولية وغالباً تبدو استعلائية تكشف عمق الجهل والتخلف، حيث تسود أفكار أن العرب سبّاقون في كل مضمار، ولديهم كل شيء خصهم الله فيه دون سواهم، في مجتمعات يسيطر عليها الفكر الغيبي والموروث الثقافي الذي يعكس سعة الفجوة العلمية والحضارية بيننا وبين الأمم التي حققت التقدم. تفشّي الخرافات وتأصلها في عمق العقل العربي والإرث الذي يعتبره مقدساً حال دون تمكن الأدمغة العربية من أن تجد لها مكاناً في نادي الاكتشافات العلمية. كيف يتطور العقل العربي ومازال الكثيرين يؤمنون بالقدرة الخارقة لبول البعير على الشفاء من مختلف الأمراض، ويعتقدون بالسحر والحجب وإقامة الطقوس الدينية. ما زالت علاقة العقل العربي مع الآخرين ومع الحضارة العالمية، مختلطة وملتبسة يطغى عليها التوحش والسلوك الصحراوي القبلي، بالرغم من امتلاك العرب أحدث السلع التي ينتجها العلم. فلسفة الاقصاء الاقصاء تربوياً هو أسلوب للعقاب يتضمن إلغاء التعزيز الإيجابي لفرد أو جماعة، لفترة محددة أو بصورة نهائية. وفي اللغة فإنه الإبعاد والغاية البعيدة. والاقصاء اجتماعياً ويعرف أيضاً باسم التهميش هو الحرمان الاجتماعي والإبعاد إلى حافة المجتمع، وهو مصطلح يستخدم على نطاق واسع في أوروبا في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتم تعريفه على أنه منع الأفراد بشكل منهجي من الوصول لكافة أو بعض الحقوق والفرص والموارد المجتمعية أسوة بالآخرين. يقول الكاتب الأمريكي “فرانك هربرت” لم يخلق الناس سواسية، وهذا أصل فساد المجتمع. ويظهر الاقصاء والتهميش في قلب كافة قضايا الصراع الاجتماعي باختلاف تسمياتها ومظاهرها وتمثلاتها. إن العقل الاقصائي هو الذي لا يرى سوى ذاته، لا يعترف بغيره، ويتخذ مواقفه بناء على حساباته وحده، لا يهتم بالآخرين ولا يراهم. الاقصائية هي منظومة من الأفكار والسلوكيات تم تصميمها لتخدم مصالح من تمثلهم، وتعمل على إزاحة الآخرين وحرمانهم دون أي اعتبار. ولهذه الأسباب فإن العقل الاقصائي عامل طارد لكافة الجهود الجمعية، عقل ينفي حق الآخرين في الوجود، وحق الأفكار في أن يتم نقدها، وحق الممارسات في أن تخطئ أو تصيب، ولهذا فإن الاقصاء هو الشريان الخفي الذي يغذي كافة الأفكار المتطرفة والأعمال العنيفة. وبهذا يكون التشدد والتعصب هما انعكاس للأفكار الاقصائية التي تبررهما. العقل الاقصائي يمكن أن يكون عقلاً دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو عرقياً، كما قد تجد العقل الاقصائي في التيار اليساري أو اليميني أو القومي أو الليبرالي لا فرق بين عباءة وأخرى، فالاقصاء منتشر كالفطر السام. الثقافة الاقصائية هي السبب الرئيسي خلف هذا النكوص الأخلاقي والعجز الحضاري، والاخفاق الحداثي والهزائم التي تصيب الأمتين العربية والإسلامية. العقل الاقصائي تسبب في حالة انسداد فكري واستعصاء علمي وجمود حضاري، تسبب في أسر الأمة بسجون تاريخها، فيما الأمم جميعاً كسرت قيدها وانطلقت نحو التقدم والازدهار. لا يمكن إجراء مقاربة للعقل الاقصائي في الحالة العربية دون الإلمام بكافة الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية والتاريخية لهذه الظاهرة، لأننا كما نعلم فإن الواقع لا يمكن أن يتشكل بمعزل عن الأفكار السائدة، كما أن الفكر ذاته لا يمكن فصل منبته عن واقعه. تبدو الحقائق في سياقها التاريخي تشير إلى أن الفكر العربي بصورة عامة كان ولايزال-بمعظمه- فكراً اقصائياً بمختلف مراحل التاريخ، حيث كان فكراً حاملاً ومحملاً ايديولوجيات تدفع بطبيعتها للاقصاء، ولأنه لم يكن يقبل بوجود فكر آخر، لم يتاح لفكرين أن يتعايشا في تاريخ الفكر العربي، إذ أن وجود فكر وايديولوجية ما كان ليكون إلا بزوال الفكر الآخر، وهذا يظهر في صراع الحنابلة والمعتزلة في التاريخ الإسلامي على سبيل الذكر، هذا يعني ببساطة أن التعددية الفكرية والتنوع الثقافي صفات غائبة في تاريخ الفكر العربي. وذلك يعود لأسباب منها أن الدولة الإسلامية العربية ثم الدولة السلطانية، فالدولة الشمولية الحديثة لم تسمح بالتعددية الفكرية لأنه ينتج عنها تنوع سياسي رأت فيه الدولة العربية الاستبدادية خطراً عليها، فلم يعرف التاريخ العربي الدولة الجامعة، دوماُ كانت الدولة قديما وحديثاً إما لهذه الفئة أو لتلك. من جهة مختلفة فإن غياب التعددية السياسية أنتج غياب التعدد الفكري، وهيمنة الفكر الأحادي والسياسة الأحادية، والحزب الواحد والزعيم الأوحد، وهكذا في دائرة مغلقة تسببت بالبؤس والشقاء للأمة العربية. خضع العقل والفكر العربيان تاريخياً لهيمنة نمط محدد وحيد، كان ولا يزال الخروج عنه بمثابة خروج عن الجماعة يستوجب العقاب لإعادة الطاعة، لذلك نمى العقل العربي على أحادية فكرية وفلسفية وثقافية ودينية لا ثانية لها، وهنا تماماً تكمن بذور الاقصاء بوصفه سلاحاً استعمل من قبل فئات محددة للحفاظ على مصالحها التي سوف تكون مهددة فيما لو سادت التعددية بدلاً عن الأحادية. كل فكر وعقل أحادي هو بالضرورة اقصائي في تكوينه وتمثله ومفاعيله، تنتج الأزمة حين لا يواكب الفكر التغيرات التي تحدث في البنية الاجتماعية، وبهذا حين نكون أمام بعض التعدد والتنوع الاجتماعي والعرقي والمذهبي في البلدان العربية، ويظل الفكر أحادياً، تكف قضية الاقصاء عن كونها قضية فكرية ونظرية، لتتحول وتصبح إشكالية اجتماعية حياتية تتسبب بإلحاق الضرر بكل من هو خارج المركز، وتعيق الاستفادة من مقدرات الآخرين المبعدين المهمشين المقصيين، وتؤدي بهم للانكفاء لشعورهم بالوصاية عليهم من قبل المركز، وهذا يكبح تطور المجتمع وتقدمه. المونوفيجن العقلي كما المونوفيجن البصري الذي يصيب عيون بعض الكبار في السن من الناس ويسميه الأطباء قصور البصر الشيخوخي، هناك مونوفيحن يصيب العقل البشري دون تحديد العمر، وهو الأحادية في النظرة وفي التفكير والرؤية، وغياب سعة الإدراك لتقبل التعدد والتنوع في الأفكار والآراء ورفض الاختلاف، وهو مرض خطير يحدث تفاعلات غير توافقية تكون نتيجتها ظهور التشدد والتطرف والتعصب والعنصرية ورفض الآخر والجمود الفكري. وهي باتت أكثر ما يعيق تقدم المجتمعات، خاصة التطرف الديني والسياسي والاجتماعي. ولم يقتصر المونوفيجن على الأفكار والايديولوجيات، بل امتد وطال العلاقات البشرية وتسبب في عدم التوافق الإنساني، وهو أشد حالات أحادية الرؤية خطراً على الأفراد والمجتمعات. يرتبط العقل الاقصائي بنزعة عدوانية مترسبة عبر السيرورة التاريخية. وبقدر ما تكون الأفكار اقصائية وتمييزية بقدر ما تظهر تسلطها وعنفها. ويظهر التطرف الديني أعمق أشكال أحادية الرؤية وأشدها استعصاء على التغيير. فالتراتبية الاجتماعية والصراع الطبقي وتدني المستوى الاقتصادي والفقر والجهل، وكذلك الاستبداد السياسي وغياب الحريات العامة، هي أيضاً أهم أسباب التشدد والاقصاء. التطرف الديني لا يمكن فصله في الحقيقة عن التطرف الفكري والاجتماعي، ولا يرتبط بالجنس أو العرق أو المذهب. لأن الرؤية الاقصائية واحدة نابعة من موروث متأصل في الثقافة البدائية للبشر، نظرة ميتافيزيقية تكشف ضحالة العمق المعرفي في منظومة الوعي الاجتماعي. وفكر موحش ينزع لمصادرة حقوق الآخرين المخالفين، لا يرى تحقيق ذاته إلا بنفي الآخر وعدم الاعتراف به. هو العقل المركب المبني على عدم التسليم أنه بالنسبة للأخرين أيضاً هو أخر مختلف. تتحول هذه الأفكار والسلوكيات وتصبح ثقافة تأخذ أبعاداً دينية أو عرقية أو مذهبية أو اجتماعية، ثم مع الوقت تتحول إلى هوية. المخيال العربي والاقليات المقاربات الثقافية العربية لقضية الأقليات العرقية والدينية والثقافية أخفقت كونها معالجات مبنية على الأولويات العربية، ولأن غالبية السياسيين والمثقفين العرب يقرأون الواقع العربي بتنوعه وتعدده بصورة سطحية عابرة، لا تصل إلى عمق البنية الثقافية والاجتماعية للأقليات. حيث تعامل العقل العربي- غالباً- بصورة دوغمائية واستعلائية مع المجموعات العرقية والإثنية، منطلقاً من مركزية الثقافة العربية وهامشية وتبعية الثقافات الأخرى. يسقط المثقف العربي من حيث لا يعلم في العنصرية حين يهاجم مركزية الثقافة والفلسفة الغربيتين، وبذات الوقت يتبنى مركزية ثقافته ضد الآخر الموجود تاريخياً، وهو بهذا يضع أولى اللبنات في جدار الإقصاء القاتل كونه يعتمد أحادية الثقافة. يجب الاعتراف أن العديد من المفكرين والمثقفين العرب ومنهم الدكتور محمد عابد الجابري، مؤمنين بأن ما يسمى الثقافة العربية هي نتيجة إسهامات شعوب الوطن العربي الإسلامي منذ عصر التدوين. وبالتالي فكل ثقافات الوطن العربي هي ثقافات متفرعة من الثقافة الأم وهي الثقافة العربية، وهذا رأي فيه القول الكثير لأنه يتنكر لثقافة الأقليات ومساهماتهم في الإنتاج الثقافي والحضاري للمنطقة. إن المخيال الثقافي المعرفي الاجتماعي التاريخي العربي الذي يعتمد الرموز السياسية والدينية والفكرية والفلسفية والعلمية كمعيار لتميزه عن الآخرين وتفوق العقل والثقافة العربية، هو تماماً ما يسترشد به العقل السياسي العربي في بناء علاقته الفوقية مع الأقليات. وتصبح هذه المخيلة وأدواتها فعلاً طارداً للآخر وليس جامعاً وموحداً على مستوى البنية والدلالات. فالرموز والقيم في المخيلة العربية قد لا تعني أبناء الأقليات بشيء بالضرورة، كما أن رموز وقيم ومخيلة الأقليات لا تشكل اهتمام معرفي بالنسبة للعرب، ومن هنا تنبع الأزمة. الاقصاء الديني التكفير كمنظومة ورؤية نظرية وسلوكية لا يتعلق فقط بالحركات الدينية، بل امتدت عصبيات هذا التشدد إلى كافة المشارب الفكرية والفلسفية والثقافية والاجتماعية، وأصبح يمارسها الجميع من علمانيين ويساريين وقوميين وليبراليين، حيث سقط الجميع في قعر الإقصاء وإلغاء غيرهم والاستعلاء عليه، وتجريده من حقوقه البديهية، وحرمانه من مصادر المنفعة العامة أسوة بغيره، بل ربما قتله أيضاً. وبهذا فإن التكفير والاقصاء باتا أزمتان إشكاليتان للكثير من المجتمعات البشرية. وهي ظاهرة تستوجب البحث في جذورها وتحليلها لفهمها، وعدم الاكتفاء بالقراءات السطحية. تعود المنابت الأولى لهذا الفكر في التاريخ الإسلامي إلى بروز تيار الخوارج كحركة احتجاجية على الواقع السياسي، ظهرت في نهاية عهد الخليفة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وبداية عهد الخليفة الرابع علي بن ابي طالب “رضي الله عنهما”، في النصف الأول من القرن الأول الهجري. وقد خرجوا عن جماعة المسلمين أثناء عودة أمير المؤمنين “علي ابن أبي طالب” من صفين إلى الكوفة بعد التحكيم الذي حصل في القصة الشهيرة. وكان الخوارج يتصفون بأنهم أكثر الفرق الإسلامية دفاعاً عن مواقفهم وتعصباً لمعتقدهم وآراءهم. كانوا يدعون بالبراءة والرفض للخلفاء ولحكام بني أمية، وتمسكوا بالاختيار والبيعة في الحكم. قامت الحركة بصياغة خطاب ديني سياسي، اعتمد على مفهومهم للحاكمية “إن الحكم إلا لله” لتبرير الأفعال الشنيعة. تراجعت تيارات الإباضية والنجدات والأزارفة وسواها من فرق الخوارج، وظل العقل الاقصائي المذهبي والسياسي حاضراً بقوة في التاريخ الإسلامي والعربي. نشوء حركات التكفير والهجرة في بعض البلدان العربية يؤكد ما سبق في أن أسباب ظهور هذه الحركات هو الاحتجاج على الواقع السياسي المأزوم، ثم نتيجة الاستبداد الفكري والسياسي وغياب الحريات الأساسية والاقصاء في العالم العربي، تشددت هذه الحركات في أفكارها وسلوكها للتعبير عن نفسها بشكل عنفي، بعد أن عانت من القهر والطرد المنظم. لعل واحداً من أسوأ صفات الفكر الديني المتشدد الاقصائي هو الإساءة التي يتسبب بها للإسلام ذاته قبل كل شيء، نتيجة للقراءات والاجتهادات والتفسيرات الخاطئة لأصحاب هذا الفكر. فهذا الفكر لا يقدم أية مقاربات للأزمات التي تعاني منها الأمة، بل يدفع لترسيخ الانشقاقات والانقسامات والاصطفاف والطرد بذرائع دينية لا تقبل النقاش. وعليه فإن الاقصاء الديني هو أخطر أشكال الاقصاء لأنه يعتمد النصوص المقدسة ويداعب مشاعر الناس، ويعمل على إيقاظ العصبية المذهبية لديهم، ويقوم بشيطنة الآخر المختلف، ويجعل من كراهيته ومحاربته وطرده فعلاً صالحاً يُؤجر الفرد عليه. وهي ثقافة تشكل المخزون الفكري للتطرف والعنف والتهجم على أتباع المذاهب المخالفة، قائمة على التفرد بالحقيقة والرأي وتهويل النزعات الاختلافية. لا يمكن مواجهة هذا الفكر دون بناء مجتمعات مدنية حديثة قائمة على مبادئ احترام الحقوق الرئيسية للمواطنين وحرياتهم العامة، مجتمعات قادرة على صناعة إنسان منتج فاعل ويسهم في بناء حضارة أمته عبر العقل والتفكير الابداع والعمل والإنتاج والتميز، وليس بواسطة التكفير والاقصاء. الاقصاء الثقافي الاقصائية صفة ملاصقة للفكر في الثقافة العربية الحافل تاريخها بقمع الحريات، وممارسة الاضطهاد والترهيب والتعذيب لكل من خرج عن الأيديولوجية وخالف الضوابط الدينية والعرفية. حيث ذاق الفلاسفة والمفكرين والمثقفين الذين أخرجوا عقلهم من الصندوق الأمرين في التاريخ العربي والإنساني. فمنذ أن تحولت الرسالة السمحة التي جاء بها الإسلام من كونها حامل للمحبة والتعايش الإنساني، إلى مركّب معقد للساعين الوصول للسلطة السياسية، أصبحت الحقائق مكونات يحتكرها أتباع طائفة دون الأخرى، وبدأت معها الانقسامات التي سببتها ثقافة الاقصاء التي لا زالت أنيابها حادة ممتدة في بنية الفكر العربي والإسلامي غالباً بذرائع متعددة. اتسعت دوائر هذا الفكر في الراهن العربي، فأصبح المثقفين جماعات وطوائف متناحرة، والمؤسسات والأطر السياسية والثقافية والحزبية والدينية تحولت إلى مراكز استقطابية، وظهر المتشددين المتزمتين في شتى الميادين. هذا خلق صراعاً بين التيارات واصطداماً غير توافقياً بين الأفكار، أدى إلى اقصاء البعض غير المنسجم. هذا الحال أربك المشهد الثقافي برمته. سياسة عدم وجود تكافئ الفرص، والمحسوبية والتهليل، ومحاربة كل عمل وفعل إبداعي يعتمد إعلاء سلطة العقل، ينتج عنه الاقصاء للفكر الحقيقي وأصحابه. تطور حركة الفكر العربي تتطلب الانعتاق من قيود ثقافة الاقصاء التي تكبل العقل العربي. إن الفكر التنويري الحداثي الغربي لم يكن يوماُ كتلة واحدة صماء، بل هو تعبير عن اتجاهات فكرية متعددة ومشارب فلسفية متنوعة بلغت مستوى عال من الرقي، لم تكن تصله لو اعتمدت الفكر الأحادي. الاقصاء في الإسلام تكاد أن تصبح ثقافة الاقصاء ورفض الآخر وعدم قبول رأيه، هوية للإنسان العربي الذي يستعدي كل من يختلف معه في الفكر. فالاقصاء احتل حيزاً واسعاً من الثقافة العربية البدوية، كان العرب تتقاتل لاختلافات غير هامة، وتتصارع القبائل لأسباب تافهة لفرض رأيها، حتى بات القتل والغزو أمراً عادياً وضرورياً في الثقافة البدوية. قتل العرب بعضهم بعضاً لعدم التوافق في الموقف وللتعارض في التفسير، ولتصرفات عادية لا تروق لبعضهم، ولأي قول أو سلوك تعتبره عقليتهم البدوية الاقصائية أنه إهانة لهم ومساس بكرامتهم وانتقاص من كبريائهم، فكان السيف والقتال لا العقل والحوار هو السبيل الوحيد لحسم الخلافات. حتى أن شهر صفر سمي بهذا الاسم لثلاث روايات أحدهما أنه يعود إلى أصفار مكة من أهلها لخروجهم والقبائل الأخرى للغزو. كما جاء في الجزء الرابع من كتاب لسان العرب لابن منظور. -قيل أيضاً أنه بسبب نهاية فصل الشتاء واصفرار أوراق الشجر، وقيل إنه إشارة إلى خلو مكة بعد موسم الحج. جميعنا سمعنا بالحرب الشهيرة “داحس والغبراء” التي استمرت لأربعين عاماً متواصلة بين فخذين من قبيلة “غطفان” النجدية، هما “عبس” و”ذيبان” والسبب لم يكن سوى نزاع يتعلق بسباق خيل بين فرسين يسميا “داحس” التي امتلكها “قيس بن زهير” و”الغبراء” لصاحبها “حذيفة بن بدر”. وهي واقعة تاريخية تعكس العقلية الخشبية الاستكبارية القاصرة عن لغة الحوار والعاجزة عن مواجهة عصبيتها. فقد كان العرب لا يؤمنون بالفكر ولا يعترفون بالثقافة، بل بصلة القربى والحسب والنسب، فحين يهب العربي لنجدة العربي فإنما بسبب الانتماء العائلي أو القبلي أو الطائفي والمذهبي، لا بسبب الوقوف مع الحق وقوة وحصافة الرأي وحكمة الموقف. حتى بعد اعتناق الإسلام لم يطلّق العرب العقلية البدوية ولم يخرجوا من قعر الاقصاء والتعصب. كل ما حصل أنهم انتقلوا إلى نمط آخر من الاقصاء والتكفير لمن يختلف معهم في الفكر والرؤية. وهكذا كان يتم نفي أي جماعة أو أي فرد من القبيلة يكون له/م تفسير وقراءة مغايرة عما هو سائد. بحيث يتم طردهم للصحراء كي يموتوا وحدهم، اجتناباً لتمزق القبيلة. وقد يعود المخالف لحماية القبيلة إن أعلن توبته، وإلا قد يقتل لموقفه. تبدو الثقافة التي تسببت في أزمة العقل العربي المعاصر تُغذيها موروثات تلك الحقبة البدائية، فما زال العرب يعتقدون أنهم أفضل الأمم، وكأنهم أصيبوا بالعماء جميعاً، لا أحد منهم قادر على رؤية هذا الخراب والبؤس الذي يعيشون في وسطه. ولا زال العربي المسلم غير قادر على التعامل مع الآخر المختلف إلا بوصفه عدواً أو في أفضل الأحوال غير صديق. واستمر في رفض الأفكار الأخرى التي ينظر لها على أنها طريقة لإضعاف الإسلام وهدمه. بل أن هناك بعض التيارات والجماعات الإسلامية تعتبر أن الاختلاف لا يجوز في الإسلام، وهو أمر باطل شرعاً وعقلا! إن أصحاب هذا النهج الفكري يقدمون الإسلام على أنه دين فاشي لا يحترم العقائد الأخرى، بينما الإسلام غير ذلك تماماً. هذه الأفكار هي التي أنتجت التشدد والتطرف ثم العنف والإرهاب. هذه العقلية التي نحصد بعضاً من حنظلها اليوم، تسببت بالمصائب التي ابتليت بها الأقوام المتعاقبة التي عانت الأمرين من حكم وفكر وأسلوب بعض الحكام المسلمين، الذين عملوا على اضطهاد وتعذيب واقصاء وقتل كل من يخالفهم في الرأي أو العقيدة حتى من أبناء المسلمين أنفسهم. الخليفة “المتوكل” سجن رئيس بيت الحكمة في بغداد الفيلسوف “أبي يوسف إسحاق الكندي” ثم طرده وحرق مكتبته، لأنه اعتبر أن العقل جوهر التقرب إلى الله وعارضه حينها رجال الدين. وفي عصر “المنصور” اضطُهد “أبي بكر الرازي” أشهر علماء المسلمين، وأول من ابتكر خيوط الجراحة، ومكتشف الدورة الدموية، هاجمه رجال الدين المتعصبين لمواقفه واتهموه في دينه حسداً منه لمكانته، فطرد من عمله وأتلفت مخطوطات هذا الفيلسوف وتم ضربه بكتبه على رأسه حتى أصابه العمى. ما فعله السلطان “المنصور بن أبي يعقوب” سلطان الموحدين، مع الفيلسوف والعالم “ابن رشد” لا يقل بشاعة، حيث أحرقت كتبه ورمي بالإلحاد ثم تم نفيه إلى المغرب. العالم والفيلسوف الصوفي “محي الدين بن عربي” تم اضطهاده واتهامه بالزندقة فعاش بقية أيامه وحيداً في خوف. “أبي نصر الفارابي” أشهر فلاسفة المسلمين، في سعيه لبحث العلاقة بين الفلسفة اليونانية وعقائد الشريعة الإسلامية، تم اعتباره أكثر العلماء كفراً وزندقة. أيضاً لاقى الإمام “أبي حنيفة النعمان” الاضطهاد والتعذيب على يد الخليفة “المنصور” لاختلافه في فهم الإسلام، ثم تم جلده وضربه على رأسه حتى الورم، وهو شيخ عجوز في السبعين من عمره. وسواهم الكثير من العلماء المسلمين الذين تم تعذيبهم وقتلهم لأسباب ترتبط بالموقف والرأي. هكذا تعامل الخلفاء والسلاطين المسلمين من كافة الأعراق، عثمانيين أو مماليك أو سلاجقة أو عرباً، مع رعيتهم بعقلية اقصائية متشددة تقمع كل صوت يغرد خارج السرب، وتضرب رأس كل من يفكر خارج الصندوق، بذريعة أنهم حماة الإسلام. وما الحال التي وصلنا لها في الراهن العربي المعاصر إلا فصل جديد من تاريخ العقل الاقصائي العربي بكافة تمثلاته. خاتمة العقل الاقصائي يناقض مكونات الحياة ذاتها في تعددها وتنوعها وثراءها. ولا يرى الوقائع إلا من طرفه المطلق الأوحد. نحتاج إلى العقل التشاوري الاجتهادي التحليلي التشاركي التسامحي بديلاً عن العقل الاحتكاري الطارد للتعايش الجالب للبؤس. في الحالة العربية الشقية فلا اعتراف بلغة الحوار، ولا رحمة لأي مخالف في الفكر والتفسير، بل التطويع والإخضاع للفكر النقدي المتمرد، والإدانة لكل من يرتفع صوت عقله، والقمع والسجن لكل من لا يستجيب، والإرهاب والقتل لكل من يحاول تغيير الثابت. فنحن أمة لا تقبل الاختلاف، لا اختلاف الدين، ولا الهوية، ولا الرأي، ولا المذهب، ولا الطائفة. وثقافتنا هي ثقافة هدم لا ثقافة بناء، ثقافة قتل لا ثقافة حياة، ثقافة تفريق لا ثقافة توحيد، ثقافة طاردة نافية لا ثقافة جاذبة. وما زلنا نشتم الغرب العنصري الذي يحاول تسميم ثقافتنا بالتنوير والحداثة. لن يتمكن العقل العربي من التقدم ما لم يتخلص من التميز المزيف عن سواه. سوف تظل المفاهيم المتنوعة معكوسة في العقل العربي ما لم يغير من ثقافته الموروثة ويتبنى ثقافة جديدة إنسانية، تتمكن من بناء مجتمعات حضارية متطورة، وتقضي على كافة مظاهر التخلف الاجتماعي والظلم والفقر والأمية والجهل والاستبداد المهيمن على البشر. نحتاج إلى الكثير من المرونة الفكرية، والتمرس المعرفي، والسلاسة التواصلية، والتوازن والموضوعية، وكثير الكثير من الإنسانية. * كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمارك