كنت عندها أبلغ من العمر أربع سنوات ، وما زلت أتعرف على الكثير من الأشياء التي توجد في عالم الكبار ويصعب علينا نحن الصغار فهمها وإدراكها . ومن جملة هذه الأشياء أتذكر أول مرة ذهبت فيها إلى سينما " بيرس كالدوس " رفقة أبي الذي كان شابا آنذاك من المولعين بالأفلام الهندية التي كان يسهر على ترجمتها المغربي الراحل إبراهيم السايح : " أمنا الأرض " " منكلة البدوية " " طريق العمال " " السيل والقناع " ... كان الجو باردا والشتاء يتهاطل ، إشترينا من حي " السويقة " بمدينة القصر الكبير قطعتين من عجين " الشَامِيَا " و بعض الفواكه الجافة التي يتوق إلى شرائها كل من يلج فضاء السينما بشغف وحب . جميع الناس ينتظرون متى سيبدأ العرض الخاص بالساعة العاشرة . يقال إن هذا هو العرض الذي يقدم فيه الفلم كاملا دون حذف بعض مشاهده . أتذكر أن هذا الفلم كان للبطل الهندي الشهير" أميطا باشان " الملقب ب " الشاعر " وهناك بعض ساكنة المدينة من يلقبه ب : " السرطان " !! تساءلت آنذاك ما المقصود ب " السرطان " !! لم أكن أعرف بأنه مرض فتاك و قاتل . لكن هل توجد علاقة منطقية بين السرطان و الممثل " أميطاباشان " ؟ يبدو أن أحدهم قالها وهو لا يعرف معناها وتناقل الخبر بين الناس ، فصار " أمي طاب" السرطان !! أجابني أبي بأن هذا اللقب جاء نتيجة لعدم موت البطل في الفلم الذي سنشاهده ، بالرغم من إصابته بأربع طلقات من مسدس رئيس العصابة الملقب ب " الراي " في الحقيقة كنت أول مرة أعرف فيها معنى السينما والأفلام وخصوصا منها الهندية المعروفة بالمبالغة . الساعة تشير إلى العاشرة ، دخلنا لمشاهدة فلم " كولي "" coolie " في جو من المتعة والفرح والظلام يسيطر على القاعة ونحن نبحث عن مكان شاغر في " البوطاكا " فإذا بنا نجد جدي يجلس في مقدمة " البريفيرينسيا " وكأنها صاعقة أصابت والدي ، فهرول مسرعا وأنا أجلس على كتفيه ورجالاي تترنحان نحو الأعلى والأسفل تنقران صدره . قال لي : " شُفْتِي جْدْكْ !! دُزْنَا مْنْ حْدَاه !! هِي رْبِي حْفْظْ وْصَافِي مْلِي مَا شَفْنَاشِي !! " علمت حينما كبرت مقدار الإحترام والخوف الذي كان يكنه والدي لجدي رحمه الله . بدأ الفلم مع صوت القطار و المسافرون ينادون: " هِي كُولي ... كُولِي ... كُولي .."، تساءلت ما معنى كُولِي ؟ فأجابني والدي بأنه حامل الأمتعة " لْحَمَالْ ". عند كل لقطة لم أفهمها كنت أستعين به لكي يشرح لي ، ففهمي بسيط لصغر سني . كما أن والدي يجيد اللغة الهندية ، فهو لا يقرأ الترجمة البتة ، ويستبق بعض المشاهد قبل أن تقع . لقد كانت موضة أن تشاهد الفلم أكثر من مرة للتباهي و للمتعة أيضاً . لقد سمعت من "أمي طاباشان " صوت الشهادة " أشهد أن لا إله إلا الله " وأردف قائلا : " وأن محمدا رسول الله " الكل يصفر و يصفق له وجسمه يقطر من الدم نظرا لطلقات المسدس التي تلقاها من الشرير رئيس العصابة ؟؟ غريب أمر هؤلاء !! بل و الأغرب من ذلك أن بعضهم كان يَعُدُّ طلقات المسدس فيقول: "هَا هُوَ رَايْ وْلْدْ لْحْرَامْ هَا يْخْلِي فِيه .. طْكْشْنْ .. ها لْخَلْيَا لْوْلاَ..طْكْشْنْ هَا تَانْيَا ... ها ثالثا ...هَا رَابْعَة ... شْتي أنَا قُتْلْكْ أَرْبْعة ... خُوكْ شْدِيدْ !!! " لم نكمل الفلم لأن والدي خاف من رؤية جدي لنا في فضاء السينما ، فأنتم تعلمون مدى الوقار الذي يكنه أبي لجدي ، فطلبت منه أن يكمل لي الفلم في طريق ذهابنا إلى المنزل . لا أخفيكم سرا خرجت ورأسي يكاد أن ينفجر بل إني لم أعد أشعر به " مْحَشْشْ "، فقد كان يجلس أما منا رجل مسن يرتدي جلبابا صوفيا يدخن " الكِيفْ " و الواضح أنها كانت " مُدَرَحة " بما فيه الكفاية ، ليت الأمر إقتصر على ذلك ، فقد كان يجلس بالقرب منا شاب في العشرينيات من عمره ،طيلة العرض وهو منهمك في لف الحشيش في السيجارة فيدخنها ثم يعيد لف سيجارة أخرى حتى نهاية الفلم .