كان الجو باردا في ذاك الصباح وقد زادت الغيوم الكثيفة التي تلبدت في سماء طنجة من القسوة الظاهرة على الملامح .وكنت أسرع الخطى مخافة أن يداهمني المطر كالموت ، فقد كنت ألبس القميص الصيفي وكأني غير عابئ بتقلبات الجو الكثيرة ورحت أسابق المارة لكي أصل البيت قبل أن يستوقفني فجأة منظر رجل هرم رسمت التجاعيد على جبينه نقوشا من ماضيه الطويل. كان يعتمر على رأسه قلنسوة شبيهة بتلك التي كنا نشاهدها في رسوم روبين هود. تتدلى منها ريشة، وكان يلبس قميصا رثا بأكمام طويلة، وسروالا من "النايلون " الأسود وحذاءا شبيها بأحذية رهبان الكنيسة وعلى كتفه محفظة جلدية صغيرة . بدا لي منظره غريبا جدا فأحسست برغبة شديدة في معرفة قصة هذا الرجل الهرم، الذي لم يكترث لتحديقي له .ولا لوقوفي قبالته انظر إليه باستغراب شديد. فقد كان هادئا جدا حتى أني نسيت نفسي ورغبتي الملحة في الوصول إلى البيت، وشرعت أفكر جديا في كيفية تجاذب أطراف الحديث معه. وسبر أغوار هذا الرجل الذي بدا لي لغزا لا يقل تعقيدا عن ألغاز الجدات. افترش الرجل قطعة كرتون ثم جلس على الرصيف .وضع محفظته في حجره ثم أخرج الناي دون أن يرفع نظره إليّ و شرع يعزف بنآيه أنغاما عجيبة .سحرتني وشدتني. ربما لأني وجدت أنها توافق مزاجي الحزين وكانت فعلا حزينة يتقاذف لسامعها مدى مرارة صاحبها .وكأنها قصة تضاهي قصص وملاحم كبار الكتّاب ومعزوفات أشهر العازفين.ولقبته مع نفسي بروبين الموسيقيّ الحزين عازف الناي في طنجة ؟. استمر الرجل الجالس في العزف وكانت الأرجل تمر أمامه غير مكترثة به .وحدي وقفت أستمع إليه وبين الفينة والأخرى تمر سيارة أو حافلة فيحجب صوت محركها القوي والمتوحش موسيقى الناي الهادئ والمسالم لكن دون أن يُجبر ذلك الرجل على الرحيل أو إيقاف عزف نايه البسيط . لم يكن الرجل يضع بقربه إناءا يتلقّى من خلاله ما يجود به المارة والمستمعون عليه من دريهمات . نظير ما يعزفه من أنغام على الناي ولم يكن يهتم لتعليقات المارة والمراهقين الذين نعتوه "بالعجوز الخرف " و" عازف النايّ المجنون". اقتربت منه ثم وضعت أمامه درهمين قال الرجل : _شكرا لك ... قلت : _ لا داعي ... ثم أضفت _عزفك جميل... قال مرة أخرى _شكرا لك في نفسي فرحت كثيرا لأنني إلى وقت قصير ضننت أني لن أفلح في محادثة الرجل غير أني لم أضيع الفرصة فسألته مرة أخرى: _لماذا لا تعزف في مسرح أو دار موسيقى أو أي شيء أخر غير الشارع ؟ رد الرجل _ أعتبر الشارع أكبر وأعظم المسارح التي عرفتها البشرية وهو الأكثر صدقا من المسرح العادي... قلت له _هل لك أولاد؟ قال _لم أتزوج... ثم سكتت فقال : _هل تحب الموسيقى ؟ قلت _لدي جيتارة تحولت لتحفة أكثر منها لأداة عزف... قال الرجل _الرغبة تصنع الرجال العظماء ... ثم أضاف وهو يهم بجمع حقيبته _ التمس المعرفة أينما كانت ولو من عازف مر على قارعة الطريق. كسرته الأيام وأحزنته الحياة... وفهمت ما كان يعينيه وأنا أقول له _ شكرا لك أيها الصديق ...