1.هكذا كانوا يستشعرون مقدمه… من همسه المنفلت..من شخيره المتعب..من صخب خفيه وهما يكنسان الأرض..من رائحة السمك التي ترافقه أينما حل وارتحل.. ومن ظله الأعوج وهو يسابق هيكله الخيزراني.. فترقص قلوبهم فرحا..يخادعون الرتابة على غفلة من أنفسهم..يعلنونها فرجة مفتوحة.. فيتكومون على بعضهم البعض مثل فريق كرة الروكبي..يصرخون صرخة صبي واحد: “السي العربي” في حينا! يا مرحبا يا مرحبا.. فيسبقونه إلى هناك…يرشقون الباب بالبطاطس والطماطم الفاسدة..يفقأون عيون الدوالي..فتدغدغ آذانهم لكنته العربية الركيكة وهو يتهددهم ويتوعدهم من شرفته المطلة على زرقة البحر.. يرتجلون سيمفونية من قهقهاتهم الماجنة، وينشدونه قائلين: “سلم الدجاجة لمواليها “..وعند وصول السي العربي صاحب الظل الأعوج يتراجعون وراء الخطوط الحمراء، تاركين هذا الأخير يواجه كالمعتاد غريمه العتيد… 2.في عز العصر وعلى مر الفصول يغمر ظل هذا الرجل القادم من أقاصي البلدة عتبات بيوتهم الساكنة ، فيعلم الداني والقاصي أن شيئا ما سيحدث في غفلة عن الأعين، هناك في آخر الحارة، في بيت تغيب ملامحه الخارجية نبتة اللبلاب ودوالي العنب.. فتستنكر العجائز كعادتها.. وتصبغ وجنات الصبايا حمرة الشفق..ويتأوه الفتيان.. أما الشيوخ فينقسمون إلى فريقين، فريق يتحسر على زمن الفتوة الذي ولى، وآخر يلعن زمن الهوان، ويترحم على زمن النخوة والمروءة.. زيارة اليوم لم تكن عادية، هذا ما رصدوه وهم يقتفون حركاته، فقد كان يحمل معه شيئا ملفوفا في قماش أبيض..قال الصغار: “الحرب قادمة يارفاق، إنها بندقية…” قال الصبي “عزيوز”: يا إلهي أظنه سيفا!!! لذا طاروا إلى الكبار وحدثوهم بالحدث الجلل!!! فضجت الزغاريد وبددت سكون الحارة، وكبر الفتيان ، وهلل الشيوخ، أخيرا سينتصب الظل الأعوج..أخيرا سيوضع حد ونهاية لمهزلة دامت أكثر من عشر سنوات..أ..خ..ي..ر..ا..ستنمحي من جباه أحياء الحارة وصمة العار التي لازمتهم عدة سنوات!!! لن يقف الهيكل الخيزراني هذا اليوم مسلوب الإرادة، مكتوف الأيدي وهو يترجى “أنطونيو” كي يعيد إليه نصفه الآخر..فالكل يعلم..قطط وكلاب الحي بدورها تعلم بقصة الخائنة التي مرغت وجه بعلها في التراب… 3.ففي غفلة عن أعينهم تتحايل هذه المرأة على الزمن، تلج بوابة اللحظات الميتة.. متنكرة ب”حايكها” الأبيض الصوفي.. متحينة فرصة خروج بعلها إلى عرض البحر ..كومة من صوف لا يرى منها إلا عين واحدة.. تتعثر في ارتباكها بين الدروب الضيقة، الخالية إلا من عفاريت صغار، ضاقت بهم جدران الكتاتيب و حجرات المدرسة شتاء، أولفضتهم الأمواج وضلال القيلولة صيفا.. تراهم وقد صب هرمون “الأدرينالين” كل مخزونه في دمهم النافر يسفهون جل المواثيق قصد الاستمتاع قدر الإمكان بفصل ربما كان الأخير من مسرحية أزلية، كثيرا ما رغبوا في معرفة خاتمتها.. مسرحية لعبوا في معظم فصولها عنوة بعد أن انسحب الكبار من الفصول الأخيرة مكرهين .. 4.معظم الصغار كانوا في عالم الغيب آنذاك، وحدهم الكبار يتذكرون ذاك اليوم المشؤوم بتفاصيله..غيروا المنكر بألسنتهم..فكان وبالا عليهم..عميد الشرطة قضى ليلته الحمراء في شرفة انطونيو المخملية وأسرف في امتصاص حلمات الدالية ، لذى فقد أطال خطبته “الموسيلينية” ذاك الصباح الرمادي، وهدد بنسف الحارة على رؤوس أصحابها إن لم يدعوا أنطونيو العفيف وشأنه…الكبار منذ ذلك الحين وهم يغيرون المنكر بقلوبهم فقط! 5.الصغار كانوا في انتظار الإشارة من صاحب الظل الأعوج، لن يخطر على باله ما هم مقدمون عليه..فما عليه إلا أن يميط اللثام عن سلاحه..غارة تلو أخرى ويلقنون أنطونيو درسا لن ينساه أبدا..يفعلها الكبار ويؤدي ثمنها الصغار!!! لكن لا ضير في ذلك لا مانع من أن يقضوا بضع سنين في ضيافة مركز إعادة التأهيل..فهو لا يختلف عن التخييم الصيفي كثيرا، لكن…فقط إشارة صغيرة من قبل الظل الأعوج… 6.يعسكر الظل الأعوج أمام منزل غريمه كعادته، يستل سلاحه من غمده الأبيض..”إنها قصبة!!! مجرد قصبة!!!”..همسوا لبعضهم البعض غير مصدقين.. تنسل بالمقابل ضحكة من حناجرهم، أخرجت الظل الأعوج من غيبوبته..فيلتفت نحوهم ويأمرهم بالانصراف، يتواروا عنه للحظات، قالوا:لا بأس، القصبة سلاح فعال، وهي لا تقل خطورة عن السيف أو البندقية ،وحتى وإن كان أعزلا ، فما عليه سوى ولوج فناء منزل أنطونيو فإن دخله فهو الغالب لا محالة… يداعب سمعهم نغم شجي فعادوا يتلصصون على الظل الأعوج من جديد.. كان هو والقصبة يتبادلان القبل.. “اللعنة إنه مجرد ناي” !!! قال الصغار غير مصدقين..” ربما كان للناي سلاح ذو وجهين..فلننتظر!!!” قال الصبي “عزيوز” منتشيا.. 7.وانتظروا … لا يدري “عزيوز” كم من الوقت مر عليه وهو تحت تأثير نغمات الناي السحري، فحين أفاق من غيبوبته جال ببصره في كل تجاه بحثا عن الرفاق فلم يعثر سوى على عصيهم وحجارتهم..وبعض من فتات أرغفتهم تتقاتل في سبيله عصابات من عصافير الدوري وجحافل من النمل الأسود.. نادى بكل الأسماء فلم يستجب لندائه إلا شخير “الظل الأعوج” وهو يتوسد عتبة بيت “أنطونيو”..ألقى كل ما بحوزته من حجارة عليه .. نخزه بعصاه لعله يعدل عن شخيره لكن لا حياة لمن تنادي..أخيرا وزع النصف المتبقي من رغيفه بالقسط على عصافير الدوري والنمل الأسود، وعاد أدراجه باحثا عن رفاقه ليتقاسم معهم خيبة أملهم كما جرت العادة…على بعد خطوات من منزل “أنطونيو” لحق به شخير “السي العربي” صاحب الظل الأعوج، وضجيج الكائنات الغريبة وهي تتقاتل على فتات الخبز الأسمر وبضع حبات صغيرة من بطاطس مسلوقة انسلت هاربة من جيوب صاحب الظل الأعوج في غفلة منه … ***** كنت أنشر جسدي على الكرسي الإسمنتي قبالة البحر، أشحنه بضوء الشمس المتأهبة للرحيل، أنفض عني بعضا من صقيع أوروبا الذي يسكنني منذ زمن بعيد.. شارع الكورنيش غسلته للتو زخات مطرية ربيعية خفيفة..الشارع يخلو من المارة إلا مني ومن عجوزين يتدحرجان عند منتصف الشارع، ومن بعض الطيور القمامة المشاكسة وهي تلتقط ما سقط سهوا من حبوب نوار الشمس والفول السوداني ممن مروا من هنا سابقا … شغلت نفسي بالوقت الذي سيستغرقه المسنان حتى يستقران عند مقعدي الحجري الذي أحتله لوحدي .. لقد أجهدهما المشي لا محالة، لذا اعتقدت أنهما سيركنان إلى مقعد من المقاعد الحجرية الفارغة التي تنتشر في الشارع مثل التوابيت..لكنني كنت مخطئا في تقديري.. كانت قد مرت خمس عشرة دقيقة بالتمام والكمال حينما مرت السلحفتان من أمامي..شيخ راكع يربو على الثمانين من عمره وامرأة مثل كيس من الصوف، تتأبط ذراعه الراعشة.. خمنت أنها تصغره بحوالي عشرين سنة.. التفت الشيخ نحوي.. تفحصني جيدا.. جرجر بلغتيه وهو يحرث الغبار، اقترب مني أكثر.. باغتني قائلا : أنت عزيوز..أليس كذلك؟! وقبل أن أفيق من ذهولي، جرت المرأة بعلها بعنف، حتى كادت أن تسقطه أرضا..تأملتهما باستغراب وهما ينسابان مثل قطرة زيت على صفيحة معدنية..كانت المرأة تجر خلفها ظلا طويلا ساكنا بطول الكورنيش، بحثت عن ظل الرجل فلم أعثر له على أثر… حكيت لصديق طفولتي ذاك المساء ما حصل معي ومع ذلك الشيخ الغريب وصاحبته ذات الظل الطويل .. فوقع على قفاه من شدة الضحك وقال : ألم تتعرف عليهما ؟ قلت : لا !!! قال :أما المرأة فهي عشيقة أنطونيو سابقا، وأما مرافقها فهو زوجها الخائب السي العربي الملقب بالظل الأعوج..عجزنا نحن عن فعل ذلك، لكن فعلها من هم أصغر منا..فباع أنطونيو منزله وغادر إلى موطنه ..وبالتالي استرجع السي العربي نصفه الآخر.. وقبل أن تحفر الدهشة والاستغراب أخاديدهما على وجهي المستنكر ،استطرد قائلا: _ أعلم ما يجول في رأسك صديقي..لكنه الحب ..والحب أعمى كما يقال.. كنت أود أن أعقب قائلا: سحقا لحب يذل صاحبه.. لكنني اكتفيت بنظرة ساخرة، شاردة وأنا أسائل نفسي عن سر اختفاء ظل سي العربي الأعوج…فتوصلت إلى استنتاج واحد، ظننته أكثر منطقية: إنه شبح، فالأشباح وحدها لا تعكس ظلالا…