غادرا المنزل الواطئ بين منازل الطوابق. عبرا خاتمة الزقاق المفضي إلى الشارع الترابي الذي يفتح رأسه الغربي على السوق الأسبوعي ورأسه الشرقي على ساحة "الكراج" .ثمة حافلات سفر مصطفة في الساحة جوار مدرسة مسخ سورها مرحاضا عموميا، وجمالها الهندسي الفرنسي صار مهترئا ومخروما. دونما انتظام توزعت على جنبات الشارع أشجار الصفصاف، وشجيرات الليمون. القمر مكرها توارى خلف الظلام. والنجوم نكست زينتها وتناهى بريقها في الغياهب. كانا متهالكين في هذه الساعة المتأخرة من ليل تكاثفت ظلماته. لولا إصرارها على السفر ما وجد جنبها الآن، بدت بقامتها القصيرة في جلبابها الناصع البياض مثل غيمة لا تملك سبيلا. مرر أصابعه على جبينه حيثما زعم اشتباك العياء والتثاقل، قوس جسده الطويل تاركا نحافته الحدباء تحتمي بالمعطف القطني الأسود. كانا قد انعطفا يمينا وسطَرا أولى خطواتهما على الشارع المقفر إلاَ من فراشات تطوف بلا كلل أو ملل حول النور الخافت لعمود الكهرباء، وريح تفتح وتصد باب المقبرة كراهب دير يدق أجراس القداس. في مكان انعطافهما، وقف حافي القدمين في ظهيرة نهار قائظ، لأشد ماكان كرهه للنعال، عندما كان عمره سبع سنوات. وما لبث أن ركض منسلا بين جماعة تحمل في مقدمتها صندوق من خشب، تمشي حثيثة الخطى. واجمة الملامح، و بينها بعض العيون دامعة. أغواه جرس الكلمات. فطفق يردد مع الجماعة: مولانا نسعى رضاك وعلى بابك واقفين يا من يرحمنا سواك يا أرحم الراحمين مضى الطفل مهووسا بمكنون الصندوق. يطوي المسلك في انحداره والتوائه بين الأعشاب الصفراء اليابسة والسدر. يتوقف في هدأة قصيرة ليقتلع الأشواك المنغرسة في قدميه أو ليزيل الحصى الحادة الرؤوس، لكنه يستأنف المسير بقدميه الداميتين، الخطى تتبع الخطى، والنواصي تسيل عرقا، لا هبة ولا عصفة تدفع سحب الغبار المتناثرة. يطير الجراذ الرمادي فيطير قلب الطفل فرحا برؤية أجنحته الملونة بالأزرق والرمادي الغجريان. يختلط ضجيج زمار النبق وأصوات الحشرات بابتهالات الحشد الجنائزي. قرب كومة تراب صلُوا خلف الصندوق بلا سجود أو ركوع. صعد الطفل إلى رأس الكومة رمق حفرة مستطيلة تتوسطها حفرة بنفس شكلها، لكنها بعمق نصف متر، حدق مليا، قبل أن تجذبه من ذراعه يد غليظة عليها زغب مستفحل، ومن بين لحية كثة، انبعث صوت مزمجر: -مالك مكتحشامش ،هذا شغل الكبار وليس الصغار تراجع وأخد مكانه على هامش نصف حلقة من فقهاء مقرفصين برؤوس معممة تميل كسنابل عجاف لا خير في مرحها مع الريح، وهم يقرؤون القرآن، شق الطفل طريقه الى حيث مكمن هوسه، بالكاد سلك بين الأجسام الملتصقة، وضعوا الصندوق فوق الكومة، أزاحوا الغطاء عن لفافة بيضاء، حملوها بلطف شديد، ثم وضعوها في قعر الحفرة، وهم يرددون بلطف أشد: -لا اله الا الله محمد رسول الله.