لقد مثلت التّجارب الفنية الحديثة رؤية تشكيلية من حيث الأساليب و المضامين الفنّية و الصيغ المتعارف عليها رؤية معاصرة نبعت من رحم الفكر المتّقد بصهرها في الخيال الإبداعي و هو ما تأكد في تجربة “بيت موندريان”[1]، فبات من الضروري التعرف على رؤاها التي خالفت كل التيارات الكلاسيكية لتعبّر عن قدرة إبداعية تجاوزت ما هو متأصل لتبعث ما هو متجدد ، ولتعبّر عن الإبداع التشكيلي فهي ستساهم في مرور من كل ما هو كلاسيكي إلى تأسيس فضاء محدث. حيث تتطّلب تجربة “موندريان” البحث في ضرورة الخوض في اللّون وما يحمله من معاني ومفاهيم جديدة متخفّية وراء التكوينات اللّونية، فقد أوجز تكاملا وظيفيا بين اللّون والشّكل في أسلوب يحدوه حذق وإبداع كبير، يستقي فيه من بحر الإبداع ليتحرّر من تلك القيود، ولينفتح على أبعاد جديدة تهدف للجمالية الخالصة للأعمال المنتجة وليكون بذلك صاحب تجربة منفردة عن غيرها ولتكون أعماله بمثابة الموقف وذات طرح فنّي منهجي يوثّق بين المواد والأفكار. وليكون بذلك العمل الفني فضاء يجمع بين المتلقّي والمشاهد، ويعبّر عن لحظة الإبداع التي لامثيل لها فاللّون هو الأساس لبناء فضاء العمل الفني عبر إنتاج وسائل بصرية تجعل من الفضاء مختصرا للألوان ومكونا هياكل تشكيلية تجريدية تؤسس للأثر الفني، وتمثل فسحة تعبر عن الأشياء التجريدية برمّتها عبر خلق أشكال جديدة تصاغ بلغة بسيطة فتنقل عبر أفكار فنية تراوح بين الإنفعال والأشكال الهندسية ، وبين الخطوط والتأثيرات الملمسيّة للمادة في المحمل، لتوفي بإيقاعات عالم تجريدي ينقل أبعادا دلالية تفقه بها اللوحات الفنية ل“موندريان” ولتكون بذلك معبرة عن واقع تجريدي زاخر بالجديد. فهذا الإبداع لم يأتي من فراغ وإنما كان مفكّرا فيه ومتفردا ليعبّر عن قرار فنّي يحمل رؤية مخصوصة، تعبر عن خيال فنّي وتناسق وإنسجام جمالي يتجاوب مع المساحات اللّونية ويتلاءم بالتالي مع الشكل “وهنا تصبح درجات الضوء والنور تشبيها بلاغيا تشكيليا لإنطباعاتنا البصرية عن الشئ الحقيقي”[2] ، ومن هنا يصحّ القول بأن أعمال “موندريان” قد ولجت نحو عوالم مختلفة، وعبر تقنيات تشكيلية متعددة جنحت بها إلى قراءة فنية متفردة ومستحدثة في آن واحد، كما أنّها جعلت من الفن يحمل أبعادا تحويلية قادرة على إستعاب التطّور وفق مسار يجعل من الفنان ينتج تفاعلات لونية تتجلى عبر علاقات جمالية مفتوحة تظهر أثناء لقائها مع المشاهد. حيث أنّه أصبح اللّون يحمل خصوصيات تشكيلية تحوّلت بدورها بظواهر تجلب إنتباه المتقبّل عن غيرها من التّجارب والممارسات الأخرى في هذا الفن، وتكسبه حركيّة تجعله يعبر عن عدة جوانب رمزيّة وفنيّة تغادر الأشكال المصوّرة بدقّة إلى التّجريد الكامل، ولتكون رؤية فنية بحتة تعبّر عن فكر خالص يتلون ببعد جمالي تجريدي ويتشابك في حركة أفقيّة وعموديّة تنساب عبر خطوط متدرّجة من الأعلى إلى الأسفل، ولتبيّن الصراع الخطي و الحركة السريعة المتجلية في الألوان الناصعة لتعلن لنا إرادة التخلّص من جاذبية هذا العالم المادّي والبحث عن عالم جديد تكون للألوان فيه أولوية، وليذهب بنا نحو الإنفعال والتفاعل والبحث والتأمل وليتأصل العمل الفني بذلك ضمن مفاهيم جديدة للمارسة الفنية. حيث وجد “موندريان” طريقه في التّعبير عن حضور الألوان والأشكال التجريدية التي تستهوي المشاهد، وتبثّ فيه عدة قراءات ومفاهيم تتحوّل من ذلك الواقع المتجمّد إلى خيال مقروء، يحمل مضمونا رمزيا وخطابا إيقاعيا يتجلى في فضاءات تجريدية نلمسها من التمشّيات اللّونية التي إرتآها كتجسيد للحلم الأخر، ذلك الحلم الميتافيزيقي خصوصا وأن النفاذ إلى مابعد الأحمر والأزرق والأسود هو من قبيل المستحيل غير أن الإستحالة منعدمة طبعا في نظر الفنان ولعلّه مايفسّره الشكل والمضمون في هذه اللوحة التجريدية المصاحبة والتي تحمل عنوان “تركيبة أحمر،أصفر وأزرق” إذ قام بإنجازها سنة “1921”. “موندريان” تركيبةأحمر،أصفروأزرق” “1921” القياس: 39،5سم×35سم التقنية: زيت على قماش إن هذه الأشكال متساوية للتّكوين التجريدي للوحة فهي تحاول أن تعبر عن ذلك اللآمتناهي فكل جزء منها يقيم بشكل كامل على أنه مستقل بذاته، كما أنّه يمثّل إنعكاسا مصغرا للواقع الطبيعي الشاسع والذي لاينكشف إلا عندما تجتمع القطع بأكملها معا فقد حاول “موندريان” أن يخلق خطابا رمزي جمالي عبر الألوان، وليؤسس لعالم ذهني يدفعنا للخوض في أفكار تجريدية تتأسس عبر زمن متحرّر ومنفتح خصوصا وأن الألوان في رمزيتها الخاصّة تعبر عن حسّ الحياة لدى الفنان، وتربطنا بالبحث في ممارساته الفنّية التي تحمل في داخلها ضرب من ضروب التجريدية والتي تحضر تقريبا في أغلب أعماله. لقد مثلت هذه الرؤية منطلقا نلمس عبره الحوارية القائمة بين الأعمال الفنية والمواد التي يستعملها الفنان بإعتبار أنها تضطلع للتعبير عن ذاتيته وهما يكادان يكودان إثنان لابد منهما لإنجاز البحث الجمالي التشكيلي ، وليكون في ذلك الفكر سفير العملية الإبداعية عبر المكان والزمان لذلك كان من الضروري البحث في الزمكانية كمفهوم يعتمده الفنانون داخل الورشات التشكيلية ، وليمثل لحظة ولادة الحدث التجريدي ف“تجربة الزّمن في الرّسم تحسم في وقت ظهور التّجريد”[1] ، فالزّمن يمثّل لحظة تفاعل تولد داخل الفضاء وتعبّر عن رؤى إختزالية تبسيطية، وهذا ماحاول“موندريان” التّعبير عنه في مجموع الأعمال التي أنتجوها وليعبروا بذلك عن عالم مغاير لما عهدناه فالفنان يعبّر عما يختلج بداخله عبر إنشاء علاقات بين المواد والذات وبين الذات وذاتها ، ليشكل بذلك رؤية وليدة لعالم يسعى من خلاله إلى الإلتقاء بفنه نحو العالمية، وليكون اللّون مقصدا يبلغ به مطامح فكرة وهذا مانلمسه في تجربة هؤلاء الفنانين. ومجموع الأعمال الفنية تمثّل إعادة خلق العالم عبر حيز فضائي زماني ومكاني يحمل رؤية تصاغ بلغة بسيطة التركيب ومختزلة، وتعبّر عن هاجس يحمل أعباء أفكار الفنانين وفق رؤية دقيقة وواضحة للعيان، فهو يختزل الزمان ويحطّه وفق مسار إختصاري يرتقي عبره تكاملا وظيفيا يعبّر عن معاني ومفاهيم جديدة للواقع وللمنحى الفني، الذي يسعى إليه الفنان وتكون المادة التشكيلية أساس بناء هذه الأعمال، التي تحمل تجسيدا لتعبيرية تجريدية تتجاوز الواقع لتعبر عن الخيال ، وليكون بذلك الخطاب التشكيلي خطابا رمزيا يحمل تواصلا فضائيا مع الحقل الدلالي الذي يؤسسه المكان والفضاء ويخاطب الفكر ولعل، هذا مايؤكد عليه“أندريه لالاند” ف“الفضاء لايحيل إلى الجماد والأشياء المادية بل إلى الفعل والمعيش والتواصل والمعنى الذي يحثه بالمكان(…)وليس المكان في جملته وبصفته وسطا شيئا وإنما هو إحساس إبداع منظر الفكر”[2]، فالفضاء يمثل ظاهرة سسيولوجية تتحول فيه الأشياء برمتها إلى نظام من المعاني والإشارات معبرة عن مجال تواصل وحاضر يحمل علامات ورموز ومعاني وإشارات، تعبر عن طاقة الإبداع لدى الفنان وتنفتح على الأبعاد الثلاثية لتصبح الأشكال والصّور علامات لها معاني ودلالات عدة، ولعل هذا مانلمسه في الإبداع الإختزالي التبسيطي للأشكال في تجارب الفنانين التّجريدين، وخاصة منهم “موندريان” الذي إعتمد الزّمن في أعماله وجعله يختلط بالحاضر، ليصبح الزمن لابداية له ولانهاية، فهو زمن مفتوح تتمحور حوله حركة المادة في الزّمكان ولتتجلى للعيان عبر صورة تجريدية توحي برؤية خاصة للواقع الجمالي. ولتكون بذلك الرؤية الزّمانية والمكانية للفضاء تفتح أفاقا تتفاعل مع الأشكال التبسيطية الإختزالية ، وتتفاعل في عملية فنية تلتحم للفنان وتعبر“عن توثّب مستمر للزمن وحركة يمارسها الفنان”[3] وهذا ماتأكد مع أغلب الفنانين خاصة منهم “موندريان “. ولتتعدى بذلك العمليّة الفنّية أقصى حدودها ، ولتحتل الفضاء وتقيم فيه، فهي تتحرر من سجن التكرار لتصبح أكثر حيوية وكثافة لتغادر زمانية التسطيح ، وترتئي المنشود عبر البحث في الزمن المفتوح ضمن رؤية متجددة نلمسها في هذا المسار، حيث عرفت بتنظيمها وبقراءتها الأحادية لتجعلنا نكتشف أبعادا تشكيلية إختزالية تعرّفنا على مجموع التقنيات التي وظّفها الفنان للوصول إلى هذه المرحلة من الخلق والإبداع، و ليكون بذلك معبرا عن رؤية إختصارية إختزالية نلمسها بهذا العمل الفني الذي جعله الفنان كوسيلة ليكشف عن التوافق بين المادّة والشكل وعن الإختصار والإنسجام الزّماني والمكاني، فقد جزّأ الرؤية عن طريق تقسيمه للفضاء عبر الإنتفال من قطعة إلى أخرى وهكذا تبرز الأشكال كلعبة تشكيلية تتسم بالإبداع وتتجاوز كل ماهو روتيني ومستهلك، لتفتح فعل الإبداع على دلالات عميقة تتخطى الأفكار البسيطة وتبني رؤية هندسية لاتفتأ أن تتكرر. فتتجلى الفكرة في شكل راقي يرتقي بالتقنية والمفهوم من الفكرة إلى الحلم، وذلك لما تحمله في طياتها من تغييرات تشكيلية ومعاني فكرية تقدّم سياقه وتوافقه بين الشكل والفضاء والزمان والمكان عبر مسار اختزالي اختصاري يتزامن مع توزيع الألوان محدثا إيقاعا تشكيليا يتميز بحركة ترسلها عبر الخطوط وكأنها أوتارا موسيقية تظهر في شكل ألوان وأحجام وهيئات تشكل بدورها خصوصية العمل ، ولعل هذا مايظهر في لوحة “ بردواي بوجي ووجي” سنة1943 ل”موندريان”. “موندريان” بردواي بوجي ووجي(1943) القياس: 127سم×127سم التقنية: زيت على قماش حيث تمثّل هذه اللّوحة عدد من المربعات والمستطيلات مختلفة الاحجام والالوان والاوضاع ، كذلك تحتوي على نوعين من المحاور وهما المحور العمودي والمحور الافقي مكونة شبكة من المربعات والمستطيلات المتقاطعة التي تخلق علاقات خطية متناسبة ومتوافقة جماليا، أما الالوان فهي الالوان الأساسية(الاحمر ، الاصفر ، والازرق ) بالاضافة إلى حضور القيم الضّوئية، فعامل الزمن نجده حاضرا في هذه الّلّوحة بطريقة عمودية وأخرى أفقية ، فيظهر تكرار هذه الخطوط المتعامدة كنوع من الايقاع والتناغم في مانشاهد في مجال إدراك العمل الفني فيحقق بذلك “موندريان”علاقات شمولية ومتوازنة بشكل مثالي حينما يدمج ذلك التجريد الخطّي الهندسي في أبسط صورة مع أقصى درجات الإختزال حينما يستخدم الالوان الأولية ف“هذا الإيقاع الديناميكي الذي وضعه موندريان هو توسيع في اللون بطريقة متوازية في لوحة ” بردواي بوجي ووجي“ فقد تم إستبدال الحركة الخطية بإبراز إيقاع لوني شكلي”[1] والإيقاع بالنسبة ل“موندريان” يمثّل عامل من عوامل الزّمن، وذلك عن طريق الحركة والحركية ففي هذه اللوحة نجد نوعين من الايقاع إيقاع من خلال التكرار وإيقاع من خلال التنويع ، والأمر الذّي جعل “موندريان” ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى في أعماله هو خير دليل على حضور الزمن. فبالرغم إلى عدم إدراكنا في لمس عامل الزمن، إلا أننا ندركه بحاسّتنا عن طريق تفاعلنا بالفضاء الذي يحمل في طياته عنصر الزمن فيصبح المشاهد المتفاعل جزءا من اللّغة الفنية عندما يكتشف أسرارها عن طريق وعيه التّفاعلي. حيث يمثل الزمن عنصرا أساسيا في العمل التشكيلي، حيث أنه يكون حاضرا في الإبداع التشكيلي، وهو شاهد على عملية الخلق الفنّي خصوصا و أنه يتكون عبر بني و علاقات تكون حاضرة داخل المحمل و متمركزة في الفضاء يجسّدها الفنان ضمن أساليب و تقنيات متنوعة و مختلفة ، تكون وسيلته في ذلك المادة، ليتجاوز بذلك تلك الرّوتينية و السطحية التي تميز بعض الأعمال و يخلق عبر الزمن تسلسلا شكليا و فنيا يتحرك من خلاله ضمن بعد تناسقي إنسجامي ندركه عبر مشاهدة العمل و هذا ما نتأكد منه في تجربة “موندريان” الذي مثّل الزّمن بالنسبة إليه عنصرا أساسيا في أعماله، و ليصبح بذلك الزمن لحظة إنفتاح على عوالم أخرى و هذا ما يتأكد خاصة في القول التالي ” يتعلق البعد الزمني بثلاث حركات الأولى بالحياة و الثانية بالموت و الثالثة بما بعد الموت و مفهوم الزمن يفضي إلى الإنفتاح”[2]، ومن هنا نتبين أن الزمن يتميز بإنقسامه إلى أجزاء متنوعة لكن ما يهمنا في هذا البحث هو إنفتاحه على أفاق أخرى تساهم في إثراء العمل الفني ، و تجعله يحمل أبعادا دلالية و معاني تشكيلية و هذا ما لاحظنا حضوره في جل أعمالهمن خلال خلق تناسق بين الأشكال و الألوان و التي تمنحنا نوعا من حضور صور ذات زمن عمودي. و قد تناول العديد من المفكرين و الفلاسفة البحث في الزمن كعنصر أساسي يكون حاضرا في الأعمال الفنية لعل خير دليل على ذلك كتاب ” البحث في الزمن العمودي في الفن “ للفيلسوف “ميشال ريبون “ ، الذي أكّد على أهمية الزمن العمودي كعنصر يساهم في جعل العمل الفني متواصلا و متأصلا داخل المحمل، و يعبر عن فكر متعالي يخلق أبعادا جمالية و مثالية لا تفقد العمل الفني قيمته بل إنها تضفي عليه معالم تؤسس لمجال فني يكون هو المساهم في خلقها و إبداعها ف“الزمن نفسه إلتماس اللامتناهي يقف(…) و تبقى صورة اللامحدود , شكلا منعكسا على واقع متناهي”[3] يخلق بذلك رؤية لامتناهية للزّمن ليكون بذلك لحظة ولادة الإبداع، ليجعل الأعمال الفنية خالدة و متعالية لا تزول بنهاية أصحابها بل إنها تتواصل ضمن رؤية رمزية تشكيلية تجعل الرّمز الفني خالدا عبر تجربة الوجود التشكيلي وهو ما يتجسد في تجربة ” موندريان” ، ليكشف بذلك عن حرية الإبداع و الخلق المؤسس لعالم لانهائي ضمن عالم المعنى يحضر في أعمالهم عبر الألوان و الأشكال التبسيطية و الإختزالية . الباحثة تبر الطرش