باعتماده، منذ البداية، خطا خارجا عن هندسة الشكل النمطي المتداول، وفق تصور فني وجمالي أختار له موقعا بين الذوق المهموس واللون الفاقع بغرض تحقيق نظرة مغايرة للشكل حسب معمار جديد للجسد الإنساني في مختلف تجلياته و تنويعاته الإيقاعية.. أبان التشكيلي المغربي يوسف بلمهدي ( ومنذ البداية ) عن تملكه لأسلوب تجريدي مغاير يرتكز على خط في حالة انسياب مسترسل تملأه الحيوية والدينامية، معلنا بذلك تطلعه الرامي إلى السير بهذا المشرب التشكيلي إلى درجة أرقى بفضل التمكن والإبداعية الجريئة. أعلن يوسف بالمهدي، منذ البداية إذن، هجرته للصورة المعتادة والتخطيط الموروث لإضفاء أشكال جديدة على العلاقات الخالصة التي تحكم الهامش، بناء على عنصر العفوية التي تطبع الإنسانية، بناء على تصور الواقعية الذهنية، المادية وغير الفيزيقية الأكثر صلابة، وعلى أدق مفاهيم الفلسفة الوجودية، الأمر الذي يُجبر الفنان على التفكير والتأمل و، أيضا، على التطبيق الصارم للعناصر والأسس التقنية… كل ذلك، بغاية تحصيل سمات دالة على فارق مفهوم بُعد الفراغ. بعد ذلك، تأتي مرحلة النقل والتوزيع، اللذين يستغلان خط وفضاء ولون العناصر الرئيسية في قواعد التوازن، بحيث تتحول الوحدة الوظيفية إلى تصور، إلى مفهوم توازن المضاعفات البصرية تبعا لمسلسل اختزال يسعى دائما إلى إدماج الموضوع في التشكلات البناءة والمبنية… هكذا يُبين الفنان أنه لا شيء في الفن يُعيق القيمة الإبداعية لشكل ما لا يحصى وما لا ينضب، ويصبح اللون والمادة، بالتالي، مظهرا للحياة المختزلة من إطار المألوف والمُرحلة من نمطهما المعتاد إلى بُعد و أفق جديدين. باشر التشكيلي المغربي يوسف بالمهدي( من مواليد 1979 بمكناس) منعطفا جديدا بين التبات والحركة في أعماله التشكيلية، بين الألوان والأشكال، التي تتداخل، واللمسات المتسمة بالدقة وبالقوة كخاصية تقنية تميز لعبة الفنان المبدع؛ كما أننا نعيش مع يوسف بالمهدي لحظات تشكيلية تطبعها لمسة كاليغرافية إبداعية تغلف العمل ككل بصياغة تفصله عن المنهجيات الأخرى التي تؤثث فضاءات الأعمال التجريدية. يعمل يوسف بالمهدي على تطوير نمط آخر من التركيبات اللونية، التي اكتسبتها هندسة تالية ومحمودة بخصوص ألوانها. إنها تركيبة لونية لها أصداء أسلوبية موضوعاتية، تمهد لتجريدية في كامل الحركية حيث يبدو الخط عموديا كان، أو مائلا أو متشظيا، مستقلا أو منحنيا كمجموعة متوازيات، ما ييسر للفنان تحويل فضائه إلى ما يشبه توليفة موسيقية يدرج فيها أحيانا موتيفات تراثية كالحروفية، أو أشكالا مُشخصَنة مخففة إلى حد كبير، لا يدفعه إلى الإبقاء عليها سوى مظهرها المعماري. تضبط الألوان إيقاع حركية عامة، يتوقف الفنان عند تبايناتها حيث ينظم الأبيض النغمات المتعارضة، الصيرورة التركيبية التي تمنح، حين تكتمل، رؤية تُكافئ المنجز. بناء على ذلك، يتأثر يوسف بالمهدي كثيرا بالحركية المنبعثة من التركيب اللوني ومن الحوار المتكافئ مع الضوء. إنها حركية تتطلب إدراك الأشكال من خلال تحصينها بقوة وصفية. مع ذلك، يُخضع يوسف بالمهدي حركيته لإرادة محسوسة في طريقة توجيهه هندسيا للأشكال التي يستحضرها، لرغبة التوفق في عزيمة فرجوية على مستوى التركيب الذي يجد تفسيره في المستغرق الذي ألقى به منذ مدة على الحرف، لنقل على طريقة لتدوين و توظيف الجسد الحروفي، لاجتياح هذا السجل البليغ بواسطة اللون الذي يحدد موضوعه، بطريقة أخرى، محيلا إياه على مجال الكتابة المقدسة. إنها حروفية حاملة لقيم روحية وثيقة ومنفلتة ، فنيا، بقدرتها على تخفيف حدة التوتر، على تخفيف بهلوانياتها الكرافيكية، باتجاه الإدراك الدلالي المشترك. نقف إذن أمام حروف مُعبر عنها بمسطحات مضخمة متزامنة، لنغمة مغايرة ، يعبرها هنا وهناك شريط أبيض يخلق توازن إيقاع غير المقيد، إيقاع المنحنيات و المنحنيات المضادة، العلامات المنيرة حيث تتداخل أو تتنضد كما لو كانت نوتات خفيضة في حفل موسيقي. يخلق يوسف بالمهدي دائما تباين أشكاله كما لو كانت كتلة ثقيلة؛ إنه يُدونها داخل مربع أو مستطيل شفاف سيصبح هو النموذج حيث تمتزج حركيته المتعددة الاستعمالات. بذلك يُعبر العمل المنجز على كثافة عقدية ينبغي العمل تدريجيا على تحرير دعاماتها وتفاصيلها، لضمان تحصيل رؤية – لها تبعاتها – للعديد من الأوجه المتداخلة إلى ما لا نهاية…إننا أمام عمل مُلمّح نجح في أن يخلق لنفسه نحوا تشكيليا أصيلا، بفضل إلقاء طرفة عين تكاد تكون محجبة على التراث المعماري العربي – الإسلامي.